- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3708
الإصلاحات الداخلية ضرورية لمنع تفكك السلطة الفلسطينية
لا يخفى أن وقف الاتجاهات الخطيرة في الديناميات الداخلية الفلسطينية مهمةٌ معقدة، لكن الفشل في معالجة هذه القضايا سيعرقل في النهاية أي تفاهمات دبلوماسية وأمنية يتم التوصل إليها بشأن خفض التصعيد في الضفة الغربية.
كان العام الماضي من أكثر الأعوام دمويةً في الضفة الغربية منذ الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي اندلعت قبل عقدين من الزمن، غير أن هذا العام في طريقه لتجاوز عام 2022. والأسوأ من ذلك أن موجة العنف الأخيرة تأتي في مرحلة من الهشاشة الاستثنائية داخل السلطة الفلسطينية. ويمكن أن يعزى جزء كبير من هذه الهشاشة إلى الإجراءات الإسرائيلية التي تقوض مصداقية السلطة الفلسطينية وفعاليتها - وهي حقيقة تؤكدها الغارة الفتاكة التي شنتها إسرائيل على نابلس في 22 شباط/فبراير (انظر أدناه). ومع ذلك، فإن سوء إدارة السلطة الفلسطينية وتحجّرها السياسي لعبا دوراً كبيراً أيضاً، حيث يفقد القادة في رام الله بشكل مستمر السيطرة على أجزاء من الضفة الغربية في حلقة مفرغة من عدم الاستقرار والشرعية المتآكلة يوماً بعد يوم.
وإذا استمر هذا المسار، فقد تتعرض السلطة الفلسطينية لخطر التفكك تماماً. وفي الوقت الذي تسعى فيه الولايات المتحدة إلى البحث عن سبل دبلوماسية لاستعادة الهدوء والحد من السياسات التصعيدية على كلا الجانبين، عليها أن تولي اهتماماً أكبر للعوامل الفلسطينية المحلية التي تساهم في هذه الاتجاهات المدمرة.
العجز في الشرعية
عندما تم تأسيس السلطة الفلسطينية في عام 1994، روّج لها القادة الفلسطينيون على أنها خطوة مؤقتة في عملية دبلوماسية من شأنها أن تُتوَّج بإقامة دولة. ومع ذلك، فقد أدى انهيار أي دبلوماسية سلام ذات مغزى خلال السنوات الأخيرة وتضاؤل احتمالات حل الدولتين إلى حرمان السلطة الفلسطينية من سردية سياسية استباقية. وبينما نجحت محاولات إيجاد مقاربات بديلة - كالحصول على عضوية الأمم المتحدة أو الانضمام إلى وكالات الأمم المتحدة - في إثارة اهتمام الشعب الفلسطيني في بادئ الأمر، إلا أن التأييد تضاءل مع تعطل هذه الجهود. وقد أدت سياسات إسرائيلية مختلفة - كانت بعضها مدفوعة باعتبارات أمنية مفهومة - إلى تسريع هذا الضعف. واليوم، تجد السلطة الفلسطينية نفسها في موقف دفاعي على الساحة السياسية، حيث يتعين عليها أن تشرح سبب وجودها وسط تشكيك شعبي وهجمات مستمرة من المعارضين (على سبيل المثال، النقاد الداخليون؛ المنافسون الإسلاميون مثل حركة «حماس»؛ الفصائل الإسرائيلية اليمينية المتطرفة).
ولم يؤدِّ سجل السلطة الفلسطينية البائس في قضايا الحكم والاقتصاد إلا إلى تعميق هذه المشاكل. فوفقاً لاستطلاعات رأي موثوقة، يعتبر حوالي 80% من الفلسطينيين أن السلطة الفلسطينية فاسدة، في حين يرى 60٪ أنها عبء وليست ميزة. فضلاً عن ذلك، لا تتمتع أي من مؤسساتها الرئيسية بشرعية شعبية، ويعود ذلك جزئياً إلى عدم إجراء انتخابات رئاسية منذ عام 2005 أو تشريعية منذ عام 2006.
رداً على ذلك، ازدادت قيادة السلطة الفلسطينية استبداداً، وهو ما يتضح من العمليات الواسعة لاعتقال المنتقدين. كما أن المحاولة الناجحة الوحيدة للإصلاح - التي قام بها رئيس الوزراء السابق سلام فياض قبل عقد من الزمن تحت ضغط من الولايات المتحدة والمانحين الدوليين - باءت بالفشل نتيجة الجهود المشتركة من «حماس»، وحركة «فتح» التي تًعد أكبر فصيل سياسي فلسطيني بزعامة الرئيس محمود عباس. وفي الواقع، أصبحت «فتح» التي كانت حيوية في السابق (رغم أنها ليست ديمقراطية بأي حال)، تشبه الفصائل الحاكمة في الأنظمة الأخرى التي يحكمها حزب واحد. ولم يعد اليوم بالإمكان تمييزها عن السلطة الفلسطينية، فقد أصبحت مبنية إلى حدٍّ كبير على المحسوبية، ومعزولة عن العديد من دوائرها التقليدية، ولم تعد قادرة على تعزيز الانضباط بشكل فعال داخل المجتمعات الفلسطينية.
ونتيجةً لذلك، تضررت بشدة السيطرة السياسية والأمنية للسلطة الفلسطينية على أجزاء معينة من الضفة الغربية. ففي نابلس وجنين، لا يشعر النشطاء المحليون بأنهم مدينون لقيادة السلطة الفلسطينية، مما يفتح المجال أمام ظهور جماعات مسلحة مثل مجموعة "عرين الأسد" ومختلف التحالفات ذات الأغراض المحددة. وعلى الرغم من عدم سيطرة «حماس» على هذه الجماعات، إلا أنها سعت بالتأكيد إلى تشجيعها من خلال مدّها بالدعم المالي والسياسي. وحتى في الخليل حيث لا تعاني السلطة الفلسطينية بنفس القدر من الحالة المتردية، بدأت العشائر المحلية تستحوذ بشكل متزايد على قدر من السلطة لمجرد ضمان الاستقرار.
وتخلق هذه التطورات معضلة كبرى للسلطة الفلسطينية. فمن ناحية، إذا تركت الوضع الأمني يتدهور، فمن شأنه أن يضعف سلطتها ويزعزع الاستقرار. ومن ناحية أخرى، إذا اتخذت إجراءات أمنية غير مستحبة من سكان هذه المناطق، فمن شأن ذلك أن يضعها في مواجهة ليس فقط مع مع العناصر الإرهابية، ولكن أيضاً مع عامة السكان. وقد تجلى هذا الخطر تماماً في أيلول/سبتمبر الماضي عندما حاولت قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية اعتقال مسلحين في نابلس، لكنها قوبلت بحشود كبيرة ومعادية وانسحبت في النهاية. كما أن الضعف السياسي للسلطة الفلسطينية يجعل من الصعب الدفاع عن التعاون الأمني مع إسرائيل الذي لا يحظى بشعبية ولكنه ضروري.
علاوة على ذلك، تزيد الاعتبارات المتعلقة بالخلافة من تعقيد عملية صنع القرار. فبينما يهيئ كبار قادة السلطة الفلسطينية أنفسهم ليحلوا في النهاية محل عباس البالغ من العمر سبعة وثمانين عاماً، إلا أن أياً منهم لا يريد أن يكون مرتبطاً بتدابير أمنية ضد إخوانه الفلسطينيين. ومع ذلك، أدت هذه الديناميكيات إلى حدوث شبه شلل في القمة بينما تتلاشى القاعدة بسرعة.
وبعد أن وجدت السلطة الفلسطينية نفسها عاجزة (أو غير راغبة في بعض الحالات) عن فرض سيطرتها على الأرض، وبحوزتها قلة من الوسائل للتأثير على السياسات الإسرائيلية ذات الصلة، لجأت إلى إجراءات رمزية فارغة في المحافل الدولية. لكن العديد من جوانب استراتيجية السلطة الفلسطينية في الأمم المتحدة - لا سيما تلك التي تؤثر على مجلس الأمن وبعض وكالات الأمم المتحدة - وضعت رام الله في مواجهة مباشرة مع واشنطن. وفي حين أن هذه الخطوات قد تخلق إحساساً مؤقتاً بالحركة، إلا أن فشلها النهائي في تغيير الواقع يرسخ صورة السلطة الفلسطينية محلياً كسلطة عاجزة. وثمة تكتيك دوري آخر تعتمده السلطة الفلسطينية، وهو إعلان تعليق التعاون الأمني، قد يسفر عن تداعيات أسوأ، لا سيما في الحالات التي لا يتطابق فيها هذا الخطاب مع الواقع على الأرض، وبالتالي يخلق تصوراً بأن رام الله تتواطأ صراحةً مع إسرائيل.
الغارة على نابلس
عندما داهمت القوات الإسرائيلية مدينة نابلس في 22 شباط/ فبراير، قُتل أحد عشر فلسطينياً وجُرح حوالي مائة آخرين، من بينهم إرهابيون مسلحون ومارة مدنيون. ويسلط هذا الحادث الضوء على الضرر الذي تُسببه جميع الديناميكيات المذكورة أعلاه - ويمكن أن يؤدي إلى حدوثها بسرعة.
لقد كان توقيت الغارة سيئاً بشكل خاص. فقبل ذلك بيومين، كانت السلطة الفلسطينية قد سحبت مشروع قرار مقترح على مجلس الأمن الدولي يدين النشاط الاستيطاني الإسرائيلي واكتفت بدلاً من ذلك بإصدار بيان غير ملزم تَمثل بتنازل قدمته وسط ضغوط أمريكية ومع انطباع بأن إسرائيل ستحد من توغلاتها في المدن الفلسطينية وتوسعها الاستيطاني في الضفة الغربية. وسرعان ما انقلب كلاهما رأساً على عقب - الأول بسبب غارة نابلس، والأخير في 23 شباط/فبراير عندما أعلنت حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أنه قد تم إعطاء الضوء الأخضر لقيام 7000 وحدة استيطانية جديدة. وليس واضحاً ما إذا كانت هذه الوحدات جزءاً من حل وسط توسطت فيه واشنطن لتجنب مواجهة في مجلس الأمن، ولكن في نظر الجمهور الفلسطيني، أكدت الأخبار ببساطة على ضعف السلطة الفلسطينية. وفي الوقت نفسه، ظهرت تقارير تتحدث عن وجود قناة تواصل بين حسين الشيخ - المساعد الأيمن لعباس وأحد المتنافسين لخلافته - ومستشار الأمن القومي الإسرائيلي، مكذّبةً إعلان السلطة الفلسطينية الأخير عن تعليق التعاون الأمني مع إسرائيل.
وبينما سارعت رام الله للرد - وبشكل رئيسي من خلال التهديد بالعودة إلى مجلس الأمن - دعت مجموعة "عرين الأسد" الفلسطينيين إلى النزول إلى الشوارع. ولم تكن التظاهرات التي لبّت الدعوة ضخمة، لكنها انتشرت في جميع أنحاء الضفة الغربية على الرغم من تنظيمها في وقت غير مناسب خلال منتصف الليل، مما يدل على مدى فقدان السلطة الفلسطينية و«فتح» للسيطرة على الشارع.
التداعيات على السياسة الأمريكية
لا تعني هذه التطورات بالضرورة أن السلطة الفلسطينية على وشك الانهيار، لأنها تستمر في أداء وظائف هامة تحافظ على مكانتها - على سبيل المثال، تظل السلطة الفلسطينية أكبر القطاعات توفيراً للعمالة في الاقتصاد الفلسطيني وتوفر خدمات أساسية مثل الصحة والتعليم. غير أن قدرتها على ممارسة السيطرة السياسية والأمنية واتخاذ القرارات الاستراتيجية باسم الشعب الفلسطيني قد تآكلت بشكل كبير. وفي ظل هذه البيئة، تحاول «حماس» والجماعات المسلحة المستقلة وغيرها من الجهات السيئة ملء الفراغ.
وحتى الآن، ركزت الجهود الأمريكية لمعالجة الوضع على التوسط في تفاهمات أمنية ودبلوماسية بين الإسرائيليين والفلسطينيين لتهدئة التوتر، ووضع تدابير لإعادة السيطرة الأمنية للسلطة الفلسطينية في نابلس وجنين، والبحث في سُبل تمنع حدوث انفجار كبير خلال شهر رمضان، الذي يبدأ في 22 آذار/مارس ويتداخل مع عيد الفصح اليهودي. وهذه الجهود مفهومة وضرورية نظراً لخطورة احتمال التصعيد. وتستحق إدارة بايدن الثناء على عملها مع الأردن ومصر لتحقيق هذه الأهداف، وبلغت هذه المساعي ذروتها في اجتماع العقبة المتعدد الأطراف في 26 شباط/فبراير. إلا إن هشاشة التفاهمات التي تم التوصل إليها في ذلك الاجتماع تؤكد على ضرورة أن تحافظ واشنطن على كثافة المشاركة في هذا المسار.
ومع ذلك، لا بد أن يزداد الوضع سوءاً إذا لم تعالج الولايات المتحدة أيضاً الدوافع الفلسطينية المحلية وراء تآكل شرعية السلطة الفلسطينية. فإذا أرادت واشنطن إنقاذ السلطة الفلسطينية باعتبارها شريكاً فعالاً لها، عليها إعادة ترتيب أولويات قضايا الحكم والإصلاح، وكذلك الضغط على رام الله لفتح الحيز السياسي في الضفة الغربية وتوضيح عملية الخلافة. وفي حين أن المسألة الأخيرة حساسة للغاية وستسفر على الأرجح عن ردود فعل واعتراضات، إلا أن عدم الضغط على عباس ليسمح بظهور مرشحين ممكنين للخلافة سيؤدي إلى إدامة الشلل.
ويقيناً، أن أفضل وسيلة لاستخدام هذا النفوذ هي بناء التحالفات. ومع أنه يتعذر تحقيق أي من هذه الأهداف من دون قيادة الولايات المتحدة، فإن واشنطن ليست في وضع جيد يخوّلها الانخراط مباشرةً في القضايا الداخلية الفلسطينية. بدلاً من ذلك، عليها أن تعمل مع الأطراف المعنية التقليدية، أي الأردن ومصر (اللذين لديهما تأثير كبير داخل دوائر السياسة والحوكمة الفلسطينية)، بالإضافة إلى مختلف الشركاء الأوروبيين، بما يضمن ممارسة القدر الضروري من الضغط على السلطة الفلسطينية مع تأمين الموارد اللازمة لجعل المشروع قابلاً للتطبيق. يجب أن تكون المملكة العربية السعودية جزءاً أساسياً من هذه الاستراتيجية لأنها برزت كمركز ثقل في الدبلوماسية العربية. وهنا، ينبغي أن تتعامل الولايات المتحدة مباشرةً مع الرياض لضمان بقائها طرفاً مفيداً في هذا الجهد.
غيث العمري هو مستشار سابق للسلطة الفلسطينية، وزميل أقدم في "برنامج إيروين ليفي فاميلي" التابع لمعهد واشنطن حول "العلاقات الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وإسرائيل".