- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3950
الإصلاحات الاقتصادية في مصر ينبغي أن تستمر
بعد حصولها على 57 مليار دولار في وقت سابق من هذا العام، قامت القاهرة بأجراء بعض الإصلاحات وتشكيل فريق اقتصادي جديد، لكن ينبغي على الرئيس السيسي أن يسمح بإجراء المزيد من الإصلاحات.
بالتزامن مع وصول فريقه الاقتصادي الجديد والإصلاحي إلى واشنطن للمشاركة في اجتماعات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في الأسبوع الماضي، حذر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي من أن استمرار برنامج الإصلاح الاقتصادي سيكون مشروطًا بمدى مراعاة الضغوط التي سيقع على الشعب. ومن الجدير بالذكر أن أسعار الوقود قد ارتفعت ثلاث مرات هذا العام تزامنا مع خفض الدعم الحكومي، في حين لا يزال التضخم يتجاوز 26% بعد تراجعه لفترة وجيزة خلال الصيف، ما أثار استياءً شعبياً كبيراً.
لعل الهدف الرئيسي من تصريحات السيسي هو تعزيز موقف الفريق المفاوض وإعطائه هامشًا أوسع من المناورة خلال المفاوضات بشأن وتيرة صرف قرض الصندوق البالغ 8 مليار دولار. وربما كان السيسي يدعو حكومته الى اتخاذ مواقف أكثر صرامة مع صندوق النقد الدولي بشأن المرحلة التي وصل إليها البرنامج. لكن هناك شيء واحد واضح، وهو أن رسائله تهدف جزئياً على الأقل إلى إقناع الرأي العام بأنه يقف إلى جانبهم. وتعتزم كريستالينا غورغييفا المديرة التنفيذية لصندوق النقد الدولي زيارة مصر في الأيام المقبلة " للنظر" في "دعم الصندوق" المقدم للبلاد من "منظور ما هو أفضل لها". وفي هذا السياق، يتعين على واشنطن بذل قصارى جهدها للمساعدة في إنجاح هذه الإصلاحات، خاصة وأن الاقتصاد المصري يُعد عاملاً محورياً لاستقرار البلاد.
مكاسب مفاجئة جاءت في الوقت المناسب
على الرغم من التحديات التي تواجهها مصر على جميع حدودها، إلا أن التهديد الوجودي الفعلي الذي تواجهه يكمن في أزمتها الاقتصادية الراهنة، ولا يمكن للقاهرة أن تفترض تعول على أنه سيتم إنقاذها مجدداً كما حدث هذا العام. فبعض الأزمات الاقتصادية في مصر تعود إلى أحداث خارجة عن إرادتها، إذ أدت الحرب الأوكرانية إلى ارتفاع أسعار القمح، كما أدت هجمات الحوثيين ضد السفن التجارية الى تحويل حركة المرور بعيدا عن قناة السويس، مما تسبب في تراجع أحد أهم مصادر الدخل، كما أدت الفوضى الإقليمية الأوسع نطاقاً الناجمة عن الحروب المتعددة إلى تراجع إيرادات قطاع السياحة. ومع ذلك، كانت هناك مشاكل أخرى ناجمة عن سياسات داخلية، لا سيما الإنفاق المفرط والاقتراض الزائد من قبل القاهرة.
مع وصول الاقتصاد المصري إلى أدنى مستوياته العام الماضي، قامت الإمارات العربية المتحدة بشراء منطقة "رأس الحكمة" على ساحل البحر الأبيض المتوسط مقابل 35 مليار دولار، مما ساعد في تخفيف أزمة العملة الأجنبية في البلاد عبر تمكين المسؤولين من تعويم الجنيه المصري وتوحيد سعر الصرف. وقد استوفت تلك الخطوة أحد المتطلبات الرئيسية للبرنامج الأولي لصندوق النقد الدولي الذي تم توقيعه في عام 2022 بقيمة 3 مليارات دولار. فيما بعد، وسع الصندوق برنامجه إلى 8 مليارات دولار، بينما أضاف الاتحاد الأوروبي 8 مليارات دولار ووفر البنك الدولي 6 مليارات دولار أخرى على شكل مزيج من القروض الميسرة والمشاريع، ليصبح المجموع 57 مليار دولار عند احتساب الصفقة مع الإمارات العربية المتحدة. وقد مكّن هذا التدفق النقدي وتوحيد العملة الناتج عنه القاهرة من استئناف الواردات بشكل منتظم، وإعادة رسملة بنوكها، والبدء في سداد المتأخرات المستحقة لشركات الطاقة. كما شهدت التحويلات المالية، وهي مصدر رئيسي للعملات الأجنبية لمصر، ارتفاعاً ملحوظاً بعد أن استعاد المصريون في الخارج ثقتهم في النظام المصرفي.
وعلى الرغم من هذا التقدم الملموس، إلا أن الطريق ما زال طويلاً أمام الحكومة إذا كانت تطمح حقًا إلى تحقيق استقرار اقتصادي مستدام. وقد حدد صندوق النقد الدولي مجموعة من الإصلاحات الإضافية الضرورية لتعزيز هذا المسار والاستفادة المثلى من التدفقات المالية الجديدة.
برنامج الخصخصة
يقتضي برنامج صندوق النقد الدولي للخصخصة أن تقدم مصر على تصفية المزيد من الشركات التي تمتلكها الدولة. وفي عام 2022، وافق البرلمان المصري على برنامج يهدف الى زيادة رأس المال من خلال بيع 35 شركة من هذه الشركات. غير أنه مع تقلب سعر الصرف في عام 2023، اكتفت الحكومة ببيع حصص أقلية في خمس شركات فقط، معظمها لمشترين إماراتيين، مما نتج عنه تحصيل مبلغ زهيد بلغ 1.5 مليار دولار. وفي سياق متصل، استحوذ أحد المستثمرين المحليين على عدد من الفنادق.
من الناحية النظرية، كان من المفترض أن تؤدي عملية إعادة تقييم الجنيه المصري إلى تسريع عملية الخصخصة، لكن المخاوف المتعلقة بأداء الشركات المملوكة للدولة أدت إلى إبطاء وتيرة صفقات البيع. وحتى الآن، تجري شركة "إنتيزا سان باولو" المصرفية الإيطالية الخاصة مناقشات متقدمة لشراء الحصة المتبقية من بنك الإسكندرية التي لا تملكها الشركة، والبالغة 20 في المئة من أسهم البنك. وقد تتولى تحالفات استثمارية أخرى شراء محطة كهرباء بني سويف التي تديرها شركة "سيمنز" الألمانية، كما سيتم طرح خمسة من المطارات المصرية في البورصة. ويمكن أن تُفضى عمليات البيع الصغيرة، مثل شركة " تمويلي" للتمويل متناهي الصغر، إلى فتح المجال لاستثمارات أوسع نطاقًا. ومع ذلك، إذا أرادت الحكومة ضمان تحقيق هدفها الفعلي المتمثل في تحصيل ما بين 2 إلى 2.5 مليار دولار من هذه المبيعات خلال السنة المالية الجارية، فإنه يتعين عليها الاستجابة السريعة لاستفسارات المستثمرين المحتملين.
ومن بين الإصلاحات المهمة التي بدأتها الحكومة بنفسها كان نقل الأراضي المملوكة للجيش إلى كيانات القطاع الخاص، وهو ما من شأنه أن يدر عائدات ضريبية. وقد بدأت العملية بالتزامن مع صفقة "رأس الحكمة"، لكن هذه الخطوة تمثل انتكاسة كبيرة لمصالح المؤسسة العسكرية التي يمكن أن تتصدى للإصلاحيين نتيجة لذلك.
الضرائب والدعم
من الجدير بالذكر أن إيرادات الضرائب في مصر منخفضة نسبيًا ويتم تحصيلها بشكل غير متسق. ومع ذلك، تضمنت موازنة عام 2024/25 العديد من الإصلاحات الضريبية (على سبيل المثال، رقمنة عملية التحصيل) التي من المتوقع أن تزيد من حجم الإيرادات. ووفقًا لوزارة المالية، زادت الإيرادات الضريبية بالفعل بنسبة 56% خلال شهري آب/ أغسطس وأيلول/ سبتمبر من العام الحالي مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، مما يشير إلى التزام مصر بإجراء تغييرات في هذا المجال.
أما قضية الدعم فهي مسألة أكثر تعقيداً، فكما ذكرنا سابقا، ارتفعت أسعار الوقود ثلاث مرات هذا العام بعد أن بدأت الحكومة في تقليص دورها في توفير هذا المورد الحيوي. وعادة ما يكون إصلاح الدعم مصحوبًا بمدفوعات مباشرة للمحتاجين. وقد عملت القاهرة بالفعل على زيادة تحويلاتها النقدية المباشرة للمستفيدين وإنفاقها على برنامج الرفاه الاجتماعي، لكن الطبقة الوسطى كانت الأكثر تضرراً، حيث تحملت تكاليف أعلى مقابل الوقود دون الحصول على مزايا إضافية. ومن المفترض أن وتيرة إصلاح الدعم كانت على رأس جدول الأعمال خلال محادثات صندوق النقد الدولي الأخيرة.
أزمة الطاقة
خلال العام الماضي، أصبحت مصر مستورداً رئيسياً للغاز الطبيعي. وقد أدى تزايد عدد السكان -بما ما يقدر بنحو تسعة ملايين لاجئ ومهاجر- إلى جانب ارتفاع استهلاك الكهرباء خلال فصل الصيف واستمرار أوجه القصور في الشبكة، إلى تفاقم أزمة الطاقة في البلاد. وأدى هذا النقص إلى انقطاع التيار الكهربائي على نطاق واسع، فضلاً عن القيود المتعلقة بالكهرباء التي تم فرضها على المقاهي والمتاجر. وعلى الرغم من أن واردات الغاز من إسرائيل ظلت مستقرة، إلا أن القاهرة تخشى من انقطاعها بسبب تصاعد الصراعات في المنطقة.
وفى مواجهة ذلك، بدأت مصر في استيراد الغاز الطبيعي المسال باهظ الثمن من محطات قبالة ساحل العقبة بالأردن ومن خلال محطة العين السخنة الخاصة بها. وقد خصصت الحكومة المصرية 1.2 مليار دولار أمريكي كإنفاق إضافي لهذا الغرض، وستكون بحاجة إلى واردات إضافية لتعويض عجزها اليومي في توفير الطاقة البالغ 4 جيجاوات.
وفي ضوء ذلك، تسعى القاهرة إلى تعزيز استخدام المزيد من مصادر الطاقة المتجددة، خاصةً الطاقة الشمسية، التي تسهم حالياً بحصة صغيرة في الشبكة. ولا تزال محطة الطاقة النووية التي تقوم روسيا ببنائها في مراحل الإعداد، غير أنه لم يتم تشغيلها قبل أربعة سنوات قادمة. كما التزمت القاهرة أيضًا بتطوير تقنية الهيدروجين الأخضر في مؤتمر المناخ COP27 في عام 2022، مما يجعله جزءًا من خطة الطاقة في البلاد لعام 2030. ومع ذلك، فإن الحلول متوسطة وبعيدة المدى لن تخفف من أزمة الطاقة الآنية.
دعم الولايات المتحدة
بعيداً عن التركيز فقط على غزة والقضايا الأمنية الأخرى مع مصر، تحتاج واشنطن إلى إظهار اهتمامها بالإصلاحات الاقتصادية وإصلاحات الطاقة في مصر. ومن شأن هذا التحول أن يكون مصحوبا بفائدة إضافية تتمثل في إيصال رسالة للقاهرة مفادها أنه لا يمكنها تجاوز الإصلاحات المطلوبة لمجرد أنها شريك أمني مهم للولايات المتحدة.
ولتحقيق هذه الغاية، ينبغي على كبار المحاورين مثل وزيري الخزانة والتجارة أن يتواصلوا مع نظرائهم المصريين لإظهار دعم الولايات المتحدة للفريق الاقتصادي الإصلاحي المصري. وفي تطور إيجابي، عقد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن الاجتماع الثاني للحوار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة ومصر أثناء زيارته للقاهرة في 18 أيلول/سبتمبر. تضمنت مجموعات العمل في الحوار اللجنة الاقتصادية المشتركة، التي عقدت اجتماعها الثاني في واشنطن في 4 سبتمبر/أيلول والتي توفر منصة لمناقشة التحديات الاقتصادية العملية التي تواجهها مصر. وعلاوة على ذلك، يترأس وزير الاستثمار حسن الخطيب وفداً هذا الأسبوع بهدف تعزيز اتفاقية إطارية ثنائية للتجارة والاستثمار مع الولايات المتحدة. وينبغي أن تستأنف هذه المحادثات والمحادثات ذات الصلة الآن بعد أن أظهر الفريق الاقتصادي المصري الجديد المزيد من القدرات للاستجابة.
يمكن لواشنطن أن تبذل المزيد من الجهود في مجال الاستثمار الخاص، على غرار الجهود الأوربية. فقد عقد الاتحاد الأوروبي مؤتمراً استثمارياً في القاهرة في حزيران/يونيو الماضي، بينما استضافت بريطانيا مؤتمراً مماثلاً في أيلول/سبتمبر. إحدى أفضل الطرق لتشجيع إصلاح القطاع الخاص ونموه هي أن تعمل الشركات المصرية مع الشركات الأمريكية وتتعرف على معاييرها الصارمة في مجال الشفافية والمساءلة بشكل مباشر. كما يجب على الولايات المتحدة ألا تسمح للشركات الأوروبية بأن يكون لها السبق في تحسين مناخ الاستثمار في مصر.
وأخيرًا، يتعين على "الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية" (USAID) أن تأخذ بعين الاعتبار تنفيذ بعض المبادرات قصيرة الأجل الخاصة بمصر. إذ يركز جزء كبير من التمويل الحالي للوكالة على تعزيز النمو على المدى الطويل فقط وخلق فرص عمل من خلال التعليم ودعم الشركات الصغيرة والمتوسطة. على سبيل المثال، تشمل المساعدة الإضافية البالغة 129 مليون دولار التي أعلن عنها الوزير بلينكن في أيلول / سبتمبر شراكات تعليمية في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات بين الجامعات الأمريكية والمصرية. رغم أهمية هذه المشاريع على المدى الطويل، إلا أنها لا تساهم في علاج الأزمات الاقتصادية وأزمات الطاقة الأنية في البلاد. إذا كان دعم مشاريع الطاقة المتجددة في الخارج أمرًا مثيرًا للجدل في الوقت الحالي، لذلك، يجب على إدارة بايدن العمل مع الكونجرس للمساعدة في تمويل تحديث شبكة الكهرباء في مصر وغيرها من التطورات العملية. علاوة على ذلك، ينبغي على شركة تمويل التنمية الدولية الأمريكية التي تساعد بالفعل في تمويل برامج الطاقة في مصر، أن تنظر في تقديم دعم إضافي في هذا المجال.
وبغض النظر عن المبادرات المحددة التي يتم تبنيها، لا يمكن لشركاء مصر الأمريكيين والعرب والأوروبيين الاستمرار في التعامل مع مصر على أنها” أكبر من أن تفشل“. فهذا يعد إساءة لدولة تحتضن أكبر عدد من السكان العرب في العالم، ويشكل وصفة لزعزعة الاستقرار
بين فيشمان هو زميل أقدم في برنامج الزمالة "ستيفن د. ليفي" في "برنامج «روبين فاميلي» حول السياسة العربية" في معهد واشنطن حيث يركز على شمال أفريقيا.