- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3229
الخطوات اللبنانية الأخيرة تُظهر فعالية الضغط الدولي الهادف
منذ استقالة رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري في تشرين الأول/أكتوبر، أصبحت عملية تشكيل حكومة لبنانية جديدة أكثر تعقيداً. فالاحتجاجات مستمرة في شوارع لبنان وسط تزايد أعمال العنف من قبل المؤسسات الأمنية، في حين لا يزال الطرف السياسي المهيمن في البلاد - أي تنظيم «حزب الله» المصنّف على الكثير من لوائح الإرهاب في العالم - مصرّاً على حكومة يرأسها الحريري ومواتية لمصالحه. ولكن ثلاثة أحداث مهمة وقعت الأسبوع الماضي كفيلة بتغيير هذه الخطة وكسر الجمود الحاصل.
الحدث الأول هو اجتماع "المجموعة الدولية لدعم لبنان"، في باريس، التي شاركت في رئاستها فرنسا والأمم المتحدة، وإعلانها صراحةً أن المجتمع الدولي لن يساعد لبنان مالياً إلا عندما يتم تشكيل حكومة جديدة - وتحديداً حكومة "تتحلى بالقدرة والمصداقية اللازمتين لتنفيذ حزمة السياسات الأساسية الضرورية من الإصلاحات الاقتصادية، وسيكون ذلك ملتزماً بفصل البلاد عن التوترات والأزمات الإقليمية". ورغم أن المجموعة لم تأتِ على ذكر الشخص الذي يجب - أو لا يجب - أن يرأس هذه الحكومة، إلّا أن الإجماع على الإصلاح كان واضحاً. وكان المجتمع الدولي قد تعهد بالفعل بمساعدة لبنان في مؤتمر "سيدر" في نيسان/أبريل 2018 بشرط إجراء إصلاحات لم تتحقق أبداً. وهذا هو السبب في أن خطة إنقاذ بسيطة لن تحدث إلى أن تُشكَّل حكومة ذات مصداقية.
الحدث الثاني هز فرض وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على ثلاثة أشخاص إضافيين من مموّلي «حزب الله»، هم: ناظم سعيد أحمد وشركاته، وهو مقيم في لبنان ومتّهم بتبييض مبالغ طائلة لصالح «حزب الله»، وصالح عاصي المقيم في الكونغو والمتّهم بتبييض الأموال عبر شركة أحمد لتجارة الألماس وبمساندة مموّل آخر خاضع للعقوبات، بالإضافة إلى المحاسب طوني صعب المقيم في لبنان والمتهم بتوفير الدعم لعاصي. وجدير بالذكر أن صعب مسيحي كان قد أخبر وسائل الإعلام اللبنانية مؤخراً أنه مُعجب بوزير الخارجية جبران باسيل، زعيم "التيار الوطني الحر"، الذي هو حزب الأغلبية المسيحية المتحالف مع «حزب الله».
أما الحدث الثالث فهو إعلان نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكية للشؤون السياسية ديفيد هيل أنه سيزور لبنان هذا الأسبوع، وهي الزيارة الأعلى مستوى من الجانب الأمريكي منذ اندلاع الاحتجاجات في 17 تشرين الأول/أكتوبر وإجبار الحكومة على الاستقالة.
لقد دفعت هذه التطورات بالطبقة السياسية في لبنان إلى إدراك عدة أمور مهمّة قد تغيّر تصرفاتها في المرحلة المقبلة.
· أعرب المجتمع الدولي بحزمٍ عن وقوفه إلى جانب المحتجين، ولن يقدّم مساعدة مالية إذا رفضت الدولة القيام بالإصلاحات.
· من الممكن أن تتّسع دائرة العقوبات الأمريكية لتشمل حلفاء «حزب الله» المسيحيين، وهو احتمال أكّده مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر في مقابلات أجراها في الأسبوع الماضي مع "العربية" و "النهار".
· لن تؤيد الولايات المتحدة وجود وزير الخارجية جبران باسيل في أي منصب في حكومة جديدة - وهذه رسالة وُجّهت بوضوح إلى كل من الوزير باسيل و«حزب الله» عندما أشار هيل إلى أنه سيلتقي بمعظم أصحاب القرار في لبنان باستثناء الوزير باسيل.
مسألة الحريري
على الرغم من أن الرفض الدولي لوجود باسيل في الحكومة المقبلة أصبح واضحاً الآن للمسؤولين اللبنانيين، إلا أنهم ما زالوا غير متأكدين من وضع الحريري. فخلال المفاوضات التي أجراها الحريري لتسميته خلفاً لنفسه على رئاسة الوزراء، أصرّ على كونه الوحيد القادر على إنقاذ الاقتصاد من الانهيار. كما وعد اثنين من المعارضين الرئيسيين لـ «حزب الله» - الحزب المسيحي "القوات اللبنانية" وزعيم الدروز وليد جنبلاط - بأنه سيشكل حكومة تتألف حصرياً من التكنوقراط المستقلين.
بيد، تأتي هذه الصيغة مع العديد من المضاعفات. أولاً، قد لا يكون موقف المجتمع الدولي موحداً حول دعم ترشيح الحريري نظراً إلى انصياعه المتكرر لـ «حزب الله».
ثانياً، لا يزال الحراك الشعبي يرفض قبول الحريري كرئيس للوزراء ويَعِد بمواصلة التظاهر، حتى لو كان ذلك يعني الإطاحة بالحكومة المقبلة. وقد أثبت المتظاهرون مرونة في مواجهة الأعمال الانتقامية العنيفة التي تقوم بها "قوات الأمن الداخلي" وبلطجية «حزب الله»، ومن المتوقع أن يزداد عددهم مع تدهور الاقتصاد.
ثالثاً، رفض كلا الحزبين المسيحيين الرئيسيين ترشيح الحريري، مما زاد من تأخير المفاوضات. وفي 16 كانون الأول/ديسمبر، صرّحت "القوات اللبنانية" بأنها لن تسمّيه كمرشح لها، وصرّح باسيل الأمر نفسه الأسبوع الماضي عندما أعلن أنه لن ينضم إلى الحكومة المقبلة.
رابعاً، يبدو أن قادة «حزب الله» يفضّلون ترشيح الحريري لاعتقادهم أنهم يستطيعون استخدامه للحصول على تغطية دولية وأنه سيبقى في الوقت نفسه ضعيفاً أمام ضغط الحزب وحلفائه. ووفقاً لذلك، لن يتمكن الحريري من الوفاء بتعهده بتشكيل حكومة مستقلة تكنوقراطية بالكامل، كما أوضح زعيم «حزب الله» حسن نصر الله في خطاب ألقاه في 13 كانون الأول/ديسمبر.
معضلة «حزب الله»
إن قرار باسيل بالانسحاب من الحكومة القادمة جاء نتيجة لقاءات جمعته مؤخراً بمسؤول وحدة الارتباط والتنسيق في «حزب الله» وفيق صفا ومسؤولين آخرين، الذين دفعوه في هذا الاتجاه. وقد أدرك باسيل على ما يبدو أنه أصبح عبئاً، وأنّ الحريري أصبح أكثر أهميةً منه بالنسبة للحزب.
ولكن مما لا شك فيه أن «حزب الله» تعامل بحذر شديد مع هذا القرار. فالتخلي عن باسيل سيعزل الحزب عن المجتمع المسيحي - وهذا تنازل كبير يجسد مقدار الضغط الهائل الذي يرزح تحته الحزب، ويكشف إمكانية اضطراره إلى تقديم المزيد من التنازلات. وبالفعل، فإن التحديات الداخلية والإقليمية التي يواجهها «حزب الله» مهولة، على النحو التالي:
· أدّت العقوبات الأمريكية المستمرة على الراعي الأكبر لـ «حزب الله»، أي إيران، إلى تفاقم الأزمة المالية الخاصة بالحزب.
· الدولة اللبنانية على شفير الانهيار الاقتصادي والإفلاس المحتمل، مما يحول دون استفادة «حزب الله» بالكامل من هذا المورد البديل.
· تُشكل الاحتجاجات الأخيرة في العراق تحدياً لإيران ووكلائها المحليين هناك، مما قد يؤثر على «حزب الله» في نهاية المطاف.
· أدّى العنف الذي مارسه الحزب ضد المتظاهرين، وإصراره على حماية السياسيين الفاسدين إلى فقدان الكثير من المواطنين إيمانهم بدوره المفترض كمدافع عن لبنان وعدو الظلم. وحتى المواطنين الشيعة ينضمون إلى بقية سكان البلاد في احتجاجات جماهيرية، مما يهدد قدرة الحزب على الفوز بمقاعد في البرلمان والوصول إلى مؤسسات الدولة.
· يدرك «حزب الله» أن هذه التحديات ستزداد صعوبةً إذا استمرت الاحتجاجات، لذا قرر البدء بتقديم تنازلات (ولكن بأقل درجة ممكنة) عوضاً عن فقدان السلطة بشكل لا إرادي. وبهذا المعنى، فإن إبعاد باسيل يُظهر أن الضغط المتّسق والموحّد داخل البلاد وخارجها يمكن أن يؤدي إلى تحوّلات كبيرة.
توصيات في مجال السياسة العامة
من المتوقع أن يتدهور الوضع الاقتصادي في لبنان، لذلك ربما كان اجتماع باريس الأسبوع الماضي هو الأول من بين اجتماعات عديدة. وأصبح من الواضح أيضاً أن الحريري لا يستطيع ترؤس الحكومة المقبلة. وحتى لو تمكّن من الحصول على أصوات مسيحية لترشيحه، فسيكون قادراً فقط على تشكيل حكومة تحظى بمباركة «حزب الله» - وبالتالي سيفشل في كسب ثقة الشارع أو المجتمع الدولي.
ويشار إلى أن المتظاهرين والكتل النيابية المعارضة يطرحون بعض الأسماء البديلة، أمثال سفير لبنان السابق لدى الأمم المتحدة نواف سلام الذي يشغل حالياً منصب قاضٍ في "محكمة العدل الدولية"، بالإضافة إلى مرشح آخر هو الخبير الاقتصادي في "صندوق النقد الدولي" راند غياض.
وهنا أيضاً يفضّل «حزب الله» الحريري على هؤلاء البدائل وغيرها. ولكن إذا أعلنت الولايات المتحدة وأوروبا بوضوح عن عدم قبولهما به، فقد يدرس الحزب إمكانية القيام بتنازل آخر بدلاً من المخاطرة بإفلاس لبنان بالكامل، بما يترتب عن ذلك من خسارة نفوذه على مؤسسات الدولة.
وبالتالي، يجدر بواشنطن الاستعداد لفرض عقوبات على المزيد من حلفاء «حزب الله» والسياسيين الفاسدين. إنّ مفاتيح التغيير الحقيقي في لبنان، من حيث الموافقة على الحكومة المقبلة وإجراء انتخابات برلمانية مبكرة بناءً على قانون انتخابي جديد، متواجدة في الوقت الحالي بين أيدي رئيس الجهورية ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري. ومع ذلك، فإنهما لا يتعرضان لضغوط كافية لتغيير سلوكهما أو التخلي عن السلطة - بل على العكس من ذلك، يستخدم بري مؤيديه لقمع المتظاهرين دون تحمّل أي عواقب. وحالياً هو الوقت المثالي لفرض عقوبات على حزبه، «أمل»، فضلاً عن فرضها على الأعضاء ورجال الأعمال المرتبطين بـ "التيار الوطني الحر" [برئاسة] باسيل.
وفي الوقت نفسه، يجب على واشنطن مواصلة الضغط على الجيش اللبناني لحماية المتظاهرين وطرد جميع الوحدات والعناصر الذين يرتكبون المخالفات ضدهم. وتتمتع أوروبا أيضاً، وخاصة فرنسا، بنفوذٍ هام في هذا المجال. فوحدات قوى الأمن الداخلي التي تعتدي على المتظاهرين في وسط بيروت لطالما تلقّت تدريبات ومعدات من دول أوروبية - بما في ذلك القنابل المسيلة للدموع الفرنسية الصنع نفسها التي استُخدمت ضد المتظاهرين. يتعيّن على باريس وعواصم أخرى أن توضّح بأن معدّاتها يجب ألّا تُستخدم ضد المتظاهرين المسالمين.
وأخيراً، يحتفظ العديد من السياسيين اللبنانيين بجنسية مزدوجة وحسابات مصرفيّة في أوروبا، مما يجعلهم عرضة للتحذيرات من إمكانية استهداف مصالحهم الشخصية. وبدون التهديد بمثل هذه العواقب الشخصية، فلن تقوم الطبقة السياسية الحالية بتسليم السلطة.
حنين غدار هي زميلة زائرة في زمالة "فريدمان" في "برنامج غيدولد للسياسة العربية" في معهد واشنطن.