- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 2830
الأزمة القطرية على شواطئ المتوسط
على الرغم من أن النقاش حول جذور الأزمة القطرية غالباً ما يركز على التوتر القائم منذ فترة طويلة بين دول الخليج بشأن مصر، وقناة "الجزيرة"، وإيران، والسياسة المحلية، إلا أن الوضع في ليبيا يجسد كيفية تأجج الخلاف على مدى عدة سنوات ليصبح فعلياً حرباً بالوكالة تشنها الإمارات العربية المتحدة والدوحة على أراضي أجنبية. وتتحمل عدة جهات مسؤولية عدم الاستقرار الحالي في ليبيا، من ضمنها الولايات المتحدة وحلفاؤها في "منظمة حلف شمال الأطلسي"، والجهات الفاعلة المحلية الرئيسية. ومع ذلك، فإن التنافس على النفوذ هناك بين قطر والإمارات (إلى جانب مصر)، قد زاد من حدة العنف وأضعف إمكانية الوحدة.
وفي إطار المساعي التي يبذلها وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيليرسون لمعالجة الأزمة القطرية - التي هي أول مبادرة وساطة رئيسية له - لديه فرصة لتقليل التدخل الخارجي إلى حدٍّ كبير الذي أدى إلى تفاقم الشلل السياسي في ليبيا. فالضغط على قطر والدول العربية الأربع المقاطِعة لها (البحرين ومصر والمملكة العربية السعودية والإمارات) لكي تصادق على العملية السياسية التي تدعمها الأمم المتحدة في ليبيا، يتيح لتيليرسون المساهمة بشكل كبير في تحقيق الاستقرار في البلاد بالتزامن مع استلام المبعوث الجديد للأمم المتحدة دفة القيادة.
دعم مشترك للثورة الليبية
في البداية، تولت الإمارات وقطر قيادة الدعم العربي لثوار ليبيا سياسياً ومالياً وعسكرياً. ففي الوقت الذي كانت فيه مصر تتخبط في اضطراباتها الداخلية وكان العاهل السعودي الملك عبدالله يسعى إلى تفادي إعطاء الانطباع بأنه يسعى للانتقام من محاولة الاغتيال التي نفّذها نظام القذافي ضده عام 2003، وقفت أبوظبي والدوحة على رأس تأييد جامعة الدول العربية لإقامة منطقة حظر جوي فوق ليبيا. وأثّر البيان الصادر آنذاك الذي رافقه تصريح مشابه من دول «مجلس التعاون الخليجي»، على قرار الرئيس أوباما بالتدخل في ليبيا، لأنه كان قد أصر سابقاً على وجود دعم إقليمي قبل الإقدام على عمل عسكري في دولة أخرى ذات غالبية مسلمة. وبعد ذلك استضافت قطر والإمارات قمماً وزارية لـ "مجموعة الاتصال الدولية بشأن ليبيا" التي تعتبر المركز الرئيسي للدعم الدولي للمعارضة. وكذلك تقدمت الدولتان باعتراف دبلوماسي للثوار في بداية المعارك واستضافتا ممثلين عن "المجلس الوطني الانتقالي"، الذي هو هيئة المعارضة الرسمية في البلاد.
من الناحية المادية، زودت أبوظبي والدوحة المعارضة ومدينة بنغازي بأحد شرايين الحياة الاقتصادية. فقد استضافت قطر "الآلية المالية المؤقتة" في الدوحة، والتي يمكن من خلالها لدولة الإمارات والجهات المانحة الأجنبية الأخرى تقديم مساعدات إنسانية لـ "المجلس الوطني الانتقالي". وقد أثبت القطريون على وجه التحديد دورهم الجوهري في تزويد بنغازي بالوقود وشراء الصادرات النفطية المحدودة التي أُنتجت في شرق ليبيا خلال الثورة.
أما من الناحية العسكرية، فقد نفّذت هاتان الدولتان الخليجيتان عملياتهما القتالية الأولى على الإطلاق كجزء من عملية "الحامي الموحد" التي أطلقها "حلف شمال الأطلسي" ("الناتو") في ليبيا. والخطوة الأكثر أهمية هي أنهما وفّرتا الأسلحة والدعم بالعمليات الخاصة للثوار - علماً بأنهما اضطرتا لتنفيذ هذه المساعي في السر كونها مخالفة لقرار حظر التسلح الصادر عن مجلس الأمن الدولي في شباط/فبراير 2011. وقد استؤنفت لاحقاً خطوط الإمداد غير المشروعة هذه خلال الحرب الأهلية الليبية ما بين عامي 2014 و2015.
اختلاف سياسي وعسكري
مع تبلور الثورة الأولية، بدأت أبوظبي والدوحة بدعم فصائل مختلفة، فازداد التقارب بين الإمارات ورئيس وزراء "المجلس الوطني الانتقالي" محمود جبريل الذي كان يتولى إدارة العلاقات الدولية للمعارضة. وبإيعاز من جبريل أصبح عارف النايض سفيراً لليبيا لدى الإمارات وأدار فيها خلية تخطيط لشؤون الاستقرار إلى حين حدوث تباعد بين هذين الرجلين في المراحل اللاحقة من الثورة. ومع أن علاقة جبريل بالمقاتلين الثوار كانت محدودة، إلا أنه ساهم في توجيه المساعدات العسكرية الإماراتية للضباط العسكريين المنشقين في شرق البلاد ولميليشيات الزنتان جنوب طرابلس.
وفي المقابل، توجّهت أنظار قطر نحو التيار الإسلامي الأوسع في ليبيا، وتم ذلك جزئياً من خلال الاتصالات الشخصية بين الجانبين. فالشيخة موزة، زوجة أمير قطر في ذلك الحين حمد بن خليفة آل ثاني، ترعرت في بنغازي ويقال أنها أثرت على زوجها لمساعدة الثوار، في حين أن علي الصلابي - وهو رجل دين ليبي مقيم في الدوحة ومقرّب من المعلّق التحريضي على قناة "الجزيرة" يوسف القرضاوي - تربطه علاقة وثيقة بالإسلاميين الليبيين، ومن بينهم عناصر سابقون في «الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة» المرتبطة بـ تنظيم «القاعدة». وقد عمل الصلابي مع سيف الإسلام نجل الرئيس السابق معمر القذافي على برنامج عفو لعناصر «الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة»، من بينهم قدامى المحاربين في الجهاد الأفغاني (على سبيل المثال، عبد الحكيم بلحاج وعبد الوهاب قايد، شقيق المسؤول الثاني في تنظيم «القاعدة» أبو يحيى الليبي). وقد أصبح شقيق الصلابي نفسه، إبراهيم، قائد لواء بارز في بنغازي.
وتفاقمت حدة التوتر بين الميليشيات الليبية والضباط المنشقين بعد اغتيال القائد العسكري للمتمردين عبد الفتاح يونس في ظروف غامضة في تموز/يوليو 2011. وكان يشرف على القوات الخاصة المسؤولة عن اعتقال العديد من الإسلاميين وتعذيبهم، وبالتالي اعتُبر الاغتيال عملية انتقامية إلى حد كبير. من هنا، كانت قطر والإمارات تسيران نحو صراع دموي ليبي طويل الأمد تطوّر نحو الأسوأ بعد عام 2011، سواء أدركتا ذلك حينئذٍ أم لا.
من ثورة إلى حرب أهلية
خلال الثورة، رفرفت الأعلام القطرية في جميع أنحاء بنغازي، وساد الاحترام تجاه الدوحة بين السكان بفضل مساعدتها لـ "المجلس الوطني الانتقالي" وإعاناتها الحيوية. ولكن فترة الخير والرفاه هذه لم تدم طويلاً. فمع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية في حزيران/يونيو 2012، تعرضت الأحزاب السياسية الإسلامية للاتهامات بتقاضي الأموال القطرية، فساهمت هذه التهم في تدني أدائها الانتخابي. ويُذكر أن حزب بلحاج لم يفز بأي مقعد من مقاعد المجلس التشريعي الـ 200، في حين انتُخب القايد في لائحة أسسها عنصر سابق في «الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة». وفي المقابل، فاز تحالف جبريل ذو الفكر العلماني والتوجه الليبرالي الأكبر بأكثرية المقاعد رغم أن جميع الليبين تقريباً هم من المسلمين المحافظين.
لكن سرعان ما تفوّق المشرعون ذوو التوجهات الإسلامية على تحالف جبريل المنقسم، فاستحوذوا على العديد من المقاعد الـ 120 المخصصة للنظام الفردي في المناطق [المختلفة] (تم تخصيص 80 مقعداً فقط لقوائم الأحزاب الوطنية). ومع ذلك، كان الاستياء الإسلامي من العملية الانتخابية قد بدأ. وبحلول عام 2014، حين انتخب الليبيون مجلساً تشريعياً جديداً هو "مجلس النواب"، رفض الإسلاميون القبول بالنتائج. فتعاونت رئاسة "مجلس النواب" في شرق البلاد مع اللواء خليفة حفتر الذي كان قد أطلق "عملية الكرامة" ضد الإسلاميين "الإرهابيين" قبل ذلك ببضعة أشهر. وبدأت هذه الحملة في بنغازي حيث نفّذت العناصر سلسلة من الاغتيالات ضد ضباط أمن حاليين وسابقين. ورداً على ذلك شن الإسلاميون هجوماً مضاداً من خلال تحالف ميليشياتي جديد عُرف باسم "عملية الفجر".
وما لبثت الدول الخليجية أن وجدت نفسها في خضم هذه الحرب الأهلية، حيث ساعدت الإمارات ومصر اللواء حفتر بقصف مواقع "الفجر" في طرابلس في حين دعمت قطر الحملات الإسلامية في مصراتة ومناطق أخرى. واستفادت أبوظبي والدوحة من المسؤولين الحلفاء في الحكومة الليبية الانتقالية لتسهيل نقل الإسلحة إلى حلفائهما المحليين. وقد تلقى "الجيش الوطني الليبي" وشركائه في الشرق عدداً كبيراً من المركبات من الإمارات، في حين وجّهت قطر مساعداتها لعناصر سابقين في «الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة» الذين كانوا قد ضمنوا لهم وظائف في وزارتي الدفاع والداخلية.
وفي الوقت الراهن، هناك تقارير محدودة عن بذل جهود عسكرية قطرية حثيثة في ليبيا. ووفقاً [لتحليل] شركة "جاين" وفريق خبراء الأمم المتحدة المعني بـ "نظام العقوبات الليبي"، قدمت الإمارات ست طائرات مجنحة لسلاح الجو التابع لـ "الجيش الوطني الليبي"، وتعمل اليوم هذه الطائرات من "مطار الخادم" في شرق البلاد، الذي تم بناؤه خلال العام الماضي. ومن غير الواضح من يقود هذه الطائرات ولكن الليبيين ربما لا يملكون القدرة اللازمة لقيادتها بأنفسهم.
ومن الناحية السياسية، بينما تفاوضت الأمم المتحدة على [التوصل إلى] اتفاق لوقف إطلاق النار و [تشكيل]حكومة وحدة وطنية في أواخر عام 2015، ناضلت "حكومة الوفاق الوطني" التي نشأت عن هذه المفاوضات لاكتساب الشرعية داخل ليبيا. فاللواء حفتر يواصل السعي وراء مصادر الدعم المستقل - بالإضافة إلى طلبه المساعدة من روسيا، قام بزيارة رئيس الإمارات الفعلي الأمير محمد بن زايد، كانت آخرها هذا الشهر. وأفادت المعلومات الرسمية عن لقائهما في مطلع تموز/يوليو أن الأمير هنّأ حفتر على تحرير بنغازي التي نجحت قوات اللواء أخيراً في السيطرة عليها هذا الشهر بعد ثلاث سنوات على إطلاق "عملية الكرامة". ولم يشر النص إلى "حكومة الوفاق الوطني" أو الأمم المتحدة.
وفي الوقت نفسه، وضعت الدول الخليجية التي تُقاطع قطر حالياً خمسة ليبيين على لائحة تضم 59 شخصاً وصفتهم بالأمثلة عن الدعم القطري للإرهابيين والمتطرفين، وهم بلحاج، وعلي وابراهيم الصلابي، ومهدي الحاراتي، وهو قائد لواء إسلامي في طرابلس، ومفتي ليبيا المتطرف صادق الغرياني الذي فرّ مؤخراً إلى تركيا بعد محاولة لاغتياله على ما يبدو. وقد استلهم "مجلس النواب" من لائحة التحالف المذكورة ليصنف بعد ذلك 75 ليبياً على لائحة الإرهاب، من بينهم أعضاء حزب سياسي محلي تابع لـ جماعة «الإخوان المسلمين»، ومموّلين مزعومين، وقادة ميليشيات إسلامية. وهناك العديد من المواطنين الأمريكيين على لائحة "مجلس النواب".
وساطة تيلرسون
إذا كانت الأزمة الخليجية الراهنة تهدد فعلياً إمكانيات توسيع مدى عمل القوة الوطنية لدى قطر، فمن الممكن أن تتسبب بترجيح كفة ميزان القوى في ليبيا لصالح اللواء حفتر، الأمر الذي يحتمل أن يثير هجوم على مواقع تسيطر عليها ميليشيات مصراتة أو حتى على طرابلس نفسها، ولن ينجم عن هذا التطور إلا المزيد من العنف ونهاية "حكومة الوفاق الوطني" الهشة، في الوقت الذي يحاول فيه المبعوث الجديد للأمم المتحدة غسان سلامة إحياء مفاوضات الوحدة.
وبالتالي، في إطار جهود الوساطة التي يبذلها الوزير تيليرسون، ينبغي عليه أن يطلب من جميع الأطراف دعم عملية السلام التي تقودها الأمم المتحدة في ليبيا. وعلى وجه التحديد، عليه أن يطلب من قطر التعهد بقطع دعمها لحلفائها في ليبيا، ومن الإمارات ضمان انضباط حفتر خلال سير المفاوضات التي تجريها الأمم المتحدة، من خلال السماح لليبيين أنفسهم بتحديد الدور المناسب للواء حفتر. فإذا تغاضى تيليرسون عن ذكر ليبيا في محادثاته الخليجية، سوف يزيد احتمال تجدد العنف - ونو احتمال خطير في الوقت الذي يعود فيه على الأرجح مقاتلو تنظيم «الدولة الإسلامية» من سوريا إلى بلادهم، ويستعد البنتاغون، وفقاً لبعض التقارير، لنشر قوات خاصة للمساعدة في تحقيق الاستقرار في ليبيا.
بين فيشمان، هو مساعد باحث سابق في معهد واشنطن، وعمل مديراً لشؤون شمال أفريقيا في "مجلس الأمن القومي" في الفترة 2011 - 2013.