فقد الأمريكيون منذ فترة طويلة اهتمامهم بالتجربة الديمقراطية في العراق التي بدأوها منذ أكثر من خمسة عشر عاماً - بتخليهم عن "أجندة الحرية" التي كانت ذات مرة في صلب سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط لصالح سياسة واقعية تركز على تهديدات على غرار تلك التي تشكلها إيران. وفي حين نأت واشنطن بنفسها إلى حدٍّ كبير عن السياسة الداخلية في بغداد، إلّا أن ممارسة الحريات العراقية تطرح فجأة تحدياً استراتيجياً بليغاً أمام النظام الإيراني - تتعلق بطموحاته للهيمنة الإقليمية وشرعيته الداخلية على حد سواء.
وخلال الشهر الماضي هزت الاحتجاجات السياسية العراق، وهي لم تستهدف الفساد في بغداد فحسب، بل أيضاً، وعلى نحو متزايد، ما يعتبره العراقيون جهود إيران العنيفة لقمع معارضتهم.
إن المأزق الذي تواجهه القيادة الإيرانية ناجم عن أفعالها الخاصة. فحين خرج العراقيون إلى الشوارع في أول الأمر في أوائل تشرن الأول/أكتوبر، كانت شكواهم تدور إلى حد كبير حول مشاكلهم الداخلية، المتأصلة في فشل الحكومات العراقية المنتخبة المتعاقبة في تقديم الخدمات الأساسية والحوكمة المتجاوبة للمواطنين. والآن مع انحسار تهديد تنظيم «الدولة الإسلامية» بصورة خاصة، انفجر الغضب الشعبي على الفساد ومحاباة الأقارب والمحسوبية في بغداد.
وفي هذا السياق، فإن الجيل الأصغر سناً من الشباب المتصلين بالإنترنت، يَعتبر أن الفشل في ترجمة ثروات العراق الهائلة إلى ازدهار عام أمر لا يمكن تفسيره ولا يمكن تبريره في آن واحد. كيف يمكن أن يكون ثاني أكبر منتج للنفط في منظمة "أوبك" غير قادر على توفير كهرباء موثوقة؟ أو أن "أرض النهرين" ليس لديها مياه شرب كافية؟
وردّاً على هذه المطالب الشعبية بالإصلاح، ضغطت الحكومة الإيرانية على نظيرتها العراقية للرد بقسوة. ووصف المرشد الأعلى علي خامنئي الاحتجاجات العراقية بأنها "أعمال شغب" يجب "معالجتها". وفي 2 تشرين الأول/أكتوبر، ترأس قائد «فيلق القدس» الإيراني اللواء قاسم سليماني، اجتماعاً بدلاً من رئيس الوزراء العراقي، ضغط فيه اللواء سليماني من أجل القيام بحملة قمع [ضد المحتجين]. وهكذا، فتحت الميليشيات المدعومة من إيران النيران على المتظاهرين بشكل متكرر، مما أسفر عن مقتل 250 شخص وجرح الآلاف. وفي تحد لمطالب الجماهير، منع اللواء سليماني رئيس الوزراء العراقي من الاستقالة.
وربما كان من غير المفاجئ أن يرد القادة الإيرانيون بشراسة على الاحتجاجات العراقية - وليس فقط لأن طهران تحمي منفذها ونفوذها الاستثنائيين في الداخل العراقي. وبقدر ما اعتَبَر فلاديمير بوتين الانتفاضة الديمقراطية في أوكرانيا عام 2014 بمثابة تهديد لحكمه الاستبدادي في موسكو، تخشى طهران من أن الإيرانيين قد يستلهمون من الاحتجاجات الجماهيرية في البلد المجاور - من قبل سكان ذوي أغلبية شيعية - إذا نجحت هذه الاحتجاجات في إحداث تغيير.
أما القادة الإيرانيين، فمثلهم مثل السيد بوتين - الذي لم يكن في وسعه التصور أن الانتفاضة في أوكرانيا كانت ظاهرة محلية أثارها الغضب من الفساد وليس مؤامرة أجنبية - قد أصرّوا على أن المظاهرات في العراق هي مؤامرة أعدّتها إسرائيل والولايات المتحدة. وقد زاد اتهامهم من تباعد العراقيين العاديين وغضبهم.
وعلى مدار الشهر الماضي، تسببت أعمال طهران وخطاباتها - عن غير قصد - في ظهور نزعة قومية عميقة بين العراقيين. فقد أدرك أولئك المحتجون الذين غالبيتهم من الشيعة أن إيران تستغل انتماءهم إلى الطائفة نفسها لكي تستخدم الأرض العراقية كمعركة لحروبها ومكبّاً لمنتجاتها الإيرانية الأقل ثمناً على حساب الاقتصاد المحلي العراقي. ولا عجب أن أحد الشعارات الأكثر شعبية اليوم في شوارع بغداد هو "عراق حرة حرة؛ إيران بره بره"
وفي حين ما زال العديد من القادة العراقيين يتعرضون للترهيب من قبل السلطة الإيرانية، يُظهر شباب العراق اليوم أنه لا يرضخ مثلهم لهذا الترهيب. فقد قام المتظاهرون بنهب القنصلية الإيرانية في كربلاء وحرق صور السيد خامنئي. وبدورها، أمرت السلطات الإيرانية مواطنيها بعدم السفر إلى العراق.
ويمتد هذا الاستياء إلى النجف، مقر السلطة الدينية الشيعية. فقد أشار آية الله العظمى علي السيستاني، الذي وقف إلى جانب المتظاهرين بشكل متزايد، إلى معارضته للتدخل الإيراني في العراق. فهو يخشى أن يؤدّي خلط أمور الدولة والمساجد بإلحاق الضرر بهذه الأخيرة، كما حصل في إيران. وقد أثارت جرأة إيران المشينة مخاوف أيضاً في صفوف رجال الدين في النجف من فقدانهم السلطة لمنافسيهم في مدينة قم الإيرانية.
وإذ يتمسك المتظاهرون بهويتهم الشيعية، يجدون في القومية العراقية دواءً شافياً من الانقسامات الطائفية التي رغم كونها مدمرة للعراق، إلّا أنها لطالما سمحت لإيران ووكلائها بامتلاك نفوذٍ هائل ومفرط في بلادهم.
وفي هذه المرحلة، يقع على عاتق الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين الاضطلاع بدور جوهري - هو دعم المطالب المشروعة للشعب العراقي مع تشجيع بغداد على تبني تغييرات أساسية. ومع ازدياد الضغط الإيراني على الزعماء العراقيين، من الضروري أن يعرف أولئك الذي يريدون تخفيف الأزمة من خلال الإصلاحات أن واشنطن تدعمهم. وما البديل عن ذلك - انقلاب مدعوم من إيران ضد الديمقراطية العراقية - إلا خطر متزايد. وبغض النظر عن رأي الناس بالحرب العراقية، لا يُخفى أن أمريكا أزهقت الكثير من الدماء وبذلت الكثير من المشقات في العراق إلى درجة تمنعها من ترك إيران تستحوذ على العراق.
والأهم من ذلك تؤكد هذه الاحتجاجات أن القيم الأبدية لأمريكا لا تزال مصدر ميزة تنافسية طويلة الأجل، وليست مصدر ضعف، في الشرق الأوسط. وقد تُثبت الحرية العراقية بأنها ما تزال رهاناً استراتيجياً حكيماً للولايات المتحدة.
بلال وهاب هو زميل "ناثان واستير ك. واغنر" في معهد واشنطن.
"وول ستريت جورنال"