- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
الذكرى الـ 75 لـ «عملية الشعلة» وميلاد الوجود الأميركي في المنطقة إعادة نظر جذرية لأصول السياسة الأميركية في الشرق الأوسط
نُشرت هذه المقالة في الأصل من على موقع "المجلة"
*كانت عملية الشعلة على المستويين السياسي والعسكري، مقامرة كبرى. تحت وطأة الضغوط من أجل فتح جبهة ثانية لتخفيف شدة دفع هتلر باتجاه الاتحاد السوفياتي
* في الثامن من نوفمبر في عام 1942، قبل عام ونصف العام من غزو الحلفاء لنورماندي، غزا ما يقرب من 110 آلاف جندي أميركي وبريطاني شمال أفريقيا
* عملية الشعلة هي أول عملية هجومية تشنها أميركا في ساحة الحرب الأوروبية، وحتى تنفيذ عملية أوفرلورد الخاصة بإنزال نورماندي ،كانت أكبر عملية برمائية في التاريخ.
* لقي 1100 جندي من قوات الحلفاء حتفهم في القتال بعملية الشعلة، وهو نصف العدد الذي قُتل في بيرل هاربور، وربع العدد الذي سقط في غزو نورماندي بعد ذلك
* وضع تعهُد ترومان بحماية تركيا واليونان من التوسع السوفياتي جزءاً كبيراً من منطقة الشرق الأوسط تحت مظلة أميركا في الحرب الباردة.
* قادة مسلمون: «تقليص حقوق اليهود لا يؤدي إلى زيادة حقوق المسلمين».
* قاد الرئيس بيل كلينتون وفداً كبيراً إلى فرنسا للاحتفال بذكرى مرور 50 عاماً على عملية إنزال نورماندي، وقبل ذلك بعامين لم يحظ اليوبيل الذهبي لعملية الشعلة بأي قرار من الكونغرس أو حتى بيان من الرئيس بوش الأب حينئذ
* جاء الربيع العربي وذهب، وفي أعقابه اشتعلت أعمال عنف واضطرابات، واستفاد رئيسان متعاقبان، أحدهما ديمقراطي والآخر جمهوري، من العودة إلى السياسات القديمة.
في الثامن من نوفمبر (تشرين الثاني) في عام 1942، قبل عام ونصف العام من غزو الحلفاء لنورماندي، غزا ما يقرب من 110 آلاف جندي أميركي وبريطاني شمال أفريقيا. خرجوا في أكثر من 850 سفينة من الموانئ الأميركية والبريطانية، وأبحروا لمسافة تصل إلى 4500 ميل عبر مياه المحيط الأطلسي الغادرة التي تمتلئ بغواصات يو – بوت النازية، وبمجرد وصول السفن إلى وجهتها، رست على الشاطئ في ثلاث مناطق إنزال منتشرة على طول الساحل لمسافة تزيد على 900 ميل من جنوب الدار البيضاء إلى شرق الجزائر.
إنها عملية الشعلة، أول عملية هجومية تشنها أميركا في ساحة الحرب الأوروبية، وحتى تنفيذ عملية أوفرلورد الخاصة بإنزال نورماندي كانت أكبر عملية برمائية في التاريخ. في الوقت الحالي، طوى النسيان العملية تماماً. ولكن بعيداً عن مقارنتها بنورماندي من حيث الحجم والتعقيد والمخاطر، كان لعملية الشعلة أيضاً تداعيات هائلة، وذلك لأنها ساعدت على تحديد المسار المستقبلي والنتيجة النهائية الناجحة للحرب. لو لم تكن عملية الشعلة كبيرة بما يكفي، لظلت جديرة بالتذكر لدورها المهم في وضع شروط للعلاقات الأميركية طويلة الأجل مع معظم قادة الشرق الأوسط وشعوب المنطقة ومن بينهم اليهود، الذين أدوا دوراً محورياً في هذه القصة بأكثر من طريقة.
1 – معركة منسية في الحرب العالمية الثانية
كانت عملية الشعلة، على المستويين السياسي والعسكري، مقامرة كبرى. تحت وطأة الضغوط من أجل فتح جبهة ثانية لتخفيف شدة دفع هتلر باتجاه الاتحاد السوفياتي، وجد الرئيس فرانكلين روزفلت ذاته محاصراً بين نصيحة جنرالاته الذين يحثونه على غزو مبكر وهائل لفرنسا التي يحتلها النازيون، وتحذير ونستون تشرشل بعد معركة دنكيرك، إذ كان يخشى أن بلاده المحاصرة سوف تنهار إذا لحقت بها هزيمة أخرى.
وقف فرانكلين روزفلت إلى جانب حليفه البريطاني، وتبنى فكرة تشرشل البديلة: وهي خطة جريئة للإحاطة بقارة أوروبا والبدء في مسيرة طويلة صوب برلين، عن طريق غزو إمبراطورية شمال أفريقيا التي كان يحتلها في ذلك الوقت الفرنسيون الفيشيون المتواطئون مع ألمانيا.
وعن طريق الشجاعة والحيلة والحظ، حققت عملية الشعلة – بقيادة الجنرال دوايت أيزنهاور الذي قاد غزو نورماندي بعد ذلك بتسعة عشر شهراً، وكانت حينها في أول قيادة ميدانية له – مفاجأة استراتيجية إلى حد ما. انخدع الألمان الذين كانوا يتولون مراقبة الأسطول الأنجلو – أميركي، إذ ظنوا أن أغلبه متجه نحو مالطة، واستطاع الغزاة في النهاية التغلب على الدفاعات الفرنسية في ثلاثة أيام فقط.
ومع ذلك لم تكن العملية يسيرة، فقد لقي 1100 جندي من قوات الحلفاء حتفهم في القتال، وهو نصف العدد الذي قُتل في بيرل هاربور، وربع العدد الذي سقط في غزو نورماندي بعد ذلك. ولكن في النهاية، بفضل تضحياتهم، استطاعت القوات الأميركية والبريطانية أن تجد موطئ قدم لها في الساحل الجنوبي للبحر المتوسط، والذي توسعوا فيه بعد ذلك باتجاه تونس شرقاً، وأخيرا عبروا منه إلى إيطاليا متجهين شمالاً عبر ما وصفه تشرشل في عبارة شهيرة بـ«نقطة ضعف» أوروبا. لماذا إذا أصبحت الشعلة عملية مجهولة خارج قائمة انتصارات الحرب الأميركية؟ في عام 1994، قاد الرئيس بيل كلينتون وفداً كبيراً إلى فرنسا للاحتفال بذكرى مرور 50 عاماً على عملية إنزال نورماندي، وقبل ذلك بعامين لم يحظ اليوبيل الذهبي لعملية الشعلة بأي قرار من الكونغرس أو حتى بيان من الرئيس بوش الأب حينئذ، وقد كان محارباً قديماً يحمل أوسمة من الحرب العالمية الثانية. في العام الحالي، في أول احتفال على الإطلاق، سيتم إحياء ذكرى الشعلة عند النصب التذكاري للحرب العالمية الثانية في واشنطن. بعد مرور 75 عاماً، سيحضر عدد قليل متبقٍ من المحاربين القدامى الذين شاركوا في عملية الشعلة تلك اللحظة. وإذا لم يكن هناك اهتمام رسمي بذكرى عملية الشعلة، فلا يختلف حال الثقافة الشعبية عنه كثيراً. في الحقيقة، قد تدور قصة أشهر فيلم أنتج عن الحرب بأكملها حول شخصية محورية أميركية تحارب بمفردها من أجل الحب والحرية في الدار البيضاء التي يسيطر عليها الفيشيون، ولكن لم يسجل عمل فني واحد كبير المكاسب العسكرية التي حققتها الشعلة. (أقرب فيلم لذلك هو «على ضوء الشموع في الجزائر» Candlelight in Algeria، بطولة جيمس ماسون في دور جاسوس بريطاني في الجزائر قبل عملية الغزو). ساهم ريتشارد بورتون وروك هيودسون في شهرة الانتصارات البريطانية في طبرق والعلمين، ولكن لا يوجد في أرشيف الأفلام الأميركية ما يوازي ذلك عن عمليات إنزال الشعلة في آسفي أو أوران أو سيدي فرج، ناهيك بنسخة شمال أفريقية شبيهة بفيلم «إنقاذ الجندي ريان».
وبغض النظر عن سبب هذا الإبعاد لأول مواجهة عسكرية لأميركا مع أرض عربية منذ حروب البربر لتحتل حاشية سفلية في ذاكرة الشعب الأميركي، صدرت متأخرا كتب مثل «جيش في الفجر» تأليف ريك أتكينسون (2002) لتبدأ في إصلاح الأمر.
تستحق عملية الشعلة مساحة أعمق في ذاكرتنا، ليس بسبب حقيقة أنها كانت نقطة تحول محورية في الحرب فحسب، بل مما لا يحظى بمعرفة وتقدير كافٍ التأثير الذي حققته العملية على موضوع آخر، كما أشرت في المقدمة، ما زالت أصداؤه تتردد حتى اليوم: وهو تحديداً وضع السياسة الأميركية في الشرق الأوسط.
2 – صياغة سياسة حديثة في الشرق الأوسط
متى تمت صياغة سياسة أميركية حديثة في الشرق الأوسط؟ قد يتبادر إلى الأذهان حدثان بارزان وقعا في فترة مبكرة.
كان أولهما اجتماع الرئيس الأميركي روزفلت في مارس (آذار) عام 1945 مع الملك عبد العزيز بن سعود، مؤسس المملكة العربية السعودية. وضعت محادثتهما، التي أقيمت على متن السفينة يو إس إس كوينسي أثناء رحلتها في البحيرة المرة الكبرى في مصر، أساس العلاقات الأميركية مع المملكة على مدى سبعة عقود مضت.
أما الحدث الثاني، فهو قرار مايو (أيار) عام 1948 الذي اتخذه رئيس آخر، هاري ترومان، بتجاهل نصيحة جورج مارشال، بطل الحرب الذي أصبح وزيراً للخارجية، وإعلان الاعتراف الدبلوماسي الأميركي بدولة إسرائيل الوليدة.
ومن المؤكد أن هناك لحظات أخرى لاحقة تسترعي الانتباه أيضاً. وضع تعهُد ترومان بحماية تركيا واليونان من التوسع السوفياتي في 1947 – 1949 في النهاية جزءاً كبيراً من منطقة الشرق الأوسط تحت مظلة أميركا في الحرب الباردة، واستهلت زيارات هنري كيسنجر الدبلوماسية المكوكية في الفترة ما بين 1973 – 1974 تركيز أميركا على «عملية السلام» التي حازت اهتماماً رئاسياً منذ ذلك الحين، كذلك أدى قرار جورج بوش الأب بقيادة تحالف دولي لصد غزو صدام حسين للكويت عام 1990 إلى تورط أميركي في العراق على مدار ربع قرن. ولكن يظل التاريخ الحديث للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط إلى حد كبير سجلاً للجهود الرئاسية الرامية إلى تخفيف حدة الصراعات والتناقضات في علاقات أميركا مع حليفتين مختلفتين تماماً – السعودية وإسرائيل – وإيجاد التوازن السحري بين الالتزامات التي تم التعهد بها بشكل منفصل إلى العرب وإلى الإسرائيليين. إذن أين موقع عملية الشعلة في هذا التاريخ؟
لا يرجع السبب إلى أن الشعلة كان لها تأثير عسكري دائم على المنطقة. فلم تكن كذلك. بخلاف عدد من منشآت الحرب الباردة المؤقتة في المغرب، والتي أُغلقت جميعاً في أوائل الستينات، لم ينتج عن انتصار أميركا في شمال أفريقيا إنشاء قواعد بحرية أو مطارات أو عمليات انتشار طويلة الأجل.
يوجد معلمان تاريخيان عرضة للنسيان، أحدهما خارج الدار البيضاء والآخر بالقرب من الأطلال الرومانية لمدينة شرشال في الجزائر، ويشكلان الدليل الوحيد على الغزو. كذلك لا توجد أي مقبرة تدل على وجود الجنود والبحارة والطيارين الأميركيين الذين سقطوا في المغرب أو الجزائر، فإما أعيدت الجثامين إلى الديار وإما دُفنت في مقبرة واحدة في ساحة المعركة بتونس.
بل كان تأثير الشعلة الدائم سياسياً. في الساعات التالية مباشرة لوصول القوات الأميركية الأولى إلى بر العاصمة الجزائرية، عاصمة إمبراطورية فرنسا في شمال أفريقيا، تم اتخاذ قرارين رئيسيين من شأنهما إحداث تأثير عميق على الحرب وعلى الدور الأميركي طويل الأمد في الشرق الأوسط.
كان القرار الأول لأجل محاربة فرنسا الفيشية، ولكنه في النهاية أصبح لأجل احتضان القادة الفيشيين المحليين والجوانب الأساسية لسياساتهم. يرجع أصل هذه القصة إلى ما قبل عملية الشعلة بفترة طويلة.
في يونيو (حزيران) عام 1940، بعد انهيار فرنسا في ميدان المعركة والهدنة اللاحقة التي أبرمتها مع ألمانيا النازية، أسس المارشال فيليب بيتان دولة فرنسية في مدينة فيشي. وبعد ذلك بفترة وجيزة، استهوت كلا من روزفلت وتشرشل فكرة البحث عن فرنسيين عسكريين يمكنهم أن يكسروا قبضة فيلق الضباط الفرنسيين التابعين لبيتان، بطل معركة فردان، و«تحويل» الجيش الفرنسي من التعاون مع النازيين إلى الاشتراك مجدداً مع الحلفاء.
لم يكن العثور على الشخص المناسب بالأمر اليسير. لم يكن شارل ديغول الجنرال الشجاع ذو الكاريزما، الذي قاد المحاربين الفرنسيين الأحرار من معقله في لندن، شخصاً يُتوقع له النجاح، حيث استهان به الكثير من الضباط الفرنسيين الذين بقوا في الخدمة، ووصفوه بالانتهازي الذي كسر تسلسل القيادة وهرب من ميدان المعركة.
(فيما بعد سيتعرض للهجوم بسبب إعطائه غطاء للهجوم البريطاني على الأسطول الفرنسي الموجود في ميناء المرس الكبير الجزائري ولقيادة الهجوم الفرنسي الفاشل على قوات فرنسية في داكار).
وعلى مدار العامين التاليين، بحث دبلوماسيو وضباط وجواسيس الحلفاء بقيادة روبرت ميرفي، مبعوث روزفلت الخاص في شمال أفريقيا، عن مرشح دون جدوى. أثبت واحد تلو الآخر أنه إما كبير في السن أو جبان أو متأثر بعمق بأفكار بيتان. في النهاية، استقر الحلفاء على الجنرال هنري جيرو، قائد فرقة اشتهر في الحربين العالميتين لأنه هرب من معسكرات أسرى الحرب الألمانية. ونظراً للثناء الذي حظي به باعتباره وطنيا فرنسيا لا يمكن إيقافه وبطلا يملك حيلة واسعة، قدم له بيتان المتردد الملاذ الآمن.
ومع بداية عملية الشعلة، خطط الحلفاء لنقل جيرو إلى العاصمة الجزائرية، حيث كان نائبه السابق وناصره المخلص الجنرال تشارل ماست يتولى منصب رئيس أركان القوات الفرنسية، ولتنصيبه قائداً للقوات الفرنسية في شمال أفريقيا. ولكن كان لدى جيرو الذي يشعر بتضخم الذات أفكار أخرى. فقد قضى الساعات القلقة وقت الإنزال لعملية الشعلة على جبل طارق في نقاش مع أيزنهاور حول لقبه وسلطاته. طلب جيرو أن يتم تعيينه قائداً لجميع قوات الحلفاء. وفي أثناء إنزال السفن لعشرات الآلاف من الجنود الأميركيين والبريطانيين عبر الساحل الشمالي الأفريقي، يذكر أيزنهاور أنه كان مع جيرو في غرفة تحت سطح السفينة يتشاجران بشأن الرتبة فيما وصفها بـ«واحدة من أكثر المناقشات التي سببت له ضيقاً في الحرب».
وفي صباح اليوم التالي، أعاد جيرو التفكير، ولكن كان الوقت قد فات. وجد ميرفي، الذي كاد أن يفشل في المهمة الرئيسية التي كلفه بها روزفلت – وهي منع القادة الفرنسيين الفيشيين من إصدار أوامر إلى رجالهم بإطلاق النار على القوات القادمة إلى الشاطئ – شخصاً لإنجاح المهمة. وبالمصادفة، كان الأدميرال جون فرنسوا دارلان، نائب بيتان ووريثه المُعَيَّن، في الجزائر. على الرغم منه أنه كان متعاوناً مع الألمان، فإنه كان أولاً وقبل كل شيء انتهازياً، فقد أدرك بسرعة أن الغزو قد يُحوِّل ميزان القوى في شمال أفريقيا. وبالتالي اقترح إبرام صفقة: في مقابل الاعتراف به كمفوض سامٍ فرنسي لشمال أفريقيا وغربها وقائد لجميع القوات البرية والبحرية والجوية الفرنسية في المنطقة، سيضمن وقف الأعمال العدائية الحالية، ووصول الحلفاء بلا قيود عبر المغرب والجزائر إلى ملاقاة الألمان في تونس.
وافق ميرفي وميجور جنرال مارك كلارك، نائب أيزنهاور، على الصفقة، وانسحب المدافعون الفرنسيون في النهاية. ولكن ماذا كان يعني هذا؟ في ظل التأييد الصريح للقوات الأميركية، سيستعيد الفيشيون الفاشيون الآن السلطة والصلاحيات في المنطقة. ومع أن تحرير شمال أفريقيا كان ضمن الأهداف الأساسية لعملية الشعلة، تحول الأمر، في غضون ساعات من إنزال القوات، إلى عملية ضيقة النطاق لتسهيل عبور قوات التحالف عن طريق شمال أفريقيا.
أثارت «صفقة دارلان»، كما كانت تسميها افتتاحيات الصحف الأميركية، عاصفة من الاحتجاج. وبعد تعرض الديمقراطيين لهزيمة في انتخابات التجديد النصفي قبل خمسة أيام فقط من عملية الشعلة، اضطر روزفلت إلى معالجة جرح سياسي إضافي تم تصويره على أنه صفقة مع أحد الفرنسيين المفضلين لهتلر. وأصدر في حينه بياناً يصف فيه الترتيب بأنه ليس أكثر من كونه «حيلة مؤقتة»، مكرراً كلمة «مؤقتة» ست مرات في تسع عشرة جملة.
في النهاية، لم يكن هناك شيء مؤقت في هذا الشأن. قد يكون من الغريب أن تُحل المشكلة بمفردها عندما اغتال شاب فرنسي يؤيد الملكية دارلان بعد ستة أسابيع. ولكن على صعيد أعمق، اعتاد الأميركيون في تلك الفترة العمل مع شريك ملتزم يقدم الفوائد الاستراتيجية الموعودة ويحررهم من الحاجة إلى المشاركة في السياسة المحلية الفوضوية.
وعندما جاء جيرو بعد دارلان، مُحققاً المكانة والاعتراف الذي وعده به أيزنهاور في جبل طارق، انزلق بسهولة في نفس الترتيب مع الأميركيين: من حيث المبدأ، «يمكنك المرور عبر أراضينا ولكن لا تزعجنا على طول الطريق». ومن ثم ظهر جانب أساسي في السياسة الأميركية في الشرق الأوسط.
قدمت عملية الشعلة للحلفاء أول فرصة لهم لتطبيق مبادئ ميثاق الأطلسي لعام 1941، والذي أصدرته الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى، على الأراضي التي تم تحريرها من سيطرة دول المحور. تضمنت تلك المبادئ – التي وصفها روزفلت، في رسالة وجهها قبل عملية الشعلة إلى شعب شمال أفريقيا، بأنها «جهاد الحرية العظيم» – الحكم الذاتي والتحرر من الاحتياج أو الخوف: ونُقلت الهدايا فيما بعد بسخاء كبير إلى أوروبا ما بعد الحرب. ولكن عندما حان الوقت لتطبيق تلك المبادئ في الأراضي العربية المحررة، حتى من خلال الخطوة التدريجية لنقل السلطة من مجموعة من الضباط الاستعماريين الفرنسيين إلى أخرى، ترددت واشنطن في اتخاذها وامتنعت في نهاية المطاف.
قد يرد البعض بأن هذه الأراضي العربية على عكس أوروبا كانت (وربما لا تزال) تربة غير خصبة لمثل هذه الأفكار. ومع ذلك، نحن على يقين أن الولايات المتحدة عندما كانت تملك سلطة غير متنازع عليها في الجزائر وجميع أنحاء شمال أفريقيا، قررت عدم وضع هذه المسألة قيد الاختبار. بل أصبحت الشعلة الفصل الأول في استراتيجية ذرائعية تجاه الأراضي العربية – إذ أعطت أولوية لعقد شراكات مع رجال أقوياء من الأصدقاء لأجل تنمية شعوبهم السياسية والاقتصادية – وقد حكم ذلك بصفة عامة علاقة أميركا بالمنطقة منذ ذلك الحين.
3 – القرار الثاني في عملية الشعلة
كان القرار الثاني في عملية الشعلة، والذي كانت له عواقب في المستقبل، يدور حول حقيقة أن القادة الأميركيين سيواجهون على الفور بعد إنزال القوات على الساحل الشمالي الأفريقي، ما يسمي في الأوساط الأوروبية «القضية اليهودية».
بحلول نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1942، كانت تفاصيل كثيرة عن محرقة الهولوكوست، كما ستُعرف لاحقاً، قد انتشرت. وفي أثناء الشهر نفسه، أكدت وزارة الخارجية الأميركية علانية تقارير عن خطط النازيين لإبادة يهود أوروبا. وبعد مرور ستة أسابيع فقط على عملية الشعلة، أصدرت 12 حكومة لدول الحلفاء بياناً مشتركاً تعهدت فيه بالقصاص من المسؤولين عن إبادة اليهود.
وعلى الرغم من أن الوضع في شمال أفريقيا كان أقل إلحاحاً، فإنه كان معروفاً أيضاً بالتأكيد في الدوائر العليا للحكومة الأميركية. أوردت مجموعة من التقارير الدبلوماسية والروايات الصحافية تفاصيل عن تطبيق قوانين فيشية جردت اليهود الجزائريين من الجنسية الفرنسية، ومنعت اليهود، في جميع أنحاء الأراضي الخاضعة لسيطرة فرنسا، من حق العيش والعمل والدراسة بحرية.
وكان الأكثر فظاعة هو إرسال آلاف اليهود إلى ما سماه الفرنسيون أنفسهم معسكرات «اعتقال» أو «عقاب». تنوع المُرَحَّلون إلى تلك المعسكرات ما بين جنود يهود كانوا يخدمون بشرف في الفيلق الأجنبي الفرنسي عندما تولى الفيشيون السلطة، إلى لاجئين يهود من وسط أو شرق أوروبا دفعهم الخوف من مذابح النازيين القادمين إلى البحث عن ملجأ في فرنسا أو الأراضي الخاضعة لها في شمال أفريقيا. كانت المعسكرات، التي غالبا ما تقع في عمق الصحراء، مواقع نائية للأشغال الشاقة القسرية، حيث يشيع التعذيب ويعد الموت من الجوع والعطش وسوء المعاملة روتيناً يومياً.
قبل عملية الشعلة، كان سوء الحظ الذي يواجه اليهود في الأراضي الخاضعة للسيطرة الفاشية، مشكلة بعيدة أمام إدارة روزفلت، كانت مؤرقة ولكن بعيدة عن جبهة المعركة. وهكذا غيرت عملية الشعلة تلك المعادلة. ولأول مرة طوال الحرب، جعل نجاح عملية الشعلة القوات الأميركية تملك سيطرة مباشرة على الأراضي التي واجه فيها اليهود اضطهاداً حكومياً وقتلاً محتملاً.
وأصبحت «القضية اليهودية» على خلفية هذه الحقيقة مسألة ملحة. علاوة على ذلك، بفضل واقع جدير بالملاحظة ولكنه لا يحظى بتقدير كافٍ، أصبحت قضية عاجلة أيضاً.
في الساعات المبكرة من صباح الثامن من نوفمبر عام 1942، بينما كانت القوات الأميركية والبريطانية تنتظر بقلق على متن السفن المنتشرة عبر ساحل شمال أفريقيا، انتشر 377 شاباً، بقيادة طالب في كلية طب يبلغ من العمر 20 عاماً ويدعى جوزيه أبولكير، في أنحاء العاصمة الجزائرية لتنفيذ مهمة جريئة تهدف إلى المساهمة في تحديد مصير عملية الشعلة. أجرى أبولكير وغيره من قادة المقاومة اتصالات سرية مع الأميركيين الذين وعدوا بإمدادهم ببنادق آلية وقنابل يدوية وأسلحة أخرى. لم تتحقق هذه الوعود، ولكن لم تثبط همتهم. كان سلاحهم فقط السكاكين والمسدسات والبنادق القديمة التي ترجع إلى القرن التاسع عشر، كانوا يخططون للاستيلاء على المدينة، واعتقال جنرالات فرنسا الفيشية المحليين والأدميرالات والولاة في أسِرّتهم، وقطع الاتصال بالعالم الخارجي، وشل حركة آلاف الجنود الفرنسيين في ثكناتهم.
ومن المثير للدهشة، أن هؤلاء المتطوعين المنتمين إلى العامة نجحوا عن طريق الجرأة والمكر والشجاعة. وبحلول الساعة الثانية صباح يوم الغزو وقعت العاصمة الجزائرية في قبضتهم. وفي خطوة لا تقل دهشة، استطاع المتطوعون الإبقاء على العاصمة في قبضتهم لمدة خمس ساعات حاسمة إضافية، مما جعل مهمة دخول قوات الحلفاء إلى الجزائر العاصمة أيسر بكثير مما حدث في مناطق الإنزال في الدار البيضاء ووهران.
وإذا ذكرت المراجع التاريخية الشائعة عن عملية الشعلة هذه القصة، فهي تشير إليها بإيجاز في سطر واحد وسط الحكايات البطولية للمحاربين الفرنسيين غير النظاميين. على سبيل المثال، توضح الرواية الرسمية للجيش الأميركي عن الاشتباك العسكري في شمال أفريقيا أن «العاصمة الجزائرية وقعت تحت سيطرة المقاومة الفرنسية غير النظامية في الوقت الذي بدأت فيه عمليات الإنزال».
ولكن تغفل تلك الرواية وكل الروايات الأخرى تقريباً جانباً مهماً من القصة: لم يكن أبولكر الشخص اليهودي الوحيد، بل كان هناك 315 شاباً في المقاومة التي ضمت 377 مقاتلاً في العاصمة، وكان دافعهم للمشاركة في القتال أنهم حرموا، لأنهم يهود، من حقوقهم كفرنسيين في ظل فرنسا الفيشية. وبالتالي، كانت تلك في صميمها حركة مقاومة يهودية.
كذلك على عكس حركات المقاومة اليهودية أثناء الحرب، كانت حركتهم مرتبطة في الأصل بمصير جهود أميركا في الحرب. فقد أنقذت المخاطر التي خاضها هؤلاء اليهود حياة جنود وبحارة أميركيين، وربما المئات منهم. وبفضل جهدهم الهائل، أصبحت العاصمة الجزائرية منطقة الإنزال الوحيدة التي واجهت فيها قوات الحلفاء معارضة فرنسية ضعيفة، على النقيض الصارخ من الدفاع القوي نسبياً الذي بذله الفيشيون في مناطق أخرى على طول جبهة شمال أفريقيا. وكما قال ليون بولياكوف، أحد عمالقة المؤرخين الفرنسيين للحرب، فيما بعد بأسلوب حمل مبالغة بسيطة: «كان دور مجموعة أبولكر الصغيرة حاسماً في لحظة حرجة مرت بها الحرب العالمية».
على الرغم من أن انتفاضة غيتو وارسو وغيرها من جهود المقاومة اليهودية قد تحمل أهمية سياسية ونفسية أكبر، لا سيما في المساعدة على تفنيد صورة اليهود السلبية، كانت مقاومة العاصمة الجزائرية أهم في المساعدة على تغيير مسار الحرب، وكانت في إطار هذه العملية، حركة المقاومة اليهودية الوحيدة التي أنقدت حياة أميركيين.
4 – الخضوع للنفعية
هكذا تعامل قادة أميركا أثناء الحرب، من روزفلت وأيزنهاور إلى مارك كلارك وروبرت ميرفي – وهما بالترتيب مندوبا أيزنهاور للشؤون العسكرية والسياسية في الجزائر – منذ لحظة إنزال قوات الحلفاء من سفنهم إلى أرض شمال أفريقيا مع «القضية اليهودية». ونظراً لأن قرار الحلفاء بتحويل محور الخطة الأصلية من تنصيب قيادة فرنسية جديدة إلى شراكة مع النظام الفيشي القائم، لم تعد هذه القضية نظرية ولكنها على العكس أصبحت مُلحة وعملية.
تتكون القضية على وجه التحديد من ثلاثة أسئلة. أولا، ما الذي سيتم بشأن مئات المتآمرين اليهود الذين يراهم الفيشيون المتجرئون من جديد خونة لأنهم خاطروا بحياتهم لدعم غزو الحلفاء؟ ثانياً، ماذا عن آلاف اليهود (وغيرهم من معارضي الفاشية) القابعين في معسكرات الاعتقال الفيشية؟ ثالثاً، ماذا عن عشرات الآلاف من اليهود الآخرين الذين ظلوا بلا دولة بسبب قوانين التمييز الفيشية؟
ومرة أخرى، كانت الإجابة التي قدمها المسؤولون الأميركيون في الجزائر ووافقت عليها السلطات العليا في واشنطن هي الخضوع للنفعية. ولكن في هذه المرة كان هناك اختلاف. كان التعامل مع جان فرنسوا دارلان مؤسفاً، ولكنه كان من مقتضيات الحرب المبررة والثمن مقابل الانتقال السريع للقوات الأميركية عبر المغرب والجزائر لقتال الألمان في تونس وطردهم من القارة الأفريقية. على عكس ذلك، كان الرد الأميركي على «القضية اليهودية» مليئاً بالخداع والازدواجية.
كانت الشراكة مع دارلان تعني قبول واستيعاب وتنفيذ نصيحة الفيشيين المشوهة بشأن كيفية حكم الأراضي التي يعيش بها كل من المسلمين واليهود. كان أساس تلك النصيحة عدم فعل أي شيء لمساعدة الطرف الآخر، حتى وإن كان ذلك الفعل لن يحمل الطرف الأول أي تكلفة. كان الموقف الأساسي الذي اتخذه الأميركيون، مرة تلو أخرى، بقيادة ميرفي الذي تم الاحتفاء به لاحقاً كواحد من أعظم الدبلوماسيين الأميركيين في القرن العشرين، هو أنه يجب إرجاء مساعدة اليهود.
أصبحت عملية تحرير اليهود من معسكرات الاعتقال أو العقوبات أو العمل القسري بطيئة وبلا تقدم. وفي بيان ألقاه روزفلت في 17 نوفمبر بشأن الهيكل السياسي بعد عملية الشعلة، أصدر «طلباً» بـ«تحرير جميع الأشخاص المحتجزين في شمال أفريقيا بسبب معارضتهم لمحاولات النازيين للسيطرة على العالم». ولكن بدلاً من تحرير السجناء ببساطة، انضم الأميركيون إلى الفرنسيين ونظموا مع البريطانيين لجنة مشتركة للسجناء السياسيين واللاجئين، والتي تولت مراجعة الوضع الفردي لكل المحتجزين لتحديد ما إذا كانوا سيفرجون عنهم ومتى وتحت أي شروط.
بعد عملية الشعلة بثلاثة أشهر، تلقى الميجور في الجيش الأميركي دونالد كوستر والميجور في الجيش البريطاني كينيث يونغر، إلى جانب ضباط فرنسيين تعهدوا من أسابيع فقط بالولاء لبيتان، أوامر بالانتقال من العاصمة الجزائرية لتقصي وضع اليهود والجمهوريين الإسبان وغيرهم من معارضي الفاشية في معسكرات العمل الفيشية في الصحراء الواسعة في جنوب الجزائر وعلى طول طريق السكك الحديدية في الصحراء الكبرى. كانت تلك أول مهمة من الحلفاء لرؤية المعسكرات التي، كما كتب يونغر في مذكراته، «استخدمت فيها جميع معدات داكاو وبوخنفالد».
انقضت ثلاثة أشهر أخرى قبل أن تُتم اللجنة عملها، مما يعني أن قرار كيفية تحرير اليهود وغيرهم من القابعين في معسكرات الفيشيين بعد عملية الشعلة استغرق ضعف المدة التي استغرقها تخطيط وتنفيذ أكبر هجوم برمائي حينئذ في التاريخ البشري.
إذا كان الحلفاء غير متعجلين لتحرير السجناء، فلم يكونوا أيضاً متعجلين لاستعادة الحقوق المدنية التي انتزعتها القوانين الفيشية. كان اليهودُ الجزائريون اليهودَ الوحيدين في العالم، خارج ألمانيا، الذين أصبحوا بلا دولة بسبب قانون فاشي. في الأيام التالية لعملية الشعلة، وعد روزفلت شخصياً برفع هذا الظلم، وفي إعلانه الذي صدر في 17 نوفمبر قال على وجه التحديد: «طالبت بإلغاء جميع القوانين والمراسيم التي صدرت بإيعاز من حكومات أو آيديولوجيات نازية». ولكن لم يمض وقت طويل حتى همس مسؤولو الحكومة الفيشية في آذان ميرفي ومسؤولين أميركيين آخرين بأن أي إجراءات لصالح اليهود – من ضمنها مجرد إعادة الوضع إلى ما قبل الحرب – سوف يشعل غضب العرب وبالتالي يجبر القوات الأميركية على تشتيت الطاقات والموارد عن قتال الألمان إلى إدارة احتلال صعب المراس.
يبدو أن ميرفي البيروقراطي الحَذِر انتبه إلى الخطورة السياسية التي دعت إلى تأجيل إعادة حقوق اليهود. وعيَّن سريعا الميجور بول «بيغي» واربورغ، الذي انحدر من عائلة مصرفية بارزة في نيويورك، «مستشاراً لشؤون اليهود». في مذكرات إلى ميرفي، اقترح واربورغ أن النِسب غير الرسمية المحددة لأعداد الأطباء والمحامين وغيرها من المهن بين اليهود يجب أن تظل سارية «لأجل مصلحة (اليهود)»، وأن الجنسية الفرنسية الكاملة يجب أن تعود إلى نسبة ضئيلة للغاية. (في مذكراته الصادرة عام 1964، يرد ميرفي الجميل بإطرائه على مساعدة واربورغ).
وكانت النتيجة أنه بعد مرور أكثر من عام على عملية الشعلة، لم يحدث أي شيء لإعادة الجنسية الفرنسية للغالبية العظمى من اليهود الجزائريين. وبعد أن تولى ديغول قيادة لجنة التحرير الوطني الفرنسية في نوفمبر عام 1943 فقط، إذ أزاح الفيشيين بالكامل وغيرهم ممن كانوا شركاء أميركا، استطاع اليهود أخيرا استعادة حقوقهم المدنية.
كذلك لم تحم أميركا العناصر اليهودية (وغير اليهودية) في المقاومة الجزائرية من التهديدات بالانتقام الذي توعدهم بها مسؤولون فيشيون. وبمجرد أن تم الاتفاق مع دارلان، وجد كثير من المقاتلين أنفسهم مسجونين على يد هؤلاء الذين أوقفوهم قبل ساعات باسم القوات الغازية.
منذ عدة أعوام، أَجريتُ لقاءً مع أحد هؤلاء المقاتلين: وهو طبيب في الحادية والتسعين من العمر يدعى بول مولكو. كان عمره 19 عاماً فقط وقت عملية الشعلة، وكان من أصغر أعضاء المقاومة. روى لي مولكو اللحظة المروعة، بعد تَغَيُّر الوضع وعودة الفيشيين للسلطة، عندما توعده المسؤول الرفيع الذي كان يحتجزه أثناء عمليات إنزال الشعلة بالانتقام: «أذكر صورة الأمين العام للحكومة الفيشية. قال لي: (أنت إرهابي تابع لديغول، سوف تحاكم وتعدم)». حينها، نجا مولكو من أسوأ ما يمكن أن يحدث، وتم اعتقاله في سجن بارباروسا بالعاصمة الجزائرية إلى جانب عشرات من رفاقه.
ولحسن الحظ، لم يتفق جميع الأميركيين مع سياسة ميرفي. وفي أعقاب اغتيال دارلان، عندما استفاد جيرو والفاشيون السابقون المعادون للسامية من الفوضى للتخلص من قادة المقاومة جميعاً، فجمعوهم وأرسلوهم إلى موقع صحراوي ناءٍ حيث كان من المقرر إعدامهم، أنقذ حياتهم في اللحظة الأخيرة تدخل عملاء من مكتب الخدمات الاستراتيجية، وهو خاص بالعمليات السرية لأميركا بالخارج.
في الحقيقة، في معظم القضايا المتعلقة باليهود، كان عملاء مكتب الخدمات الاستراتيجية في العاصمة الجزائرية يحملون وجهة نظر مختلفة عن وزارة الخارجية ودافعوا عن سياسة أكثر تعاطفاً. قد يرجع ذلك إلى حد ما إلى التعاملات الشخصية مع المتآمرين في حركة المقاومة اليهودية، أو لعله مجرد رد فعل على التسامح المعروف مع معاداة السامية في الخارجية حينئذ.
كان المعارض الأساسي لميرفي هنا هو صاحب المبادئ الشجاع دابليو آرثر روزبرو، الحاصل على زمالة رودس من أوريغون والسكرتير القانوني السابق في المحكمة الدولية الذي كان حينئذ مدير الاستخبارات الاستراتيجية التابع لمكتب الخدمات الاستراتيجية في العاصمة الجزائرية. اتخذ البطل المنسي روزبرو مبادئ ميثاق الأطلسي على محمل الجدية، وخصوصا مبدأ حق تقرير المصير، وكان يتميز بالجرأة الكافية للاعتقاد بأن ذلك المبدأ جدير بالتنفيذ في شمال أفريقيا كما في مناطق الحرب الأخرى، وأن أميركا مدينة بالشكر لمقاتلي المقاومة في الجزائر.
عندما تم اعتقال قادة المقاومة وإرسالهم إلى معسكرات الاعتقال في الصحراء الكبرى، ترجى روزبرو ميرفي من أجل الإفراج عنهم، قائلا بحسب التقارير، «إن الشرف الأميركي مُعرض للخطر».
ويلخص رد ميرفي، الذي ورد في مذكرات عميل آخر لمكتب الخدمات الاستراتيجية، بدقة الموقف الرسمي السائد وقتها: «يا زميلي القديم، إن لم يكن لديك ما تفعله في أفريقيا سوى القلق بشأن هؤلاء اليهود والشيوعيين الذين ساعدونا، لماذا لا تعد إلى الديار؟».
قبل أن تمر فترة طويلة، كان ما حدث على وجه التحديد كالتالي: أجرى ميرفي ترتيباً خلف الكواليس لكي يخسر روزبرو ثقة رؤسائه، الذين أجبروه على الخروج من الجزائر ومن مكتب الخدمات الاستراتيجية. ووصلت الرسالة إلى من جاءوا من بعده، فالتزم أغلبهم (وليس جميعهم) الصمت وأذعنوا للتعليمات. وبالتالي، في واحدة من أقدم معارك الحكومة الأميركية وأهمها بين الخارجية والاستخبارات – والتي دارت في أغلبها بسبب مواقف تجاه اليهود و«القضية اليهودية» – انتصرت الخارجية العريقة (التي تأسست في 1789) بمهارة على مكتب الخدمات الاستراتيجية الحديث (الذي تأسس في 1942).
قد يكون من الخطأ الادعاء بعدم وجود معارضة داخل وزارة الخارجية ذاتها. كان بعض الدبلوماسيين في الجزائر يبغضون الغش والازدواجية التي تميزت بها السياسات بعد عملية الشعلة تجاه اليهود وغيرهم من المقاتلين الأحرار المعارضين للفيشيين. كتب ريدجواي نايت، أحد كبار مساعدي ميرفي والذي أصبح سفيراً ثلاث مرات، عن الفترة التي «سأم فيها الطريقة التي كنا نتجاهل بها زملاءنا السابقين». وفي مذكرات كُتبت بعد مرور 40 عاماً، يصف إذعان أميركا للفيشيين بعد عملية الشعلة بالأمر «الصادم سياسياً وأخلاقياً». ولكن على عكس هؤلاء المعارضين الداخليين المنفردين، كان هناك آخرون خارج وزارة الخارجية ربما لم يستخدموا الكلمات الفظة التي أُسندت إلى ميرفي، ولكنهم في النهاية اتخذوا قراراتهم على الأساس ذاته. على وجه التحديد، ظهر مبدأ عدم تخصيص أرصدة عسكرية لهدف غير عسكري من أجل إنقاذ أو حماية اليهود – والذي عُرِف لاحقاً في خطاب أرسله مساعد وزير خارجية الحرب جون ماكلوي في نوفمبر 1944 موضحاً سبب عدم تكليف وزارة الحرب لطائرات القصف الأميركية باستهداف معسكرات الأوشفيتز – قبل ذلك بعامين في أعقاب عملية الشعلة.
بعد خمسة أيام فقط من إنزال القوات، طلب مساعد وزير الخارجية سومنر ويلز من جورج مارشال رئيس الأركان حينئذ التوقيع على تعليمات «ببذل كل الجهود الممكنة لضمان عدم بقاء أي من العناصر الذين تعد تهمتهم الوحيدة مساعدة قضية (الحلفاء) في السجن» وأنه «يجب رفع تلك الإجراءات المعادية لليهود والتي تم فرضها نتيجة لاستسلام الفيشيين للضغط الألماني». وفي رده، وصف مارشال تلك التعليمات بأنه «لا ينصح بها في هذه الفترة»، واستطرد موضحاً بطريقة تشبه ما قاله ماكلوي بعد ذلك على نحو مثير للاستغراب: «فيما يتعلق بالإجراءين الثاني والثالث المقترحين (وهما تحرير السجناء اليهود وغيرهم من معارضي الفاشية واستعادة الحقوق المدنية اليهودية)، أتفق بالكامل مع هدفهما وأنا متأكد من أن الجنرال أيزنهاور سوف يتخذ إجراءات لتحسين حالة الفرنسيين الأحرار واليهود حال عدم تعريضها العمليات العسكرية المنتظرة للخطر. بيد أن الإفراج عن عدد كبير من الأفراد الذين يشكلون بلا شك عنصر إزعاج في موقف بالغ الصعوبة قد يتضمن وقف حركة أعداد كبيرة من القوات الأميركية مع الحاجة الماسة إليها في مناطق أخرى». وفي مواجهة معارضة مارشال القوية، تم تغيير تعليمات ويلز بحذف ما يدل على الاستعجال.
5 – العلاقات الأميركية بين المسلمين واليهود
في رد مارشال على ويلز، صدرت عبارة تصف اليهود المحررين من معسكرات الاعتقال بأنهم «يشكلون بلا شك عنصر إزعاج»… من الذين قد يزعجونهم؟
وفي هذا السياق، من المهم ملاحظة أن نهج المحصلة الصفرية في العلاقات الأميركية بين المسلمين واليهود، والذي ظهر في أعقاب عملية الشعلة، لم يأت نتيجة لصعود الصهيونية أو مخاوف من فقدان الوصول إلى الموارد النفطية الاستراتيجية.
كذلك لم يكن رد فعل على أعمال الشغب التي مارسها العرب ضد التمكين اليهودي في فلسطين، أو على توجيه تهديدات من قيادات سياسية أو دينية عربية بأن «جماهيرهم» ستثور غضباً بسبب سعي الحكومة إلى رفع المظالم التي تعرض لها اليهود. وفي حين كان لفرنسا الفيشية بالتأكيد نصيبها من المتواطئين العرب، الذين كان بدونهم من المستحيل أن تحكم، أصدرت شخصيات محلية بارزة عددا من التصريحات العلنية التي ترحب بسياسات فرنسا الفيشية المعادية لليهود.
على النقيض من ذلك، هناك أمثلة كثيرة على انحياز شخصيات عربية عامة إلى اليهود في أثناء تلك الفترة وعلى معارضتهم للقوانين المعادية لليهود، كما أعلنوا أنهم سيرحبون بتقديم تعويض عن الحقوق والممتلكات اليهودية.
على سبيل المثال، عندما ألغت فرنسا الفيشية مرسوم 1870 الذي كان يمنح اليهود الجزائريين الحق في الحصول على الجنسية الفرنسية، وإعادتهم بدلاً من ذلك إلى وضع الاضطهاد من المسلمين، لم يجد قادة مسلمون محليون ما يسرهم في المصيبة التي لحقت باليهود، قال مصالي حاج، الزعيم الوطني لحزب الشعب الجزائري والذي كان معتقلاً: «لا يمكن اعتبار ذلك تقدماً للشعب الجزائري». وأضاف أن «تقليص حقوق اليهود لا يؤدي إلى زيادة حقوق المسلمين».
وفيما يبدو، وجد نهج المحصلة الصفرية تجاه اليهود والعرب، إن لم يكن من صنع فرنسا الفيشية، تشجيعاً فاق كل الحدود من الاضطهاد الفرنسي (وخصوصا من المستعمر الفرنسي)، ومن ثم قُدم ببساطة إلى الأميركيين كهدية. وكما كتب الضابط البريطاني يونغر الذي أجرى مسحاً لمعسكرات الاعتقال الفيشية (والذي عمل فيما بعد برلمانياً في حزب العمال ونائباً لوزير الخارجية) في مذكراته عن زمن الحرب: «شعرت أن لدي مبرراً لاعتبار قضية العرب المزعومة التي طرحها معادون للسامية في الجزائر مبالغاً فيها إلى حد كبير… ويكمن الخطأ في الفرنسيين المعادين للسامية وليس في العرب أو حتى المروجين للدعاية الألمانية».
في مذكراته الخاصة، قدم أيزنهاور وصفاً مطولاً لهذه الظاهرة، إذ أوضح أن قرار اعتماد السياسة الاستعمارية الفرنسية تجاه العرب واليهود كان من أسبابه تفنيد شائعات بأنه هو نفسه يهودي:
«أحد تعقيدات النزاع العربي هو العداء القديم بين العرب واليهود. ونظراً لأن عدد الطرف الأول كان يفوق الطرف الثاني بنسبة أربعين إلى واحد في شمال أفريقيا، أصبحت السياسة المحلية هي استرضاء الأكثرية على حساب الأقلية، ونشأت القوانين القمعية، ورأى السكان العرب أن أي اقتراح لتحسين هذه القوانين بداية سعي لإقامة حكومة يهودية مع ما يترتب عليها من اضطهاد لهم. وإذا تذكرنا أن السكان غير المتعلمين تعرضوا على مدار سنوات لدعاية نازية مكثفة تُشجع على هذه التحيزات، سيَسهُل علينا أن نفهم أن الوضع استدعى قدراً أكبر من الحذر والتقدم بدلاً من تعجل الإجراءات والثورة المحتملة. كانت الدولة مكبلة بالشائعات، بل وأوشكت أن تخضع لحكمها. وكانت إحدى الشائعات تزعم أنني يهودي، وأن اليهودي، روزفلت، أرسلني إلى البلاد لسحق العرب وإخضاع شمال أفريقيا لحكم اليهود. شعر الفريق السياسي بقلق بالغ إزاء الأمر إلى درجة أنهم نشروا في الصحف وفي نشرات خاصة مواد تثبت الأصول التي أنحدر منها. وكان من شأن أي اضطراب عربي، أو الأسوأ منه تمرد مفتوح، أن يعيدنا إلى الوراء لعدة أشهر ويكبدنا خسائر لا حصر لها في الأرواح».
قد يكون روزفلت قد وصف الصفقة التي أبرمها مع دارلان بأنها «حيلة مؤقتة»، وهو قرار مثير للجدل سياسياً إلى درجة دفعته هو وتشرشل إلى أن يعلنا لأول مرة أن هدف الحرب «الاستسلام غير المشروط» في مؤتمر الدار البيضاء بعد ثلاثة أسابيع فقط من مقتل دارلان. بيد أن شراكة أميركا مع الفيشيين في شمال أفريقيا تضمنت جانباً واحداً على الأقل ليس مؤقتاً. إن خرافة البحث عن تبرير منطقي لسياسة الفيشيين – وهي أن العرب واليهود كانوا أعداء متقاتلين، وأن أي خطوة لصالح اليهود ستأتي على حساب العرب، وأن أفضل طريقة لإبقاء العرب تحت السيطرة هي عدم إعطائهم أي سبب للغضب من تقدم اليهود – وجدت ملاذاً جاهزاً في بيئة السياسة الخارجية وآلية الأمن القومي الأميركي المُرَحِبة.
ولم تكن تلك المشكلة الوحيدة أيضاً. بعد ذلك بعدة أعوام، مع اشتعال الخلاف حول فلسطين، وجدت فكرة متصلة وإن كانت معاكسة في بعض الأوجه جمهوراً بين صناع السياسات الخارجية الأميركيين. وهي فكرة أن العرب واليهود عاشوا معا في انسجام وبدون خلاف على الأراضي العربية على مدار مئات الأعوام، وأن إقرار الادعاءات الصهيونية سوف تفسد على نحو كارثي هذا النمط التاريخي من التعايش السلمي.
وفي حين لا يمكن إنكار حقيقة أن اليهود في الأراضي الإسلامية لم يواجهوا قط المجازر والمذابح والاضطهاد المروع الذي تعرض له إخوانهم في الدين في ظل المسيحية، لا يقل هذا الوصف الملائكي للعلاقات التاريخية بين الطائفتين اتفصالا عن الواقع. وفيما عدا استثناءات نادرة، تقتصر على لحظات ومناطق معينة، لاقى اليهود بصفة عامة معاملة من بعض القادة المسلمين باعتبارهم «ذميين» و«أهل كتاب»، ولكنهم خضعوا أيضاً للكثير من القيود الاجتماعية والشرعية، وضرائب خاصة، وبين حين وآخر موجات عنف قاتلة.
ولكن قدم الحنين إلى «عصر الأندلس الذهبي» – وهي صورة شاعرية روج لها في الأصل دارسون أوروبيون للإسلام وتبناها فيما بعد كثير من معارضي الصهيونية السياسيين والدبلوماسيين – حجة مقنعة. وفيما يخص السياسة الخارجية الأميركية، لم تكن التفاصيل ذات أهمية كبيرة. وكان الرابط بين العاصمة الجزائرية والخلافات اللاحقة حول هجرة اليهود إلى فلسطين، وإنشاء إسرائيل، وقرارات تسليح الدولة اليهودية، والسياسة الأميركية تجاه محادثات السلام بين إسرائيل والأطراف العربية، هو استعداد الكثيرين لقبول أي شيء يبرر معارضتهم لحقوق اليهود. وفي هذا الصدد، يمكن تعقب أصول السياسات الأميركية المتعاقبة القائمة على اتقاء غضب عربي متوقع وصولاً إلى قرارات ما بعد عملية الشعلة «النفعية» التي تم اتخاذها في الجزائر تقريباً في نوفمبر عام 1942.
6 – الإرث الأبقى لعملية الشعلة
إذا نظرنا إلى هذين القرارين معاً، استغلال الشرق الأوسط من أجل تحقيق مصالح أمنية أميركية أكبر، وتبني نهج المحصلة الصفرية في العلاقات الأميركية مع العرب واليهود، سنجد أنهما أصبحا علامة مميزة للسياسة الأميركية في المنطقة على مدار عقود.
من المؤكد أنه كانت هناك أساليب أخرى معارضة دافع عنها سياسيون أقوياء على مر السنين وانتصرت في بعض الأحيان، بدءاً من رفض هاري ترومان لفكرة مارشال في ما يتعلق بمسألة الاعتراف بدولة إسرائيل. وتتضمن أمثلة أخرى محاولة ألكسندر هيغ قصيرة الأجل للوصول إلى «إجماع استراتيجي» في أوائل الثمانينات، والتي طرحت المخاوف العربية – الإسرائيلية المشتركة تجاه التوسع السوفياتي كأساس لسياسة إقليمية أميركية أكثر استنارة. واليوم قد تكون الولايات المتحدة في خضم التقاء آخر للمصالح العربية والإسرائيلية – في هذه المرة لمواجهة إيران المارقة. ويظل الزمن وحده كفيلاً بأن يكشف عما إذا كانت تلك محاولة قصيرة الأجل أم لا.
وفي مجال العلاقات بين قادة الشرق الأوسط وشعوبه، كان اتباع جورج بوش الابن «لاستراتيجية تقديم الحرية» في أوائل القرن الحالي بديلاً آخر لذلك النهج. فعلى وجه التحديد، سعى بوش إلى وضع نهاية للامبالاة الأميركية التي استمرت على مدار عقود تجاه التكوين السياسي لبعض دول المنطقة.
ومنذ ذلك الحين، جاء الربيع العربي وذهب، وفي أعقابه اشتعلت أعمال عنف واضطرابات، واستفاد رئيسان متعاقبان، أحدهما ديمقراطي والآخر جمهوري، من العودة إلى السياسات القديمة.
منذ 15 عاماً، ألقى بوش خطابه المُندد بالسياسة الخارجية الأميركية التي استمرت على مدار 60 عاماً. وقبل 60 عاماً، كانت أميركا قد وصلت إلى العاصمة الجزائرية. لقد أتاحت عملية الشعلة الفرصة لظهور أول تجربة أميركية لممارسة السلطة في أرض عربية، وكان للقرارات المبكرة الداعمة للنهج الذي ندد به بوش أثر مستمر على السياسة الخارجية الأميركية، مع ما يترتب على ذلك من انعكاسات لا تزال مستمرة حتى اليوم.
من المؤسف أن هذا هو الإرث الأبقى لعملية الشعلة، وإن كان من المؤكد أنه لن يحظى بانتباه أحد في الثامن من نوفمبر عندما تُحَيي الحشود عدداً قليلاً من المحاربين القدامى الشجعان ذوي التسعين عاماً في المركز الوطني بمناسبة مرور 75 عاماً على أهم انتصار لا يحظى بتقدير كافٍ في الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك فقد تأخرت الهتافات وامتنان الأمة لهؤلاء المحاربين ولذلك النصر طويلاً.
* روبرت ستالوف هو المدير التنفيذي لمعهد واشنطن ومؤلف عدة كتب عن الشرق الأوسط.
"المجلة"