- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
الدبلوماسية التجارية في الشرق الأوسط
خلال الحملة الانتخابية التي قام بها مؤخراً الرئيس الأمريكي المنتخب، لم يعرب دونالد ترامب عن ميلٍ كبير إلى اتفاقيات التجارة الحرة. ولكن في الشرق الأوسط هناك اتفاقية واحدة على الأقل تستحق نظرة ثانية، وهي بروتوكول «المناطق الصناعية المؤهلة» بين مصر وإسرائيل، الذي عزز التعاون بين البلدين بما تخطى حدود الشؤون الأمنية التقليدية [ليتوسّع] إلى روابط اقتصادية بفضل توجيه من الدبلوماسية التجارية الأمريكية. وساهم أيضاً في إنقاذ صناعة الغزل والنسيج المصرية، وإفادة الآلاف من الشركات، واستحداث المئات من الوظائف.
يفترض بـ «المناطق الصناعية المؤهلة» أن تكون امتداداً لاتفاقية التجارة الحرة بين الولايات المتحدة وإسرائيل من عام 1985. وقد بدأت جولة المحادثات الأولى في تموز/يوليو 2003 حيث هدفت المفاوضات إلى تفضيل التعامل مع الأسواق الأمريكية للصادرات من مناطق محددة في مصر. ومن جانبهم، أراد المصريون تفادي الانتكاسات المستقبلية الناجمة عن التغيرات في نظام الحصص الخاص بالمنسوجات لدى "منظمة التجارة العالمية" وكانوا يحاولون تقليد «المناطق الصناعية المؤهلة» في الأردن وضمان اتفاق للتجارة الحرة مع الولايات المتحدة. أما الإسرائيليون فكانوا يتطلعون إلى إضفاء الشرعية على العلاقات التجارية التي كانت قائمة لسنوات بين الشريكين دون اعتراف علني.
واستمر الطرفان بدعم «المناطق الصناعية المؤهلة» حتى كانون الأول/ديسمبر 2004، حين أقدم أخيراً وزير الصناعة والتجارة المصري آنذاك رشيد محمد رشيد والوزير الإسرائيلي في ذلك الحين إيهود أولمرت على التوقيع على اتفاق تحت إشراف الممثل التجاري الأمريكي روبرت زيليك. وفي ذلك الوقت، كانت واشنطن تنتهج استراتيجية أوسع نطاقاً وطويلة الأجل في الشرق الأوسط تهدف إلى تعزيز الاستقرار السياسي والاقتصادي عبر زيادة الحركة التجارية والاستثمارية لدول المنطقة مع الولايات المتحدة. ولذلك اعتبرت واشنطن بروتوكول «المناطق الصناعية المؤهلة» أداةً فعالة لتشجيع مصر على تحرير اقتصادها والتعامل مع جيرانها والعالم.
واليوم تضم «المناطق الصناعية المؤهلة» الإسكندرية ومنطقة القاهرة الكبرى ومنطقة وسط الدلتا ومنطقة قناة السويس وصعيد مصر (مصر العليا). يتعين على السلطات الإسرائيلية والمصرية أن توافق معاً على مكان محدد ليصبح «منطقة صناعية مؤهلة»على أن يكون القرار مستنداً على إحصاءات فعلية للصادرات وإمكانات التصدير وعدد العمّال المحتملين.
وتخضع هذه المناطق لرقابة لجان مشتركة من كلا البلدين تحدد ما إذا كانت الشركات العاملة داخل المنطقة تستوفي قواعد المنشأ المنصوص عليها في الاتفاقية. وتأتي هذه المدخلات التي تشكل نسبة 35 في المائة من مصر وإسرائيل والولايات المتحدة، في حين قد تأتي نسبة الـ 65 في المائة المتبقية من أي مكان في العالم. وبعد التوقيع على البروتوكول، انخفضت المدخلات الإسرائيلية من 11.7 في المائة إلى 10.5 في المائة. ومع ذلك، سعت مصر منذ ذلك الحين إلى خفضها بنسبة 2 في المائة.
جدارة
أثبتت «المناطق الصناعية المؤهلة» جدواها مراراً وتكراراً. فمن جانبها، حققت إسرائيل زيادة صغيرة في صادراتها إلى مصر، كما أن التوقيع العلني على الاتفاقية جاء بمثابة خطوة إلى الأمام نحو رفع الحظر على الدول العربية فيما يتعلق بالتعامل التجاري المحرّم مع الدولة اليهودية.
وبالنسبة للجانب المصري، كانت هذه المناطق ضرورية في عام 2004 لإنقاذ صناعة الغزل والنسيج في البلاد. فقد كانت "اتفاقية الأنسجة المتعددة" التي ترعى تجارة المنسوجات العالمية قد أوشكت على الانتهاء، مما عنى آنذاك أنه سيتم قريباً فرض الرسوم على الصادرات المصرية. وفي المقابل، قد تجد مصر صعوبة كبيرة في منافسة بنغلاديش والصين والهند وباكستان في السوق الأمريكية. ولكن بعد إنشاء «المناطق الصناعية المؤهلة»، ارتفعت صادرات الملابس الجاهزة المصرية من 288.3 مليون دولار في عام 2005 إلى 636.2 مليون دولار في عام 2006 لتصل إلى 842.4 مليون دولار في عام 2015.
وكانت «المناطق الصناعية المؤهلة» أيضاً بمثابة طوف نجاة خلال الانهيار الاقتصادي العالمي مؤخراً. ففي عام 2008، بدأت الصادرات المصرية تهوي مع تراجع أسعار النفط، إلا أن تجارة «المناطق الصناعية المؤهلة» حافظت على متانتها. ووفقاً لـ "اتحاد الصناعات المصرية" في عام 2009، ارتفعت صادرات المنسوجات والملابس الجاهزة إلى الولايات المتحدة في الأشهر العشرة الأولى من عام 2008 بنسبة 15 في المائة مقارنةً بالفترة نفسها من عام 2007. وقد تراجعت الصادرات المصرية الإجمالية بنسبة 7.5 في المائة خلال الفترة نفسها.
واعتباراً من عام 2015، ساهمت «المناطق الصناعية المؤهلة» في استحداث 280 ألف وظيفة في قطاع الغزل والنسيج والملابس. وبعد أن كان عدد الشركات المرخصة من «المناطق الصناعية المؤهلة» يصل إلى 397، توسعت هذه اللائحة الأولية لتضم أكثر من 700 شركة. ومنذ بدء العمل بـ «المناطق الصناعية المؤهلة»، ارتفعت صادرات المنسوجات والملابس المصرية إلى الولايات المتحدة من 288.3 مليون دولار في عام 2005 إلى 842.4 مليون دولار في عام 2015 (وتمثل تلك الصادرات 45 في المائة من إجمالي الصادرات المصرية إلى الولايات المتحدة). وبفضل هذه السوق المزدهرة، بدأ المستثمرون من الدول الآسيوية يتطلعون إلى صناعة الملابس في مصر كوسيلة لتفادي الرسوم الأمريكية المرتفعة على الملابس الجاهزة. على سبيل المثال، تمر الشركات المصرية حالياً في المراحل الأولى من الترويج لمبادرة إنشاء باحات للأنسجة داخل «المناطق الصناعية المؤهلة» الراهنة.
وإدراكاً للأهمية الكبرى التي تتحلى بها «المناطق الصناعية المؤهلة»، شدد السفير الأمريكي في مصر ستيفن بيكروفت في تشرين الثاني/نوفمبر 2016 على التزام الولايات المتحدة بهذا البرنامج كوسيلة لضمان "اقتصاد مصري ناجح ومزدهر". وكذلك يواصل المسؤولون المصريون دعم هذه المناطق كوسيلة لتوسيع العلاقات الاقتصادية مع الولايات المتحدة والتصدي للمشاكل الاقتصادية التي تعاني منها البلاد منذ وقت طويل. وفي عام 2015، أعاد وزير الصناعة والتجارة المصري منير فخري عبد النور التأكيد على أهمية «المناطق الصناعية المؤهلة» في اجتماع مع ديفيد ثورن، كبير مستشاري وزير الخارجية الأمريكي، معلناً نية مصر بضم المزيد من المناطق الجغرافية إلى الاتفاقية، وخاصة في صعيد مصر.
ومن الجانب الإسرائيلي، أعلن مدير مكتب الشرق الأوسط في وزارة الاقتصاد الإسرائيلية غابي بار بعد لقاءٍ جمعه بنظرائه المصريين أن الجانبين سيدرسان إمكانية توسيع «المناطق الصناعية المؤهلة» "لكي يسهم الاتفاق بشكل أكبر في الاقتصاد المصري، وفي الصناعة الإسرائيلية، والعلاقات السلمية بين إسرائيل ومصر".
فرص جديدة
من المؤكد أن اتفاقية «المناطق الصناعية المؤهلة» لم تحقق كامل إمكاناتها. ففي مقابلة أجريت مع رجل أعمال مصري بارز في كانون الأول/ديسمبر الماضي، قال إنه "إذا أجدنا استخدام «المناطق الصناعية المؤهلة»، من الممكن أن نصل إلى صادرات تتراوح بين 5 و10 مليارات دولار عوضاً عن 900 مليون دولار". وأوضح أن "مصر تحصل على إعفاء من الرسوم الجمركية بفضل «المناطق الصناعية المؤهلة»، ولكن لا تزال هناك دول أخرى في العالم تفتقر إلى هذه الميزة علماً بأن صادراتها إلى أمريكا أعلى بعشرة أضعاف".
والمشكلة الأخرى المطروحة هي العمالة. فمعظم العمّال لا يجدون أي عامل جذب اقتصادي في وظائف قطاع الملابس داخل «المناطق الصناعية المؤهلة»، بل يفضّلون الوظائف ذات الرواتب الأعلى في مجال التصنيع أو الإدارة أو التجارة أو الحكومة، أو يفضلون السفر للعمل في الخارج. وحيث يمكن للعاملات أن تلعبن دوراً في هذا القطاع من خلال الهجرة الداخلية، قد يصعب هذا الأمر بسبب العادات الثقافية السائدة. كما أن أرباب العمل يواجهون نسبة عالية من التغّيب عن العمل وتبدّل العمّال في المناطق الخاصة. ولهذا الأمر تأثيرٌ كبير في المناطق الشمالية كالإسكندرية والاسماعيلية وبور سعيد حيث تتواجد غالبية الشركات المصدّرة.
وقد نظرت الشركات المصدرة في توظيف الأجانب، ولكن وفقاً للقانون المصري رقم 12 لعام 2003، لا يمكن أن يتخطى معدل عدد العمال الأجانب العاملين في الشركات نسبة العشرة في المائة. ولا توجد بيانات موثوقة عن العدد الدقيق للعمال الأجانب في مصر، لأن غالبيتهم يعملون بشكل غير رسمي. ومع ذلك، يقدّر بعض المسؤولون في وزارة العمل والصناعة عدد العمال الأجانب في «المناطق الصناعية المؤهلة» ما بين 8,000 و 10,000 عامل. ويأتي معظمهم من بنغلاديش والهند وسري لانكا.
وجزيئاً، تعتبر مشكلة العمالة سبباً في تفضيل المفاوضين توسيع الاتفاقية إلى منطقة صعيد مصر، لأنها تتمتع باستقرار أكبر من ناحية العمالة. ومن جهتها، وافقت وزارة التجارة الأمريكية في عام 2013 على جعل «المناطق الصناعية» في بني سويف والمنيا مؤهلة لتصدير البضائع المعفاة من الرسوم إلى السوق الأمريكية.
وعلى أية حال، عادت «المناطق الصناعية المؤهلة» بالمنفعة على كافة الأطراف. فمن وجهة النظر الإسرائيلية، سهّلت عليها هذه المناطق القيام بأعمال تجارية مع الدول العربية. ومن وجهة النظر المصرية، أنقذت هذه المناطق صناعة الغزل والنسيج لديها وعززت قدرتها على الوصول إلى الأسواق الأمريكية. وفي الوقت نفسه، نجحت واشنطن في الاستفادة من نفوذها الاقتصادي لتعزيز السلام في المنطقة.
يجدر بإدارة ترامب أخذ هذا النموذج بعين الاعتبار. عليها أن تتبنى هذه الدبلوماسية التجارية لكي تستمر في دعم السلام الطويل الأمد بين الدولة اليهودية والبلد العربي الأكثر اكتظاظاً بالسكان، الأمر الذي قد يرسخ الاستقرار في منطقة تعمّها الفوضى.
هيثم حسنين هو زميل "غليزر" في معهد واشنطن.
"فورين آفيرز"