- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3876
إعادة ضبط العلاقات بين العراق وتركيا
يبدو أن القمة التي عُقدت مؤخراً بين العراق وتركيا أزالت العديد من المسائل الشائكة التي تعكّر العلاقة الثنائية منذ وقت طويل، بدءً من الحقوق المتعلقة بالمياه وإلى عنف "حزب العمال الكردستاني"، مما خلق تحديات ومنافع محتملة على حد سواء لمصالح الولايات المتحدة داخل العراق وخارجه.
في 22 نيسان/إبريل، سافر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى بغداد للاجتماع برئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، في أول زيارة له إلى العراق منذ ثلاثة عشر عاماً. وتمخضت الرحلة عن العديد من الاتفاقيات الثنائية المهمة في مجالات الطاقة والمياه والأمن والتجارة والنقل، مما يشير إلى رغبة متبادلة في تحسين العلاقات. ونظراً للطبيعة المضطربة للعلاقات العراقية التركية منذ خمسينيات القرن الماضي، يمكن أن يمثل هذا التطور نقطة تحول تاريخية. إن الأسئلة التي تطرح نفسها هنا لماذا تعمل أنقرة وبغداد على إصلاح علاقاتهما الآن، وما هي تداعيات إعادة ضبط العلاقات على الشرق الأوسط ككل وعلى السياسة الأمريكية؟
علاقة في حالة سقوط حر منذ عقود
تدهورت العلاقات بين البلدين بعد انقلاب عام 1958 ضد ملك العراق فيصل الثاني. فقد أدى الانقلاب وما تلاه من صعود لنظام "البعث" الاشتراكي في بغداد إلى وضع العراق وتركيا العضو في "حلف شمال الأطلسي" ("الناتو") في مواجهة أحدهما الآخر خلال الحرب الباردة. كما ظهرت خلافات ثنائية مختلفة، بما فيها خلافات على الحقوق المتعلقة بمياه نهرَي دجلة والفرات، حيث تسيطر تركيا على المنبع. واستمرت العلاقات بالتدهور بعد الحرب الباردة في التسعينيات، عندما أصبح شمال العراق الجبلي ملاذاً لـ"حزب العمال الكردستاني" المدرج على قائمة الإرهاب الأمريكية والذي كان يخوض حرباً ضد الحكومة التركية منذ الثمانينيات.
ولم تؤدِ نهاية حكم صدام حسين عام 2003 إلى إصلاح العلاقة بين البلدين. فرفض تركيا المشاركة في التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، والنفوذ الإيراني المتزايد بعد الحرب منعا أنقرة من إرساء أي نفوذ لها في بغداد. وظل النفوذ التركي مقتصراً على الطائفة التركمانية الصغيرة في العراق، ومعقل العرب السنة في محافظة الموصل، وإقليم كردستان في الشمال. ومن جانبها، كانت بغداد منشغلة بالصراع الداخلي والتحدي المتمثل بموازنة العلاقات مع إيران والولايات المتحدة، مما لم يترك لها مجالاً لتطوير سياسة متماسكة تجاه تركيا.
لماذا قد تغير القمة كافة المعطيات؟
من خلال التطرق مباشرة إلى العديد من القضايا العالقة بين البلدين، تَعِد قمة أردوغان-السوداني بتحسين العلاقة بشكل كبير مع تعزيز النفوذ التركي في بغداد.
إدارة المياه. منذ أن بدأت تركيا ببناء سدود كبيرة لتوليد الطاقة الكهرومائية على نهري دجلة والفرات في السبعينيات، أعرب العراق وسوريا عن مخاوف عميقة من احتمال قيام أنقرة باستخدام المياه كسلاح ضدهما (إذ يقع العراق في اتجاه مسار كلا النهرين، بينما تقع سوريا في اتجاه مسار نهر الفرات). وفي عام 1983، شكلت الدول الثلاث لجنة فنية مشتركة لمناقشة إدارة النهرين، إلا أنها لم تتوصل إلى تسوية ثلاثية على الرغم من توقيع ترتيبات ثنائية. ففي عام 1987، على سبيل المثال، وقّعت أنقرة معاهدة مع دمشق لإطلاق 500 متر مكعب من المياه في الثانية من نهر الفرات. وبعد ثلاث سنوات، وقّعت دمشق اتفاقية مع بغداد تعد فيها بتقديم 58 في المائة من تلك المياه للعراق. لكن الاتفاق العراقي التركي لا يزال الحلقة المفقودة.
بالإضافة إلى ذلك، عمدت أنقرة في بعض الأحيان إلى تخفيض أو قطع تدفق مياه كلا النهرين عند جمع المياه لسدودها الكبيرة، مثل كيبان وكاراكايا وأتاتورك على نهر الفرات وإليسو على نهر دجلة. ويُعزى ذلك أيضاً إلى أسباب جيوسياسية، كما حدث عندما قطعت مياه نهر الفرات في عام 1990 بعد غزو العراق للكويت (في ذلك الوقت، لم يكن لدى تركيا سدود كبيرة كانت ستسمح لها بقطع مياه نهر دجلة). وقد أثارت تلك الخطوات مخاوف لدى بغداد ودمشق بشأن أمنهما المائي، مما دفعهما إلى التصدي لتركيا بأساليب أخرى، بدءاً من تعزيز العلاقات مع الاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة ووصولاً إلى إيواء "حزب العمال الكردستاني".
وخلال قمة الشهر الماضي، وقّعت تركيا والعراق اتفاقية إطارية للتعاون، إلى جانب العديد من مذكرات التفاهم التي تهدف إلى "تخصيص المياه العابرة للحدود بشكل عادل ومنصف وتحديد هدف للاستخدام الفعال والمعقول للمياه". كما التزمت أنقرة بتقديم المساعدة الفنية في مجال إدارة المياه، بما في ذلك أنظمة وتقنيات الري الحديثة. ويكمن الاختبار الفعلي فيما إذا كانت الشركات التركية قادرة على تنفيذ مشاريع الأعمال الزراعية على الأراضي العراقية في ظل عجز مزمن في الحكم المحلي وتهديدات محتملة بالعنف من "حزب العمال الكردستاني" والميليشيات المدعومة من إيران.
الضغط على "حزب العمال الكردستاني". في التسعينيات، بنى "حزب العمال الكردستاني" العديد من المعسكرات على طول حدود العراق الجبلية مع إيران وتركيا، مستغلاً فراغ السلطة ومنطقة حظر الطيران التي فرضتها الولايات المتحدة في الشمال. وقبل الإطاحة بصدام وبعدها، أمرت أنقرة مراراً وتكراراً بتنفيذ عمليات توغل عسكرية تستهدف هذه المعسكرات، مما أثار انتقادات شديدة من جانب بغداد على خلفية انتهاك سيادتها. واليوم، تحتفظ تركيا بما يقرب من أربعين موقعاً عسكرياً داخل العراق، كما كثفت الضغط على "حزب العمال الكردستاني" باستخدام الطائرات بدون طيار والحملات العسكرية الموسمية. وتقلق أنقرة من تلقي "وحدات مقاومة سنجار" التي تدور في فلك "حزب العمال الكردستاني" أموالاً من الحكومة العراقية كجزء من "قوات الحشد الشعبي".
وقد شهدت هذه القضية تغييراً جذرياً قبل فترة وجيزة من زيارة أردوغان، حين صنّف العراق "حزب العمال الكردستاني" رسمياً "منظمة محظورة". ومن ثم فإن التوغل العسكري التركي المقبل، الذي يحظى بمباركة بغداد، قد يؤدي إلى فرض طوق وقائي (أمني) تركي دائم داخل الأراضي العراقية. فقد تعهد أردوغان بإنشاء مثل هذه المنطقة للدفاع عن الحدود ضد تسلل "حزب العمال الكردستاني". وفي المقابل، تحصل بغداد على صفقة مياه وحصة في ما يسمى بـ "طريق التنمية"، كما هو موضح أدناه.
"طريق التنمية" والتكامل الاقتصادي. تخلل القمة تخطيط ملموس للطريق التجاري المقترح المعروف بـ "طريق التنمية"، الذي سيربط المحيط الهندي بأوروبا وسيمتد جزء من الطريق من ميناء الفاو المزمع إنشاؤه في العراق براً إلى موانئ تركيا على البحر الأبيض المتوسط. وما ساهم في تسريع وتيرة التخطيط هو الإعلان مؤخراً عن الممر الاقتصادي المدعوم من الولايات المتحدة بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، والذي تم الإعلان عنه رسمياً في أيلول/سبتمبر الماضي، والذي سيهمش تركيا والعراق في حال تم تنفيذه. وقد أصبح اقتراح "طريق التنمية" أكثر قابلية للتطبيق منذ ذلك الحين بسبب اندلاع الحرب بين "حماس" وإسرائيل، والتي ترافقت مع هجمات على الشحن في البحر الأحمر وتحديات أخرى للممر الذي اقترحته الولايات المتحدة. وخلال القمة، وعد أردوغان السوداني بأن أنقرة ستستثمر في "طريق التنمية"، الذي حصل أيضاً على دعم مالي من قطر والإمارات العربية المتحدة.
وفي حالة تنفيذ المشروع، فإنه سيخلق المزيد من الترابط الاقتصادي بين تركيا والعراق، مما يجبرهما على مناقشة خلافاتهما بدلاً من تصعيد التوترات بشكل متكرر. فمن المرجح أن تقوم شركات قطاع البناء القوي في تركيا ببناء جزء كبير من البنية التحتية للطرق السريعة والسكك الحديدية في جميع أنحاء العراق. ويبدو أن الميليشيات أكثر ميلاً للحصول على جزء من الإيرادات الناتجة عن المشروع بدلاً من تخريبه.
ولا يزال دور "إقليم كردستان" في هذه المبادرة غير واضح. ويشعر الكثيرون في "الحزب الديمقراطي الكردستاني" المهيمن بالقلق من أن يتجنّب "طريق التنمية" أراضيهم ويضعف احتكارهم للتجارة عبر الحدود مع تركيا. وفي غضون ذلك، تحركت أنقرة ضد منافس "الحزب الديمقراطي الكردستاني"، أي "الاتحاد الوطني الكردستاني"، متهمةً إياه بإيواء "حزب العمال الكردستاني". على سبيل المثال، أوقفت "الخطوط الجوية التركية" رحلاتها من أنقرة إلى السليمانية، معقل "الاتحاد الوطني الكردستاني"، مما زاد من عزلة التنظيم.
إعادة المركزية العراقية. في السياق الأوسع نطاقاً، تريد أنقرة تعزيز ديناميكيات إعادة المركزية التي وجهت العديد من إجراءات بغداد في السنوات الأخيرة. ففي عام 2017، عملت أنقرة مع بغداد (وطهران) لوقف محاولة استقلال "إقليم كردستان". ومؤخراً، تم إغلاق خط الأنابيب بين العراق وتركيا منذ أوائل عام 2023. وعلى الرغم من أن هذا الوضع نشأ عن شكوى عراقية ضد تركيا أمام "غرفة التجارة الدولية"، إلا أن النتيجة خدمت هدف البلدين المشترك المتمثل في إعادة المركزية، حيث لن يعُد بإمكان الأكراد تصدير النفط بشكل مستقل بل يتوجب عليهم اللجوء إلى بغداد من أجل التوصل إلى حل قابل للتطبيق.
ويشير التجميد المستمر لخط الأنابيب إلى أن أنقرة ستدعم السوداني بينما يعيد فرض سلطته المركزية، دون التضحية بالنفوذ التركي على "إقليم كردستان" الذي يشهد انقسامات متزايدة. وفيما يتعلق بالمسألة الأخيرة، التقى أردوغان بزعيم "الحزب الديمقراطي الكردستاني" مسعود بارزاني في نيسان/إبريل خلال زيارته الأولى للعراق منذ عام 2017، مما يشير إلى أنه سيواصل توطيد العلاقات مع "الحزب الديمقراطي الكردستاني"، وتحسين العلاقات مع بغداد، وعدم التساهل بأي شكل من الأشكال مع "الاتحاد الوطني الكردستاني".
التداعيات على السياسة الأمريكية
يمثل تركيز تركيا المتجدد على العراق تحديات وفرصاً للولايات المتحدة، لا سيما في ظل علاقة واشنطن المتوترة في الغالب مع أنقرة. أولاً، يكمن الدافع الرئيسي وراء هذا التحول في توقع تركيا انسحاب الولايات المتحدة من العراق في النهاية. بالإضافة إلى ذلك، نظراً لأن الشرق الأوسط أصبح ساحة للمنافسة الاقتصادية الأمريكية المتنامية مع الصين، تسعى تركيا إلى الاضطلاع بدور في إعادة تشكيل طرق التجارة العالمية، وذلك جزئياً من خلال التعاون مع العراق. وقد يؤدي الفراغ الذي سيخلفه الانسحاب الأمريكي أيضاً إلى تعزيز الوفاق الودي بين تركيا وإيران. وعلى الرغم من أن موقف طهران من هذا الاحتمال لا يزال غير واضح، يبدو أنها تتسامح بحذر مع مبادرات أنقرة الاقتصادية والعسكرية في العراق.
وفي الوقت نفسه، قد تلتقي مصلحة تركيا في العراق في النهاية مع أولويات أمريكية معينة. فتعزيز علاقات بغداد مع دولة مجاورة أخرى يمكن أن يشكل ثقلاً موازناً قيّماً في مواجهة نفوذ إيران. وعلى نطاق أوسع، تسعى أنقرة إلى إنشاء محور نفوذ تركي بين الشمال والجنوب يمتد عبر العراق إلى الخليج العربي، وربما يعيق "الجسر البري" إلى البحر الأبيض المتوسط، الذي تطمح طهران إلى إنشائه منذ فترة طويلة.
وفي الوقت الحالي، يجب على واشنطن أن تستمر في نهج الانتظار والترقب، مع السماح بحذر لتركيا بتعميق علاقاتها مع العراق مع ترك الباب مفتوحاً أمام عمليات تآزر ثلاثية ومتعددة الأطراف محتملة، بما في ذلك بين "الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا" و"طريق التنمية". وينطبق الأمر نفسه على الاتحاد الأوروبي، الذي قد يدعم المنافع المحتملة لـ "طريق التنمية" من خلال الاتحاد الجمركي القائم بين الاتحاد الأوروبي وتركيا. ومع ذلك، فإن أي دعم من الاتحاد الأوروبي لمشاريع أنقرة في العراق سيعتمد على إعادة ضبط العلاقات التركية الأوروبية، الأمر الذي لم يتحقق بعد.
سونر چاغاپتاي هو زميل "باير فاميلي" ومدير "برنامج الأبحاث التركية" في معهد واشنطن. سيلين أويسال هي زميلة زائرة في المعهد، ودبلوماسية في الإقامة من قبل "الوزارة الفرنسية لأوروبا والشؤون الخارجية". بلال وهاب هو "زميل فاغنر" ومؤلف دراسته الأخيرة "حكم العائلة في العراق والتحدي الذي تواجهه الدولة والديمقراطية".