- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3353
الانقسامات في «إقليم كردستان العراق» تكلّف الولايات المتّحدة شريكاً موثوقاً به
في 19 تمّوز/يوليو، علّق «الاتحاد الوطني الكردستاني» مشاركته في البرلمان الكردي العراقي، مما أدّى إلى تعطيله فعلياً. وتُعد هذه الانتكاسة أحدث مثال على محاولات القادة المحليّين تسجيل نقاط سياسيّة في الوقت الذي يرزخ فيه «إقليم كردستان العراق» تحت الصدمات المتتالية للأزمة الماليّة، ووباء فيروس كورونا، والغارات العسكريّة من قبل إيران وتركيا. وكان «إقليم كردستان العراق» شريكاً موثوقاً به في تعزيز سياسة الولايات المتّحدة في العراق ومحاربة الإرهاب على مدى ثلاثة عقود، ولا تزال قوّات البيشمركة التابعة له جهة فاعلة في الحملة لإحباط عودة تنظيم «الدولة الإسلامية». ومع ذلك، فإن الخلاف العميق الحالي بين الفصائل السياسيّة الرئيسية في المنطقة فقد قلّل من أهمّية «إقليم كردستان العراق» كشريك لواشنطن، وحوّل العلاقات الثنائيّة إلى تعاملية على نحو متزايد، وقلّص النفوذ الكردي في بغداد.
عاصفة كاملة من الأزمات
انتشر وباء فيروس كورونا ("كوفيد-19") عبر «كردستان العراق»، وسُجّلت أكثر من 11,000 إصابة و419 حالة وفاة مؤكّدة. واندلعت حملات مقاطعة متفرّقة من قبل الأطباء والشرطة، ويمكن أن تتفاقم الشكاوى العامّة المتزايدة لتصبح احتجاجات واسعة النطاق.
وتثقّل الحالة الماليّة البائسة لـ «إقليم كردستان العراق» بشدّة كاهل [الرد على] هذه المشكلات. فبسبب سياسات المحسوبيّة والقطاع الخاص غير المتطوّر، يجري إنفاق 80 في المائة من الميزانية التشغيليّة السنويّة لـ «إقليم كردستان» البالغة 950 مليون دولار على 1.25 مليون شخص الذين يشكّلون القوّة العاملة المتضخّمة في القطاع العام أو يتقاضون معاشات تقاعديّة. وكما هو الحال في بغداد، يعتمد مصدر دخل أربيل بشدّة على صادرات النفط التي أصبحت قيمتها منخفضة بشكل كبير بسبب الصدمة المزدوجة التي حلّت بالعرض والطلب العالميّيْن. ففي نيسان/أبريل، لم يتدفّق سوى 30 مليون دولار من عائدات النفط إلى خزائن «إقليم كردستان العراق»، وفقاً لخطاب لرئيس الوزراء مسرور بارزاني أُذيع عبر التلفزيون. ونتيجةً لذلك، صرفت حكومة «الإقليم» ثلاث دورات فقط من مدفوعات الرواتب هذا العام، اثنتان منها رواتب متأخّرة تعود لعام 2019. ومما زاد الطين بلّة هو انهيار صفقة الميزانيّة مع بغداد مؤخّراً، مما وضع حدّاً للتحويلات الشهريّة المنتظمة إلى «إقليم كردستان العراق» وأدّى إلى وقف الاستثمار بشكل أساسي في البنية التحتيّة والخدمات المحليّة.
وكأن هذه الأزمات لم تكن كافية، فقد اختارت تركيا وإيران هذا الوقت لشنّ حملات عسكريّة داخل «إقليم كردستان العراق». وابتداءً من منتصف حزيران/يونيو، شنت القوّات التركية [غارات جوية على مواقع] «حزب العمال الكردستاني»، وهو جماعة تركيّة مُدرجة على قائمة الإرهاب [الأمريكية]، بينما استهدفت طهران «الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني» المعارض.
استجابة معيبة لـ «إقليم كردستان العراق»
في السابق، كانت مثل هذه العاصفة المثالية قد عملت على تركيز عقول القادة السياسيّين في كردستان وإظهار رد موحَّد. ومع ذلك، لجأ «الاتحاد الوطني الكردستاني» ومنافسه الرئيسي «الحزب الديمقراطي الكردستاني»، حتّى الآن إلى تبادل اللوم الذي لن يؤدي سوى إلى نتائج عكسيّة. وقد مرّت ثمانية أشهر طويلة لم يلتق خلالها قادتهم، مفضّلين انتقاد بعضهم البعض خلال البرامج الحواريّة وعلى وسائل التواصل الاجتماعي. كما أعاد المجلس المحلي في السليمانية بزعامة «الاتحاد الوطني الكردستاني» إحياء اقتراح قديم لتطبيق اللامركزيّة، والذي يعتبره «الحزب الديمقراطي الكردستاني» خدعة لتفكيك «إقليم كردستان العراق». وفي نيسان/أبريل، تواجهت قوّات البيشمركة المتنافسة التابعة لهما في منطقة "زيني وارتي"، مما أعاد إحياء المخاوف التي ابتلي بها الأكراد العراقيّين من خلال قتل الأخ لأخيه كما حدث في منتصف التسعينات، وما نتج عن ذلك من انخراط الجيوش الإقليميّة في حربهم الأهليّة، وتقسيم أراضيهم في النهاية إلى منطقتَين ذات نفوذ حزبي/عائلي.
والأسوأ من كلّ ذلك قيام الحزبين بتسييس الرد على الوباء. فقد ألقت بعض شخصيّات «الحزب الديمقراطي الكردستاني» اللوم في ارتفاع حالات المرض المحليّة على قرار «الاتحاد الوطني الكردستاني» بفتح حدوده مع إيران، متّهمة الأخير بمحاولة حرمان الحكومة برئاسة بارزاني من القضاء [على الجائحة]. وفي المقابل، اتّهم «الاتحاد الوطني الكردستاني» «الحزب الديمقراطي الكردستاني» بتخزين الإمدادات الطبيّة ومعدّات الاختبار لمؤّيديه.
ويزيد الانشقاق داخل كلّ حزب من الشعور بالفوضى السياسيّة. فعندما جرى تخفيض رواتب العاملين في القطاع العام في حزيران/يونيو كجزء من إجراءات التقشّف المالي، شهدت صفوف «الاتحاد الوطني الكردستاني» انقساماً حول ما إذا كانت ستدعم هذه الخطوة أو ترفضها. ويبرز صراع على السلطة داخل عائلة بارزاني في «الحزب الديمقراطي الكردستاني»، حيث يتّهم فريق رئيس الوزراء الجديد سلفه وابن عمه نيجيرفان بارزاني (الذي هو حالياً رئيس «إقليم كردستان العراق») بسوء إدارة قطاع النفط والثروة في المنطقة. وتشكّل الحزبية الضرر الأكبر في صفوف البيشمركة، حيث يمكن للولاءات الشخصيّة لقادة الوحدات أن تولّد أمراء الحرب.
وباختصار، يدمّر الطرفان الاعتقاد الراسخ بأن السياسة الكرديّة العراقيّة والحوكمة أفضل من اللعبة المروّعة التي تم الانخراط فيها في بغداد. فمنذ بعض الوقت، تحوّل ميزان القوى السياسيّة لصالح «الحزب الديمقراطي الكردستاني»، الذي يسيطر على صناعة النفط ولديه خمسة وأربعون عضواً في برلمان «إقليم كردستان العراق» مقارنةً بواحد وعشرين عضواً لـ «الاتحاد الوطني الكردستاني». لكنّ هذا التحوّل لم يكن يعنِ الكثير على أرض الواقع لأنّ أراضي المنطقة وقوّات الأمن وتدفّقات الإيرادات لا تزال مقسّمة إلى منطقتَي نفوذ غير رسميّتَين. ويريد «الحزب الديمقراطي الكردستاني» أن يجعل «الاتحاد الوطني الكردستاني» شريكاً صغيراً، لكنّ هذا الأخير يصرّ على البقاء متساوياً.
بالإضافة إلى ذلك، لا يظهر الطرفان الكثير من التسامح إزاء المعارضة السياسيّة، ويتخذان إجراءات قانونيّة وأمنيّة ضد الأصوات المعارضة على حساب المعايير الديمقراطيّة والإصلاحات. وعلى عكس السيطرة التشريعيّة الكاملة التي تمتّعا بها منذ عقود، يشكّل «الحزب الديمقراطي الكردستاني» و«الاتحاد الوطني الكردستاني» حالياً 60 في المائة فقط من برلمان «إقليم كردستان العراق»، ومع ذلك استخدما نفوذهما العسكري والاقتصادي الغالب لإرغام الأطراف الأخرى واستمالتها. كما يرفض الطرفان تسليم السيطرة على قوّات الأمن التابعة لهما إلى حكومة «إقليم كردستان العراق» - وهو موقف إشكالي للغاية دفع الميليشيات في أجزاء أخرى من العراق إلى الاستشهاد بالبيشمركة كنموذج لتحزّبهم الخاص واستهجانهم للسلطة الوطنيّة.
التداعيات على السياسة الأمريكية
تسبّب تركيز واشنطن المشدد على مكافحة الإرهاب منذ عام 2001 في إهدارها فرص لرعاية «إقليم كردستان العراق» كشريك موثوق به على المدى الطويل. وبصرف النظر عن الإقطاعِيّيْن الحزبيَّين اللذين يتوليان مهام الحوكمة في أربيل، ساهم المسؤولون الأمريكيّون بشكل مباشر في إضفاء الطابع المؤسّسي على الأمن القائم على الحزب من خلال إنشاء برامج تدريب وتجهيز مستقلة لبيشمركة «الحزب الديمقراطي الكردستاني» و «الاتحاد الوطني الكردستاني». ومن وجهة نظر واشنطن، كانت هذه المقاربة ضرورية نظراً للاحتياجات العاجلة لمحاربة تنظيمَي «القاعدة» و«الدولة الإسلامية»، إلّا أنّ بعض العواقب البعيدة المدى كانت ضارة.
وقد أساء قادة «إقليم كردستان العراق» أيضاً تفسير الدعم العسكري الأمريكي في الحرب ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» باعتباره إيماءة سياسيّة للمضي قدماً في استفتائهم الكارثي على الاستقلال في عام 2017. وفي أعقاب ذلك، تردّد أنّ بعض المسؤولين الأكراد أصيبوا بخيبة أمل من واشنطن بسبب عدم اتخاذها أي خطوة بينما كان الجنرال الإيراني الراحل قاسم سليماني يقود قوّات الجيش العراقي والميليشيات ضدّ وحدات البيشمركة في كركوك ونينوى. كما بدأوا في إظهار ميل سياسي خفي تجاه طهران.
على سبيل المثال، على الرغم من عملهما تجاه أهداف مضادة بشأن العديد من القضايا، إلّا أن كلّاً من «الحزب الديمقراطي الكردستاني» و«الاتحاد الوطني الكردستاني» تعاون مع «كتلة فتح» [النيابية] القريبة من إيران خلال عمليّة تشكيل الحكومة التي أعقبت انتخابات مجلس النواب لعام 2018. وفي وقت سابق من هذا العام، كانا من بين الأحزاب الأخيرة التي سحبت دعمها لرئيس الوزراء عادل عبد المهدي قبل أن يضطر إلى الاستقالة بسبب الاحتجاجات الجماهيريّة. وعندما دعت الفصائل الموالية لإيران إلى عقد جلسة لمجلس النواب في 5 كانون الثاني/يناير بهدف إخراج القوّات الأمريكيّة من العراق، اقتنع المشرّعون الأكراد بمقاطعة الجلسة بدلاً من الوقوف بحزم إلى جانب واشنطن والإدلاء بصوت معارض. (ويتساءل المرء كيف شعر أولئك المشرعين بعد ذلك بثلاثة أيام، عندما أطلقت إيران صواريخ على قاعدة عسكرية في أربيل كجزء من انتقامها على قيام الولايات المتحدة بالقتل المستهدف لسليماني.)
وتتمثّل الخطوة الأولى في معالجة عدد من هذه المشاكل في فرض شروط على التمويل الذي تقدّمه الولايات المتّحدة للبيشمركة. وتدفع واشنطن حالياً 17 مليون دولار شهرياً لتغطية الرواتب الرسميّة لقوات البيشمركة، وهو أمر بالغ الأهميّة للحفاظ على الضغط على تنظيم «الدولة الإسلامية». وفي المرحلة القادمة، يجب على المسؤولين الأمريكيّين أن يطالبوا «إقليم كردستان العراق» بتنفيذ إصلاحات أمنيّة لكي يستمرّوا في الحصول على هذه الأموال، بهدف فصل البيشمركة عن سيطرة أي حزب ووضعها في نهاية المطاف تحت السيطرة المدنيّة لـ «إقليم كردستان العراق».
ومع ذلك، لا يكمن الخطر الأكبر في النزاع بين البيشمركة، بل في الأزمة الاقتصاديّة. وعلى هذا الصعيد، يجب على الولايات المتّحدة استخدام عمليّة الحوار الاستراتيجي الجديد لتوفير الدعم التقني والمالي لبغداد وأربيل، مع الضغط عليهما بشكل مكثّف للتوصّل إلى شروط بشأن الطاقة وتقاسم العائدات. ويحتاج «إقليم كردستان العراق» بشدّة إلى دعم الميزانيّة من بغداد، أو على الأقلّ منحه حصة من أي قروض خارجيّة قد تحصل عليها [الحكومة العراقية].
وتحتاج السلطات الكرديّة والوطنيّة أيضاً إلى التنسيق بشكل أوثق بشأن التعامل مع وباء "كوفيد-19"، ومنع الغارات التركيّة والإيرانيّة عبر الحدود، والقيام بعمليّات استخباراتيّة وأمنيّة ضدّ عناصر تنظيم «الدولة الإسلامية» في الأراضي المحرّرة. بالإضافة إلى ذلك، يجب على أربيل أن تمنح الدعم السياسي لجهود رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي لكبح جماح الميليشيات.
إلّا أن بعض "الحب القاسي" هو أمر واجب أيضاً. يجب على واشنطن أن تُخبر قادة «إقليم كردستان العراق» بشكل خاص بل بحزم أنّها بحاجة إلى مواجهة تحديات الحوكمة التي تواجهها. ويشبه الوضع السياسي الحالي بشكل مثير للقلق ذلك الذي كان عليه في عام 2014، أي مباشرة قبل اندلاع الأزمة الوطنيّة التي أطلقها تنظيم «الدولة الإسلامية». ومع ذلك، لن تأتي هذه المرّة خطّة إنقاذ دوليّة على النحو الذي يرغب فيه «إقليم كردستان العراق» بالنظر إلى النطاق العالمي للوباء وتداعياته الاقتصاديّة ذات الصلة. أخيراً، مع تزايد احتماليّة احتجاجات الجمهور الكردي، يجب على قادة «إقليم كردستان العراق» الانتباه إلى التحذير الذي أطلقته احتجاجات العراق والاضطرابات السياسيّة الناتجة عنها. ولا يزال بإمكان واشنطن الاستفادة من علاقات متينة دامت ثلاثة عقود من خلال دفع شريكها نحو الأمن، والحوكمة، والإصلاحات الاقتصاديّة، ولكن لا يمكن إنقاذ «إقليم كردستان العراق» من محنته الحالية إلّا من خلال وجود قيادة كردية موحدة.
بلال وهاب هو "زميل واغنر" في معهد واشنطن.