- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3487
الفوز في جولة وقف إطلاق النار في غزة: قرارات حاسمة لإدارة بايدن
كان ابتعاد الإدارة الأمريكية عن الإنخراط في حل الأزمة بين «حماس» وإسرائيل - قبل اندلاعها مؤخراً - منطقياً عندما كان الصراع جامداً. أما الآن، فقد حرّكت غزة ذلك الوضع الراكد. إن المسار الأكثر حكمة الذي يمكن أن تتخذه الإدارة الأمريكية هو تقييم خياراتها المتاحة لتحديد نتائج التغييرات، والتي ستؤثر على المصالح الأمريكية الأكبر في المنطقة.
في ظل وقف إطلاق النار المرحب به بين «حماس» وإسرائيل، والذي تم تحقيقه بمساعدة كبيرة من واشنطن، سيتعين على إدارة بايدن أن تقرر ما إذا كانت ستعود إلى استراتيجيتها السابقة ما قبل الأزمة، والقائمة على إهمال الدبلوماسية بين العرب وإسرائيل لصالح الأولويات الأمريكية. وكان الابتعاد عن هذه القضية منطقياً عندما بدا الصراع جامداً وكان من المحتمل أن يتغير القليل، حتى في ظل الانخراط الأمريكي الكبير. أما الآن، فقد حرّكت غزة هذا الوضع الراكد. وفي حين أنه من المؤكد أن بإمكان الإدارة الأمريكية "الجلوس والتفرج" أثناء حدوث هذه التغييرات، إلّا أن المسار الأكثر حكمة سيكون تقييم خياراتها المتاحة لتحديد النتائج بفعالية، والتي ستؤثر على المصالح الأمريكية الأكبر في المنطقة.
الرهانات في غزة
في جوهرها، عكست الحرب المصغَّرة قرار «حماس» بإحراج خصمها، "السلطة الفلسطينية"، من خلال "الدفاع" عن الأماكن الإسلامية المقدسة من توغلات الشرطة الإسرائيلية. وكان قصف المدن بالصواريخ الأسلوب الذي اعتمدته الحركة لإظهار أن المواجهة، وليس التكيّف والرضوخ، هو الذي سيجبر إسرائيل والعالم بأسره على الانتباه. وفي جهودها هذه، أحرزت «حماس» بعض النجاح على الصعيدين الداخلي الفلسطيني والدولي، كما تشير ردود فعل العواصم الأجنبية وقطاعات معّينة في الكونغرس الأمريكي. وطوال هذه الأثناء، كانت «حماس» غير مبالية بالثمن الذي سيدفعه سكان غزة خلال المعركة.
وفي الوقت نفسه، لا يجب فصل صراع غزة عن الصِداميْن الإقليمييْن الأوسع نطاقاً: أولاً، بين الكتلة الإسلامية السنية المتطرفة (أي تركيا، وقطر، و «الإخوان المسلمين»، و«حماس»، وآخرين) والكتلة السنّية المعادية للإسلاموية (مصر، والأردن، وبعض دول الخليج)؛ وثانياً، بين "محور المقاومة" بقيادة إيران (سوريا، و«حزب الله»، والحوثيون، ومختلف الميليشيات الشيعية، و«حماس»، إلخ) والتحالف المناهض لإيران (الكتلة السنية المناهضة للإسلاميين بالإضافة إلى إسرائيل). وكَوْن «حماس» الجماعة السنية الوحيدة تقريباً الموجودة ضمن المعسكريْن المتطرّفيْن، فهي تربط بين هذين الصِداميْن؛ وبالفعل، تشكّل غزة إحدى النقاط التي يلتقون فيها. وبالنسبة للولايات المتحدة، يضيف ذلك طبقة إضافية من المصالح الاستراتيجية لضمان عدم تحقيق «حماس» ورعاتها مكاسب سياسية من الأعمال العدائية التي ترتكبها ضد إسرائيل.
وعلى الصعيد العملي، يُترجم ذلك إلى ثلاثة أهداف رئيسية لفترة ما بعد الصراع. يتمثل الهدف الأول في إزالة أي مكاسب سياسية حققتها «حماس» من خلال لجوئها إلى القوة أو على الأقل الحدّ من هذه المكاسب، ويقوم الهدف الثاني على دعم "السلطة الفلسطينية" باعتبارها الحكومة الشرعية وممثلة للشعب الفلسطيني. فعلى الرغم من الانتقادات الكثيرة التي يمكن توجيهها إلى قيادة الرئيس محمود عباس، إلا أن للولايات المتحدة مصلحة في عكس التصورات القائمة على استفادة «حماس» من استخدام العنف ومعاناة "السلطة الفلسطينية" بسبب تحفظها. أما الهدف الثالث، فيكمن في مواصلة واشنطن الارتكاز على العامل الجديد الرئيسي - التطبيع العربي-الإسرائيلي عبر "اتفاقيات إبراهيم" - من خلال ضم دول عربية إلى الجهود التي تدعم الهدفيْن الأوليَيْن بشكل فعلي. وسيؤدي ذلك إلى بناء شبكة من الروابط بين عمليات التطبيع وصنع السلام ولعب دور رئيسي في منع المتطرّفين في المنطقة من الفوز بوقف إطلاق النار. وبشكل خاص، على الولايات المتحدة وشركائها اتخاذ الخطوات التالية:
- ربط «حماس» مباشرة بمعاناة الشعب من خلال تأطير المرحلة القادمة على أنها "إعادة الإعمار أو الصواريخ". نظراً إلى ازدياد التعاطف العالمي مع سكان غزة، يجب أن تبدأ الإغاثة الإنسانية العاجلة مثل المواد الغذائية والمياه والأدوية ومساكن حالات الطوارئ على الفور، دون شروط مرهقة. ولكن إعادة الإعمار تشكل مسألة أخرى. فهذه المرة، يجب أن تكون إعادة إعمار غزة مشروطة بإجراءات مراقبة تدخلية تحدّ تدريجياً من سلطة «حماس» المحلية وتحرّمها بشكل قاطع من القدرة على التسلح مجدداً وإعادة بناء شبكة أنفاقها - أي الدروس المستفادة من جهود الرقابة الفاشلة التي أعقبت الصراع عام 2014. ولا يمكن تحقيق هذه الأهداف من دون تطبيق عدد من الشروط المسبقة، وهي: نشر مراقبين على نطاق أوسع بكثير وبشكل أكثر فعالية؛ فرض نظام لا يسمح بوجود منافذ موازية إلى غزة (على سبيل المثال، الطريق المصري البديل للبضائع، والذي سمحت به إسرائيل مؤخراً)؛ الإشراف على السلع - من خلال وجود فعلي للمراقبين - منذ لحظة دخولها إلى حين وصولها إلى المستخدم النهائي بدلاً من الاعتماد على المراقبة عبر الفيديو؛ فرض نظام جمركي تتدفق مكاسبه بشكل أساسي إلى "السلطة الفلسطينية" وليس «حماس»؛ والتزام حازم بوقف جميع الواردات في حالة اكتشاف أي انتهاك. ورغم أن هذه المقاربة تتضمن الكثير من المكونات التقنية، إلا أنها ليست مجرد مسألة تقنية - إنها مطلب أساسي في المرحلة التالية من بناء أساس السلام.
- دعم مزدوج للفلسطينيين في غزة والضفة الغربية بحيث تتم مكافأة سياسة ضبط النفس والتعاون التي تنتهجها "السلطة الفلسطينية" وليس سياسة «حماس» القائمة على العنف والمواجهة. يجب تطبيق مبدأ 1:1 - أي مقابل كل دولار من مساعدات إعادة الإعمار التي تتدفق إلى غزة، يجب إرسال دولار من مساعدات التنمية (وليس دعم ميزانية "السلطة الفلسطينية") إلى الضفة الغربية. وهذا سيساعد على دعم عباس الذي تضررت مكانته منذ سنوات وتعرضت للانهيار في الآونة الأخيرة بعد أن ألغى الانتخابات التشريعية.
- إشراك "تحالف سلام عربي" لدعم هذه الجهود. يجب طلب المساعدة من جميع شركاء السلام العرب - السابقين والحاليين والمستقبليين - لإسرائيل، ويشمل هؤلاء: "الجيل الأول" من صناع السلام في القاهرة وعمّان، و"الجيل الثاني" من صانعي السلام من في الدول الموقّعة على "اتفاقيات إبراهيم"، وصناع السلام المحتملين في المستقبل في الرياض ومسقط وعواصم أخرى. وانتقدت العديد من هذه الحكومات بشدة الإجراءات الأولية التي اتخذتها إسرائيل في القدس، لكنها التزمت الصمت عموماً حالما تحوّل التركيز على الصراع إلى غزة. وعلى الرغم من أن الكثير من دعمها سيكون مالياً لأنها غالباً ما تعرب عن مساندتها للقضية الفلسطينية بهذه الطريقة، إلا أن دورها يتجاوز التبرعات. إن جعل العواصم العربية تحتشد لمساعدة أبناء غزة فضلاً عن أبناء الضفة الغربية وحكومتها سيترك أثراً مفيداً على الساحة الفلسطينية. ويمكنها أيضاً اتخاذ خطوات سياسية رئيسية - على سبيل المثال، على الإمارات العربية المتحدة أن تكمِّم صوت محمد دحلان، العدو القديم لمحمود عباس، الذي حرّض ضد "السلطة الفلسطينية" طوال فترة الصراع. ومجتمعة، يمكن للأعمال الفردية والجماعية التي يتخذها "تحالف سلام عربي" أن تكون لها فوائد متعددة، وهي: تعزيز شرعية صناع السلام العرب في أعين الفلسطينيين؛ والاستجابة للتعاطف الواسع النطاق مع القضية الفلسطينية ضمن الدوائر الانتخابية المحلية لكل حكومة؛ والتصدي للدور المزدوج الذي تلعبه قطر حالياً، والتي وافقت إسرائيل بقصر نظر على دعمها المالي لـ «حماس» في السنوات الأخيرة كوسيلة للحفاظ على الهدوء (أو تأجيره بشكل أكثر دقة).
- تنظيم اجتماع بعيد عن الأنظار مع إسرائيل والأردن لمعالجة المشاكل العملياتية في القدس، ومع "السلطة الفلسطينية" حين يكون ذلك مناسباً. يجب أن يكون حل الخلافات حول إدارة الأماكن المقدسة الإسلامية جزءاً من هذا التفويض، دون المساس بمسائل السيادة أو السيطرة السياسية. ولجميع الأطراف مصلحة استراتيجية مشتركة في الحفاظ على الهدوء والتعاون لمنع تحوّل الخلافات الصغيرة إلى صراعات كبيرة محتدمة. ولتحقيق هذا الهدف، سيكون من الضروري أن تعترف إسرائيل بأن الأردن يمكن أن يلعب دوراً مفيداً وبناءً في هذه القضايا، ويجب على الزعيمين - بنيامين نتنياهو والملك عبد الله الثاني - التغلب على عداوتهما الشخصية العميقة.
تحديد الدور الأمريكي
هذه أجندة جوهرية تنطوي على انخراط أكبر بكثير مما تَصوَّرَه فريق بايدن في الأساس. فهي تتطلب "عضلات" دبلوماسية مستدامة - ليس مبعوثاً رئاسياً من شأنه أن يؤدي وجوده إلى تسييس عملية دقيقة، بل مُحلل مُثْبت للأخطاء الدبلوماسية يمكنه حشد القدرات والمصالح المتنافسة للعملية المشتركة بين الوكالات الأمريكية، والتحدث بشكل رسمي في العواصم الإقليمية، وإقناع الجهات المانحة المحتملة في أوروبا وفي دول أخرى، والانخراط مباشرة مع القادة المحليين مثل نتنياهو وعباس، الذين سيلاحظون الألغام الأرضية السياسية في أكثر القضايا الفنية الثانوية.
ومع ذلك، فإن منع تكرار هذه الحرب الصغيرة قد يتطلب أكثر من مجرد تعزيز الفريق الدبلوماسي الأمريكي. وسيتمثل نظام المراقبة الأكثر فعالية لغزة بوحدة مدنية جديدة من الخبراء الفنيين، والعاملين في مجال مشاريع التطوير، والمهندسين، ومراقبي الحدود على غرار "القوة متعددة الجنسيات والمراقبون في سيناء" - وهي هيئة دولية تنظمها وتديرها الولايات المتحدة مع وحدات من عدد من الدول الصديقة. وسيكون مثل هذا الكيان قادراً على إجراء عمليات تفتيش حيثما يحلو له، ويشغّل نظام منح تراخيص استيراد بسرعة وكفاءة، ويتمتع بالدعم لوقف أي واردات إذا اكتشف وجود مخالفات.
ويقيناًّ أن كلاً من إسرائيل و«حماس» لن ترحبان بهذه الفكرة في بداية الأمر - فالأولى بسبب مخاوف من أنها قد تشكل سابقة للمراقبة الدولية في الضفة الغربية (على الرغم من اختلاف المهمة والظروف اختلافاً عميقاً)، والثانية بسبب عملية مراقبة جادة من شأنها أن تؤدي إلى تآكل قوة الحركة. ومع ذلك، إذا كان الهدف هو منع اندلاع جولة أخرى من القتال، فهذا هو الحل الأمثل؛ وقد تكون الخيارات الأخرى (على سبيل المثال، نسخة محسنة من عملية الأمم المتحدة ما بعد عام 2014) أقل فعالية.
أمام إدارة بايدن فرصة الخروج [سالمة] من الأزمة الحالية، ودعم تدفق السلع الإنسانية إلى غزة، ثم العودة فعلياً إلى موقفها القائم على عدم التدخل، وربما المموّه ببعض الحركة الدبلوماسية. ومثل هذا القرار قد يعكس تقييماً أساسياً مفاده أنه من غير المرجح أن تتغلب المشاركة الفعالة على جموح أطراف عرب وإسرائيليين رئيسيين في هذه اللحظة من عدم اليقين السياسي، ومن شأن الاستثمار في الوقت والطاقة الضرورييْن أن يصرف الانتباه عن المخاوف الأكثر إلحاحاً. ومع ذلك، يجب أن يخْلص أي تقييم صادق إلى أن عدم المشاركة بشكل كامل في هذا المسعى من شأنه أن يضمن على الأرجح اندلاع حرب أخرى بين «حماس» وإسرائيل في مرحلة ما في المستقبل، وسط استخدام أسلحة أكثر فتكاً وحصد عدد أكبر من الضحايا.
روبرت ساتلوف هو المدير التنفيذي لمعهد واشنطن.