
- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 4010
إعادة التوطين الطوعي للاجئين: خيار عملي لتوحيد الرؤى في إعادة إعمار غزة

قد يؤدي التركيز على هذا المفهوم في خطط ما بعد الحرب إلى نزوح 40 في المئة أو أكثر من سكان غزة طوعًا - وهو احتمال يجب أن يُحفز القادة الأمريكيين والعرب على تنسيق مقترحاتهم المختلفة وتسريع استعداداتهم لإعادة الإعمار.
عندما أعلن الرئيس ترامب عن اقتراحه المثير للجدل بشأن نقل الفلسطينيين مؤقنًا بينما يتم تأمين غزة من المخاطر وإعادة إعمارها، وضع مصير سكان القطاع البالغ عددهم نحو مليوني نسمة والذين يعانون ويلات الحرب على رأس أولويات الشرق الأوسط للمرة الأولى في الذاكرة الحديثة. وعلى إثر ذلك، اجتمع القادة العرب في القاهرة هذا الأسبوع حيث أيدوا اقتراحًا مضادًا لبدء إعادة الإعمار دون نقل الفلسطينيين إلى خارج القطاع.
ولكلتا الفكرتين عيوبهما - فالخطة العربية ستُبقي سكان غزة في القطاع، حتى لو رغب العديد منهم في المغادرة (انظر أدناه)؛ أما اقتراح ترامب الأولي فيبدو أنه يتصور إجبارهم على الخروج قسرًا، سواء طيلة مدة إعادة الإعمار المقدرة بعشر سنوات أو بشكل دائم. ولا توفر أي من الفكرتين إجابات واضحة حول كيفية الانتقال من الوضع الحالي -وهو وقف لإطلاق نار هش ومعرض لخطر الانهيار وتجدد الحرب- إلى غزة ما بعد الصراع، خالية من "حماس" ومستعدة لإعادة الإعمار. ومن اللافت أن الخطة العربية تغفل بشكل مذهل ذكر "حماس". ومع ذلك، فإن كلا المقترحين يتسمان بشمولية وجرأة تفوقان أي جهد سابق لمعالجة الدمار الذي خلفته الحرب.
وفي الوقت الراهن، ستتوقف احتمالات الانتقال إلى مرحلة إعادة الإعمار على المناقشات الجارية حول المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار بين "حماس" وإسرائيل. وقد أثارت الطبيعة غير المستقرة لهذه المحادثات حتى الآن، إلى جانب تواصل استفزازات "حماس" بشأن قضية الرهائن، مخاوف من احتمال عودة إسرائيل إلى حرب شاملة- وهذه المرة بهدف إنهاء سيطرة الحركة بشكل كامل بدلاً من مجرد إضعاف قدراتها العسكرية. ولكن في كلتا الحالتين، سيكون على القادة في نهاية المطاف التوفيق بين الرؤيتين المتعارضتين، الأمريكية والعربية، بشأن "إعادة الإعمار في الموقع" مقابل إعادة الإعمار القائم على إعادة التوطين.
التركيز على اللاجئين
للوهلة الأولى، قد تبدو الاختلافات بين هاتين المقاربتين غير قابلة للتوفيق -على الأقل إلا إذا تذكر المرء جانبًا غير عادي من التركيبة السكانية في غزة التي يغفلها كلا الاقتراحين، وهو حقيقة أن 75 في المائة من السكان مسجلون رسميًا لدى وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) باعتبارهم "لاجئين فلسطينيين" نزحوا من مناطق أخرى بسبب حرب 1947-1949 (أو على الأرجح في هذه المرحلة، هم من نسل هؤلاء اللاجئين) .وبعبارة أخرى، فإن ثلاثة أرباع سكان غزة يصرحون علنًا بـأنهم لا يملكون أي ارتباطات قانونية أو وطنية بالقطاع نفسه، وأنهم قبلوا مزايا اللاجئين التي تقدمها الأمم المتحدة ريثما يتم التوصل إلى حل نهائي للصراع الإسرائيلي الفلسطيني .والأهم من ذلك، لا ينبغي الخلط بين وضع اللاجئين التاريخي هذا وبين وضع سكان غزة الذين قد يبحثون عن ملاذ آمن من الحرب الحالية على المدى القريب.
لطالما اعتُبرت الحكمة التقليدية أن مشكلة اللاجئين لا يمكن حلها إلا في سياق إنشاء دولة فلسطينية. لكن إقامة الدولة كانت بالفعل احتمالاً بعيد المنال قبل هجوم "حماس" على إسرائيل في 7 تشرين الأول/أكتوبر؛ أما اليوم، فقد أصبحت حتى مناقشة مسار محتمل نحو إقامة الدولة مسألة متنازع عليها بشدة. إن انتظار الدبلوماسية حتى تتكيف مع الواقع الإنساني في غزة لا يشكل مبررًا مقبولًا لتأخير الاستجابة لمعاناة السكان المحليين.
وبالتالي، فإن تسليط الضوء على عامل اللاجئين قد يوفر وسيلة للتقريب بين المقترحات العربية ومقترحات ترامب. ففي نهاية المطاف، لا يمكن للبيت الأبيض ولا للحكومات العربية أن تتصور واقعيًا وجود مبادرتين بمليارات الدولارات لمعالجة المشاكل في غزة - الأولى الآن، لإصلاح الأضرار الناجمة عن الحرب الأخيرة، والثانية في المستقبل، عندما تكون سياسات عملية السلام مهيأة لحل قضية اللاجئين. وعلى العكس من ذلك، فإن عملية إعادة الإعمار بعد الحرب هي اللحظة الأكثر منطقية وملائمة لمعالجة جميع مشاكل غزة الرئيسية، لذلك يجب أن يحظى وضع اللاجئين بالأولوية.
وبطبيعة الحال، لا ينبغي أن يُستخدم التركيز على اللاجئين الآن كذريعة لنفي الهوية الوطنية الفلسطينية، أو لتجاهل نزاعهم التاريخي مع إسرائيل بشأن التصرف في الأراضي المحتلة منذ عام 1967، أو لإغفال المطالب الفلسطينية المشروعة بتحقيق تقرير المصير. وبالمثل، فإن تسليط الضوء على قضية اللاجئين لا يعنى دعوة لإصلاح المشاكل العديدة التي تعاني منها الأونروا، على الرغم من أن ذلك سيكون مفيدًا. بل هو في الواقع نداء بسيط للغاية للأطراف المعنية للاعتراف بأن هناك ما يكفي من الاهتمام والزخم والموارد المالية لمعالجة قضية لاجئي غزة الآن، في سياق إعادة الإعمار بعد الحرب.
الخطوط العريضة لمقاربة إعادة التوطين الطوعي
كانت المرة الأخيرة التي نوقشت فيها قضية اللاجئين الفلسطينيين بأي قدر من الجدية قبل خمسة وعشرين عامًا، عندما كان عدد اللاجئين المسجلين في غزة أقل من 600 ألف لاجئ. وفي ديسمبر/كانون الأول 2000، بعد بضعة أشهر من فشل القمة الإسرائيلية-الفلسطينية في كامب ديفيد، طرح الرئيس بيل كلينتون "معايير السلام" بهدف توجيه مسار عملية صنع السلام في المستقبل. ومن بين بنود أخرى، دعت هذه المعايير إلى نظام يُدار دوليًا يكون فيه للاجئين الخيار بين الاستقرار في دولة فلسطينية جديدة، أو الحصول على إقامة دائمة في البلدان المضيفة الحالية، أو الهجرة إلى بلدان ثالثة، مع احتمال إعادة توطين عدد قليل منهم في إسرائيل إذا وافقت على قبولهم.
ولا تزال هذه الآلية الأساسية صالحة اليوم. وإذا ما أُعطيت لهم خيارات واضحة، فقد يختار بعض الفلسطينيين البقاء في غزة والتخلي عن وضعهم كلاجئين مقابل الحصول على صك ملكية لمنزل جديد خاص بهم. أما الآخرون، فمع حصولهم على تعويضات، فسينتهزون حتمًا الفرصة للانتقال-سواء إلى الضفة الغربية، أو إلى بلد عربي أو إسلامي، أو إلى أي مكان آخر، وذلك اعتمادا على مدى إتاحة فرص اللجوء، والإقامة الدائمة، وحتى الجنسية في جميع أنحاء العالم. ويمكن إنشاء هيئة دولية مستقلة للإشراف على هذه العملية وتنظيم آلية قرعة لتحديد الأماكن التي يمكن أن ينتقل إليها اللاجئون ومتى-مع مراعاة قوانين الهجرة في البلد المضيف والمراجعات الأمنية، بالطبع.
ولا تبدو الأرقام مرعبة كما يتصور المرء. على سبيل المثال، حتى لو اختار نصف عدد اللاجئين في غزة الانتقال إلى مكان آخر على مدى عشر سنوات من إعادة الإعمار، فإن ذلك سيبلغ في المتوسط حوالي 70 ألف لاجئ سنويًا. وهذا رقم كبير مقارنة بالعدد السنوي لطالبي اللجوء الذين أعيد توطينهم في العالم (والذي بلغ متوسطه حوالي 100 ألف لاجئ على مدى العقد الماضي)، ولكنه لا يمثل سوى نسبة ضئيلة من عدد المهاجرين في العالم المقدر بـ 281 مليون مهاجر. سيكون لاجئو غزة في وضعٍ وسطي- فهم لن يكونوا طالبي لجوء تمامًا، لأنهم سيغادرون منطقة ما بعد الصراع في عملية منظمة ومدعومة جيدًا، لكنهم أيضًا لن يكونوا مهاجرين بالمعنى التقليدي الذي يقتصر على البحث عن فرص اقتصادية فقط. والأهم من ذلك أن محنتهم تستحوذ على اهتمام العالم بأسره في الوقت الراهن، لذا فإن إيجاد منازل لـ 70 ألف شخص سنويًا ليس عبئًا يصعب تجاوزه.
وتريد الدول العربية في الوقت الراهن أن يكون الأمر ذا مسارين : فمن ناحية، تزعم هذه الدول أن سكان غزة مرتبطون بأرضهم لدرجة أن القليل منهم سيغادرون طوعًا؛ ومن ناحية أخرى، ترفض فكرة النزوح الطوعي في حد ذاتها، خشية أن يختار العديد من سكان غزة هذا الخيار- بأعداد تفوق ما يمكن لمجتمعاتهم استيعابه.ولا ينبغي لواشنطن أن تقبل هذا الموقف المتناقض.
فقد اتضح أن سكان غزة يواصلون الهجرة من القطاع بشكل مطرد منذ سنوات، مع القليل من التداعيات السياسية في الخارج. فوفقًا لإحصاءات البنك الدولي، التي تجمع بين غزة والضفة الغربية، شهدت الأراضي الفلسطينية سبعة وعشرين عامًا متتالية من النزوح الديموغرافي للخارج، بمتوسط حوالي 20 ألف مهاجر سنويًا منذ عام 1998. وفي غزة، أشارت دراسة بحثية فلسطينية حديثة إلى أنه ”منذ عام 2007، أكدت التقارير المحلية أن أكثر من 250 ألف شاب هاجروا من قطاع غزة سعيًا وراء حياة مزدهرة في أوروبا. وفي شهر آب/أغسطس 2023، وحده، كان هناك أكثر من 16,700 طلب تأشيرة تركية قدمها شباب بالغون يعيشون في [محافظات] قطاع غزة الخمس. وحدثت كل هذه الحركة قبل الحرب - ولا يسعنا إلا أن نتخيل حجم الطلب المتزايد اليوم لمغادرة القطاع والبحث عن حياة أفضل في مكان آخر.
وفي نهاية المطاف، يمكن أن تؤدي إعادة توجيه خطط ما بعد الحرب في غزة نحو مفهوم النزوح الطوعي للاجئين إلى مغادرة 40 في المئة أو أكثر من إجمالي سكان القطاع بمحض إرادتهم. وهكذا، قد تساعد هذه المقاربة في تحقيق التقارب بين التصورات الأمريكية والعربية، مما يسهم في تسريع إعادة الإعمار وضمان تنفيذها بشكل أكثر أمانًا.
روبرت ساتلوف هو المدير التنفيذي لمؤسسة سيجال ورئيس كرسي هوارد ب. بيركويتز حول السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط في معهد واشنطن.