- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3650
الاتفاق بشأن الحدود البحرية هو وسيلة «حزب الله» لتجنب الحرب
يبدو أن قادة «حزب الله» غير جاهزين لترجمة تهديداتهم العديدة بالتصعيد على أرض الواقع، لذلك على واشنطن وحلفائها منع الحزب من جني الفوائد المالية والسمعة التي سيجلبها الاتفاق الوليد.
بعد أسابيع من التوترات مع «حزب الله» بشأن مفاوضات الحدود البحرية وحقوق الغاز الطبيعي بين إسرائيل ولبنان، يبدو أن المبعوث الأمريكي آموس (عاموس) هوكستين يقترب من إبرام اتفاق. فوفقاً لـ التقارير الواردة من الجانبيْن، ستحتفظ إسرائيل بجميع الحقوق الحصرية لحقل غاز "كاريش"، في حين سيحصل لبنان على حقل "قانا" بأكمله. ولا تزال بيروت تدرس التفاصيل النهائية، لكن وفقاً لخطاب أمين عام الحزب حسن نصرالله في 17 أيلول/سبتمبر، سيعطي «حزب الله» فرصة لإحلال السلام وسيمتنع عن إطلاق المزيد من التهديدات أو القيام بأعمال عسكرية في الوقت الذي توضع فيه اللمسات الأخيرة على الاتفاق.
وبالفعل، عجّلت التوترات والتهديدات من كلا الجانبين الإطار الزمني للاتفاق وجعلته أولوية بالنسبة للولايات المتحدة، مما دفع بعض المراقبين إلى وصف الشروط المعلنة على أنها تنازل من قبل «حزب الله» عن موقفه القتالي بشأن هذا الموضوع. لكن تاريخ المفاوضات يُظهر أن معظم التنازلات المقدمة كانت من جانب «حزب الله» ولبنان وليس إسرائيل.
ففي عام 2011 على سبيل المثال، أشارت دراسة أجراها الجيش اللبناني إلى أنه يجب تمديد الحدود الجنوبية للمنطقة الاقتصادية الخالصة للبلاد جنوباً من "الخط 23" لغاية "الخط 29"، والذي كان من شأنه أن يضع الجزء الأكبر من حقل "كاريش" في المنطقة الاقتصادية الخالصة للبنان. غير أن الرئيس اللبناني ميشال عون تجاهل هذا الاقتراح وقَبِل بـ "الخط 23" على أنه الحدود البحرية. ومقابل الاعتراف بحقوق إسرائيل الحصرية على "كاريش"، أصرّت بيروت على الاحتفاظ بكامل سيطرتها على حقل "قانا". واستناداً إلى مسح زلزالي طلب لبنان إجراؤه في عام 2013، لم يتضح ما إذا كان حقل "قانا" سيظل مجرد احتمال - قد يكون الحفر مطلوباً لتحديد ما إذا كان يحتوي في الواقع على الغاز وكميته. وفي المقابل، ثبت بالفعل احتواء "كاريش" على الغاز في وقت صدور قرار عون.
يُذكر أن الكثير من اللبنانيين، بمن فيهم مسؤولون عسكريون، يدركون تماماً أن هذه الخطوة هي تنازل كبير لإسرائيل، لكن لـ «حزب الله» حساباته الخاصة. فقد زعمت وسائل إعلامية تابعة للحزب، متوجهةً إلى قاعدة مناصريه، أن الحصول على حقوق حصرية على حقل "قانا" يمثل انتصاراً على إسرائيل - متجاهلة بشكل ملائم واقع أن «حزب الله» غير مستعد ببساطة لخوض حرب أخرى في الوقت الحالي ويفضل طريقة دبلوماسية للخروج من التهديدات التي أصدرها. ولكن بغض النظر عن النوايا النهائية للحزب، يمكن لتوقيع اتفاق بحري أن يسفر عن واقع وسردية جديدين على الحدود الجنوبية مع إسرائيل، وربما تراجع لحدة التوترات.
«حزب الله» لا يريد الحرب حالياً
منذ حربهما في صيف تموز عام 2006، حاولت إسرائيل و «حزب الله» تجنّب الدخول في صراع شامل آخر - على الرغم من الخطاب المتشدد للحزب والجهود التي يبذلها لتوسيع ترسانته، ورغم الهجمات الإسرائيلية المستمرة ضد القواعد العسكرية للحزب في سوريا. ومن هذا المنطلق، هناك أهداف مختلفة لتهديدات «حزب الله» الأخيرة بالحرب، وهي: تسريع وتيرة العملية الدبلوماسية، ووضع اللمسات الأخيرة على الاتفاق البحري، والبدء بالتنقيب عن الغاز.
وخلال السنوات التي أعقبت الحرب الأخيرة، بدا أن «حزب الله» قد توصّل إلى استنتاجين مهمين: أن التهديد باستخدام صواريخه وطائراته المسيرة قد يحقق نتائج أكثر من الأسلحة نفسها، وأن حرباً أخرى يمكن أن يكون لها تداعيات أسوأ على الحزب من تقديم تنازلات لعدوه اللدود. فضلاً عن ذلك، تراجعت جودة قوته القتالية بسبب مشاركته اللاحقة في الحرب السورية، مما أرغمه على اختيار الكمية على حساب النوعية عند تجنيد مقاتلين جدد. ونتيجةً لذلك، أصبحت الكثير من وحدات «حزب الله» حالياً أقل تدريباً وانضباطاً وتقيداً بالإيديولوجية من ذي قبل، لذلك سيحتاج الحزب إلى المزيد من الوقت والموارد والتمويل لإعادة تأهيلها للحرب. وفي غضون ذلك، لن تكون إيران، الراعية الرئيسية لـ «حزب الله»، في وضع مالي جيد لتمويله بالكامل أو إعادة بناء جيشه وترسانته ما لم ينتهِ الجمود في قضية الاتفاق النووي. وبالتالي، تأمل قيادة الحزب في أن يؤدي مجرد التهديد بالحرب إلى دفع الأطراف المعنية إلى إبرام اتفاق عاجلاً وليس آجلاً.
ونظراً إلى التدهور الاقتصادي والمالي الكبير الذي يعيشه لبنان، فإن توق الحكومة للحصول على عائدات جديدة من الغاز ليس مفاجئاً (حتى لو كانت إمكانية تحقيق هذه الإيرادات غير مؤكدة وستستغرق وقتاً طويلاً في المستقبل). ومع ذلك، فإن «حزب الله» تواق بالقدر نفسه إلى جني الفوائد، وذلك لتعزيز شرعيته محلياً وسردية "المقاومة" - التي أصبحت تتلاشى منذ سنوات -وضمان تدفق نقدي مستدام لعملياته سواء في لبنان أو الخارج. ومن شأن اندلاع حرب أخرى أن تؤدي إلى تفاقم هذه المشاكل. وبالفعل، وسط تكثيف الضربات الإسرائيلية في سوريا خلال الأسابيع القليلة الماضية، تمّ استهداف المزيد من مصانع إنتاج الأسلحة والقوافل والمستودعات التابعة لإيران و«حزب الله». حتى أن بعض هذه العمليات امتدت إلى لبنان أيضاً. إن تجديد ترسانة الحزب في ظل هذه الظروف أمر صعب بالفعل، لذا فإن احتمال نشوب صراع شامل والتسبب بأي عرقلة وتعطيل ليست أمراً يرغب «حزب الله» في خوض غماره في الوقت الراهن - وبالتأكيد ليس بسبب قضية ثانوية نسبياً ومفيدة مثل ترسيم الحدود البحرية.
غير أن هذا لا يعني أن «حزب الله» سيقلص بأي شكل من الأشكال مساعيه الرامية لشراء أسلحة. فعلى الرغم من التحديات العسكرية والسياسية المتزايدة، فقد تمكن الحزب من تطوير العديد من القدرات الجديدة منذ عام 2016، حيث قام بتجميع المزيد من الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى، فضلاً عن الصواريخ الدقيقة التوجيه القادرة على إلحاق أضرار جسيمة بالبنية التحتية الحيوية الإسرائيلية على غرار المطارات ومرافق المياه ومحطات توليد الطاقة. وفي الوقت نفسه، يدرك الحزب جيداً أن السعي وراء أهداف مماثلة أساساً سيؤدي إلى رد إسرائيلي قاس.
وبدلاً من ذلك، سعت القيادة العسكرية لـ «حزب الله» تدريجياً إلى تحويل التنظيم من حزب لبناني محض إلى جيش إقليمي، ومكنته من تعزيز صفته كـ "مقاومة" وتحدي المصالح الإسرائيلية والأمريكية بشكل غير مباشر عبر شركائه ووكلائه الإيرانيين في دول أخرى (على سبيل المثال، الميليشيات الشيعية في العراق؛ والحوثيين في اليمن). وتكمن مشكلة هذا النهج في أنه يهدد بإشعال حرب إقليمية تُخلف التداعيات غير المرغوبة نفسها: صراع مباشر مع إسرائيل. لكن حتى الآن، قد يكون «حزب الله» قد قلل من خطورة الأمر أو قرر خوض الرهان.
ومهما كانت الحالة، فإن العديد من الشيعة اللبنانيين الذين لا ينتمون إلى الدائرة الانتخابية الأساسية للحزب (وحتى الذين ينتمون إليها) فهموا جيداً محاولته هذه لإعادة رسم الصورة - ولم يعودوا يعتبرونه حزباً مقاوماً يحارب الظلم والاحتلال والفساد، وبدلاً من ذلك ينظرون إليه على أنه أكثر قليلاً من مجرد عصابة مخدرات يركز على الإنتاج الضخم للكبتاغون وتهريبه. كما أنهم مستاؤون من مساعيه لحماية السياسيين الفاسدين وعرقلة الإجراءات القضائية المرتبطة بانفجار مرفأ بيروت عام 2020.
وإذ يدرك قادة «حزب الله» جيداً هذا الاستياء المتزايد، فإنهم يعتبرون إبرام اتفاق غاز وسيلة لاستعادة بعض الشرعية من خلال الادعاء بأن أسلحة الحزب هي التي تحمي الموارد الطبيعية القيّمة للبنان ضد إسرائيل. وبعد أن خسر الأغلبية التي كان يتمتع بها في مجلس النواب في أيار/مايو، ازداد شعور الحزب بالضعف نظراً إلى احتمال أن يفقده هذا التطور قدرته على إملاء من سيشغل رئاسة الجمهورية في لبنان والأشخاص الذين سيشغلون المناصب الأمنية الرئيسية في البلاد. ويعزز إدراكه بأنه قد لا يلقى تعاطفاً دولياً في حال نشوب صراع آخر [مع إسرائيل]، شعوره بالضعف - من المرجح أن تكون مساعدات إعادة الإعمار بعد الحرب أبطأ وأقل سخاء في المرة القادمة، وستكون أوروبا غاضبة بلا شك من أي خطر قد يتعرض له حقل "كاريش" الإسرائيلي، الذي سيذهب غازه إليهم مباشرة - ناهيك عن ردود الفعل الساخطة المحلية والتي من المحتمل أن تكون هائلة نظراً للنفقات الضخمة والأضرار الجسيمة التي قد يحدثها مثل هذا الصراع. ومع ذلك، شعر «حزب الله» بأنه مضطر على الأقل إلى التهديد بإشعال حرب، لأنه بخلاف ذلك لكان يخاطر بفقدان ماء الوجه لا سيما إذا بدأت إسرائيل من جانب واحد في استخراج الغاز من حقل "كاريش" قبل التوصل إلى اتفاق مع بيروت.
خيارات السياسة
على الرغم من أنه يجدر بواشنطن مواصلة الضغوط للتوصل إلى اتفاق بشأن الحدود البحرية، ، إلا أنه لا يتعين عليها القيام بذلك بطريقة تسمح لـ «حزب الله» 'بالحصول على كل الفضل. فعند أخذ المخاطر العديدة التي يواجهها الحزب في الحسبان، على المسؤولين الأمريكيين عدم اتخاذ خطوات تعزز سلطته محلياً - بما في ذلك أثناء عملية اختيار الرئيس المقبل للبنان. فأي اتفاق مع بيروت يجب أن يسلط الضوء على مؤسسات الدولة وشعبها، وسط التشديد على الدور السلبي لـ «حزب الله» والرئيس ميشال عون في هذه العملية (يستمر الرئيس وحلفاؤه في رفضهم تنفيذ الإصلاحات اللازمة في مجال الطاقة).
وفور إبرام الصفقة وضمان أمن الحدود البحرية، على الحكومة الأمريكية وحلفائها الأوروبيين مواصلة ممارسة الضغوط الدبلوماسية للتأكد من أن الفوائد المالية لغاز حقل "قانا" - إذا كان الحقل يحتوي في الواقع على أي فوائد - تذهب إلى الشعب اللبناني وليس إلى بؤرة الفساد في لبنان. ولن يتحقق ذلك إلا عبر بذل جهود جدية لإصلاح قطاع الطاقة في البلاد - مثل إنشاء صندوق ثروة سيادية. وخلاف ذلك، لن يستفيد لبنان فعلياً من الاتفاق حتى لو تم العثور على كميات وفيرة من الغاز في مياهه.
حنين غدار هي "زميلة فريدمان" في "برنامج السياسة العربية" التابع لمعهد واشنطن، حيث تركز على السياسة الشيعية في مختلف أنحاء المشرق العربي.