- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 2813
احتواء إيران؟ حسناً، ولكن يجب الإجابة على هذه الأسئلة أولاً
خلال اجتماعاته الأخيرة مع القادة العرب في الرياض، التزم الرئيس ترامب بمخطط هدفه التصدي للنفوذ الإيراني في جميع أنحاء المنطقة. إلّا أنّ البيانات المشتركة بين الجانبين الأمريكي والعربي بشأن مكافحة التهديدات الإيرانية ليست بالظاهرة الجديدة؛ فقد سبق للرئيس أوباما أن تبنّى اثنين منها مع «مجلس التعاون الخليجي» بعد التوصل إلى الاتفاق النووي مع إيران ، على الرغم من أنه لم يبدُ مؤمناً بتلك المهمة أو مواظباً على تحقيقها. لكن الزمن تغيّر الآن، فقد اتخذت إدارة ترامب موقفاً أكثر عدائيةً بكثير تجاه إيران، بينما بدأ مصدر الخطر الرئيسي في المنطقة، أي تنظيم «الدولة الإسلامية»، بالتراجع، على الأقل كقوة عسكرية شبه تقليدية. وفي حين كان تركيز ترامب كمرشّح رئاسي قد انصبّ بالدرجة الكبرى على تنظيم «الدولة الإسلامية» وعلى الاتفاق النووي، يبدو أنّ ترامب الرئيس على توافق مع الكثير من كبار مستشاريه العسكريين بشأن اتخاذ موقف أكثر صرامةً تجاه أنشطة طهران المزعزعة للاستقرار في المنطقة - وهي طريقة تفكير تستند على التجارب المريرة التي مر بها هؤلاء المستشارين في التعامل مع العنف الذي ترعاه إيران في العراق ودول أخرى.
وفي المقابل، ازدادت طهران عدائيةً منذ إبرام الاتفاق النووي، معزَّزة بتدخل روسيا في سوريا ومستندةً إلى نظام عميل لها في دمشق يتحلى بجرأة عالية ولا يظهر اهتماماً يُذكر بالتفاوض على إنهاء الحرب. كما أنّ الاستفزازات الإيرانية الأخيرة استدعت ردّاً عسكرياً من الولايات المتحدة ضد وكلاء إيران في سوريا واليمن. وفي حين أنّ الرئيس "المعتدل" حسن روحاني فاز للتو بولاية رئاسية ثانية، إلا أنه لا يستطيع أن يفعل الكثير لتغيير موقف إيران المتشدد في الخارج حتى لو أراد ذلك، وينطلق هذا القول من واقع أنه لم يحرّك ساكناً في هذا الشأن خلال ولايته الأولى، ومن طبيعة هيكل السلطة في الجمهورية الإسلامية.
أما من الناحية البلاغية على الأقل، فإن البيانات الصادرة في أعقاب قمم الرياض الثلاث (القمة الثنائية، القمة الأمريكية مع «مجلس التعاون الخليجي»، والقمة "العربية الإسلامية الأمريكية") اتسمت بوضوحٍ تام. فقد تم تسليط الضوء على إيران دون سواها بفعل "تدخلها الخبيث" وصُنّفت أعمالها (بصورة غير دقيقة أحياناً) بـ"الإرهابية"، وتعهّد الموقّعون على البيانات بالعمل يداً بيد للتصدي لها. وقد سمع ترامب رسالةً مماثلة خلال الاجتماعات المنفصلة التي جمعته مع الزعيمين الإسرائيلي والتركي. ومع ذلك، لم يتم حتى الآن وضع سياسية أمريكية جدية لاحتواء إيران تكون مشابهة للحملة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» أو المفاوضات النووية. فهذه السياسة ستتطلب أكثر من مجرد ضربات عرضية، وإعلانات دبلوماسية، و"تحالف عسكري إسلامي" بقيادة السعودية، ومبيعات أسلحة تقليدية (المفيدة على نحو معين، ولكن ليس كثيراً في مواجهة التهديد الإيراني الذي يعتبر بالدرجة الأولى غير متناسق، وإيديولوجي، وإرهابي أكثر مما هو تقليدي).
ويجدر بالذكر أنّ لدى طهران خطة شاملة خاصة بها وهي تعمل على تنفيذها. لذلك، يتعين على واشنطن وحلفائها الإجابة عن عددٍ من الأسئلة الاستراتيجية من أجل وضع خطة خاصة بهم.
من هو العدو؟
تَمثل أحد الأهداف الرئيسية للمملكة العربية السعودية من عقد مؤتمرات القمة في الرياض في إقناع المشاركين بأن إيران تشكل التهديد الأكبر في المنطقة - ليس كدولة فحسب، وإنما كتيار شيعي "خبيث" في منطقة الشرق الأوسط السنّية إلى حد كبير. ولم يكن هذا الأمر مفاجئاً، إذ لطالما صوّر السعوديون منافستهم مع إيران من منطلق ديني. ومع ذلك، فكلما ازداد تبني هذه الصيغة، كلما ازداد طابع المنافسة المطلق، وقلّ احتمال "تقديم" إيران أي تنازلات (حيث لا يمكنها ببساطة التنازل عن جوهرها الديني) وازداد التردد بين الحلفاء.
وصحيحٌ أن كل من إسرائيل وتركيا ومصر تعتبر إيران مصدر خطر وتهديد، ولكن ليس على النحو نفسه الذي تراه الرياض. على سبيل المثال، أشارت حكومة أنقرة مؤخراً إلى "نزعة التوسع الفارسية" كمصدر القلق الأكبر، متحاشيةً استخدام الصيغة الطائفية التي تعتمدها الرياض، مما يشير إلى أن تركيا تفضل الاحتواء التقليدي على غرار الحرب الباردة. وحتى الأوروبيون أقل اهتماماً بوصف النزاع بتعابير دينية؛ وفي الواقع، يرى بعضهم أن السعودية التي تتبع "عادات القرون الوسطى" مشكلةً أكبر من إيران "العصرية" القائمة في عهد روحاني. من هنا، يتعيّن على إدارة ترامب إما أن تجد قاسماً مشتركاً في السياسات بين هذه النظرات الشديدة الاختلاف، أو أن تكون مستعدة للاعتماد بشكل أكبر على بعض الشركاء أكثر من غيرهم.
ما دور «خطة العمل المشتركة الشاملة»؟
منذ توليه منصبه، يلتزم الرئيس الأمريكي الصمت إلى حد كبير بشأن «خطة العمل المشتركة الشاملة»، وهي الوثيقة التي وضعت شروط الاتفاق النووي. وعلى الرغم من أن إدارته احترمت الالتزامات التي نص عليها الاتفاق، إلا أنه لم يتراجع عن الوعد الذي قطعه خلال حملته الرئاسية بإلغاء «خطة العمل المشتركة الشاملة».
وإذا حدث وقام الرئيس الأمريكي بإبطال هذه الخطة، سوف تُلام الولايات المتحدة على نكث صفقة يعتبرها العالم بمعظمه منطقية. إن الفكرة القائلة أن بإمكان واشنطن التفاوض على اتفاق أشد صرامة مع روسيا والصين وأوروبا هي نظرة تفتقر ببساطة إلى المنطق والواقعية. والنتيجة هي أن إيران ستصبح حرة بالتوجه نحو [تطوير] أسلحة نووية، وأن العقبة الوحيدة التي ستواجهها هي التهديد العسكري الأمريكي المباشر. وإذا أصبح هذا الإجراء ضرورياً، فقد يفوق ذلك الذي شوهد خلال الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق.
والحل البديل هو أنه بإمكان الرئيس ترامب أن يعترف رسمياً بـ «خطة العمل المشتركة الشاملة»، فيكتسب بذلك أصدقاء له في بعض الأوساط، ولكن ذلك قد يشجع إيران على تجاهل إنذاراته غير المتعلقة بالشأن النووي. ومن شأن هذا النهج أن يقلق أيضاً السعودية وإسرائيل.
والخيار الثالث هو ترك الاتفاق في طي النسيان. ومن شأن ذلك أن يضعف أوروبا وإيران ولكنه ربما يسر الحلفاء في الشرق الأوسط، على الرغم من أنهم ما زالوا يتوقعون سياسة احتواء أمريكية جادة.
كيف يجب التعامل مع إيران في سوريا والعراق؟
على الرغم من التحدي الذي تشكله إيران للأمن في المنطقة من اليمن إلى أفغانستان، تبقى سوريا والعراق الجبهة الرئيسية التي لطالما أثرت فيها طهران على نظام بشار الأسد والحكومة الشيعية في بغداد، على التوالي. وفي أعقاب "الربيع العربي" عام 2011، حثّ الزعماء الإيرانيون هؤلاء الوكلاء على ممارسة نفوذٍ أكبر، إلّا أنّ هذه الجهود أدّت أيضاً إلى تفاقم التطورات الكارثية التي تشهدها كل دولة، وهي: الانتفاضة الشعبية ضد الأسد وظهور تنظيم «الدولة الإسلامية».
ومنذ ذلك الحين قامت إيران بحملة شاملة لإبقاء الأسد في السلطة وتوسيع نفوذها في العراق - ويا لها من مفارقة أن ذلك حدث بمساعدة من الحرب التي قادتها الولايات المتحدة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية». وبينما تُسحق قوات تنظيم «داعش» في معاقلها الأخيرة في الموصل والرقة، يسارع وكلاء طهران إلى إنشاء ممر بري بين إيران والعراق وسوريا و«حزب الله» في لبنان، مما ينذر بتحوّل استراتيجي جغرافي استثنائي. وكما أشار "مركز سياسة الحزبين" مؤخراً، من الممكن أن يضع هذا التحوّل نحو عشرين مليون عربي سني تحت وصاية شيعية فعلية في سوريا والعراق، الأمر الذي قد يُنتج على الأرجح تياراً سنياً متطرفاً جديداً يحل محل تنظيم «الدولة الإسلامية».
وتعود أهمية هذه الجبهة إلى أسبابٍ أخرى أيضاً. فقد أنشأت الولايات المتحدة وحلفاؤها مراكز لها في شمال سوريا ، وعلى طول الحدود الأردنية، وفي كردستان العراق، لمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية» في المقام الأول. وما أن يتم هزيمة التنظيم، سوف تضطر واشنطن إما إلى ترك هذه المراكز أو التمسك بها في وجه عاصفةٍ حتمية من الهجمات المدعومة من إيران التي تهدف إلى إخراج القوات الأمريكية. إن البقاء في المنطقة إلى أجل غير مسمى سيتطلب ترتيبات سياسية معقّدة مع تركيا والأردن وبغداد ومختلف الفصائل الكردية والعربية السنية، وربما مع إيران وروسيا أيضاً. وأياً كانت الترتيبات التي سيتم التوصل إليها، ستحتاج إدارة ترامب أن تكون واضحة حول المخاطر: إذا لا توقف أمريكا الإيرانيين على هذه الجبهة، فسيظهرون قريباً كقوة مهيمنة في المنطقة، معادين للغاية للولايات المتحدة وحلفائها .
كيف يجب التصرف عندما تقوم إيران بالرد على ضربة؟
إذا كان التاريخ دليلاً، فإن أي جهد أمريكي لمواجهة طهران سيولّد هجمات على المصالح الأمريكية. فمنذ عام 1979، عمل النظام على ضرب أهداف أمريكية مباشرة أو من خلال وكلاء في مناسبات متعددة، من الكويت ولبنان واليمن وإلى المؤامرة التي تم إحباطها في جورج تاون [لقتل السفير السعودي في واشنطن عادل الجبير في عام 2011]. وهناك مثالان لهما أهمية خاصة: تفجير "أبراج الخبر" في المملكة العربية السعودية عام 1996، الذي أسفر عن مقتل تسعة عشر جندياً أمريكياً، وطفرة عمليات القتل المستهدف في صيف عام 2011 التي أودت بحياة ستة عشر جندياً آخر في العراق. ورداً على ذلك، تجنبت واشنطن الانتقام الواضح أو اتخذت إجراءات ضد الوكلاء خارج إيران مع نتائج متباينة. وسواء كان الانتقام المباشر داخل إيران مطروحاً على الطاولة أم لا، يتعين على المسؤولين الأمريكيين أن يحدّدوا مسبقاً كيف سيكون ردهم قبل أن يختاروا الدخول في معركة.
هل يجب على واشنطن التواصل مع طهران؟
أعطى وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون إجابة مثيرة للاهتمام على هذا السؤال بينما كان في الرياض، ورفض استبعاد [قيام مثل هذا التواصل]. وبالتأكيد سوف تستمر الاتصالات التقنية المحدودة مع إيران (على سبيل المثال، بين القوات في الخليج العربي؛ وحول المسائل المتعلقة بـ «خطة العمل المشتركة الشاملة»). لكن هل ستضغط واشنطن من أجل بناء حوار سياسي أو تُوافق على قيامه؟ إذا كان الأمر كذلك، فمع من سيجري هذا الحوار: مع وزير الخارجية محمد جواد ظريف أو قائد «قوة القدس» الغامض قاسم سليماني، المسؤول بشكل كبير عن تنفيذ السياسات الإقليمية الإيرانية؟ هل ستكون هذه الاتصالات علانية أم سرية (كما كانت مع إدارة أوباما في البداية)؟ وإذا تم التوسط فيها من قبل طرف ثالث، فمن سيكون؟ هل ستكون إيران مستعدة للدخول في مثل هذا الحوار، وبأي ثمن؟ وأخيراً، ما هي الغاية التي سيقُصد تحقيقها في هذه المحادثات؟ إن هذا يؤدي إلى السؤال النهائي أدناه.
ما هو الهدف النهائي مع إيران؟
يجب على الولايات المتحدة أن تحدد أهدافاً نهائية واضحة لكي تنجح في أي سياسة تجاه إيران. هل تريد فقط التصدي لعدوان طهران الإقليمي، كما فعلت مع سلوبودان ميلوسوفيتش في تسعينيات القرن الماضي؟ أم أنها تسعى إلى تحقيق سياسة احتواء طويلة الأمد لإحداث تغييرات أساسية في السياسة في إيران (بمعنى آخر، الصيغة الأولية لجورج كينان في مرحلة ما بعد الحرب الباردة)، أو حتى تغيير النظام؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكن تنفيذ هذه السياسة من الناحية العملية؟ إن الخبراء المختصين في شؤون إيران في الولايات المتحدة منقسمون حول ما إذا كان إسقاط النظام أو استمرار سياسة التقارب التي اتبعها أوباما هي أفضل طريقة لإحداث تغيير في إيران؛ كما أن حلفاء واشنطن الدوليين المحتملين منقسمون حول هذه القضية أيضاً. ولذلك إذا كانت الإدارة الأمريكية تريد تعظيم فرصها لكسب المؤيدين في الداخل والخارج فسيكون توضيحها حاسم الأهمية [في تحديد سياستها تجاه إيران].
جيمس جيفري هو زميل متميز في زمالة "فيليب سولوندز" في معهد واشنطن وسفير الولايات المتحدة السابق لدى تركيا والعراق وألبانيا، ومؤلف مشارك في الورقة الانتقالية لعام 2017 باللغة الانكليزية بعنوان "المبادئ العامة لتوجيه سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط" (مع دينيس روس).