- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3744
الخبز في مصر: السياسة والاضطرابات الاجتماعية واستقرار الدولة
جدد الارتفاع العالمي في أسعار القمح منذ الغزو الروسي لأوكرانيا التساؤلات حول دعم الخبز وشرعية الحكومة عامةً في مصر.
نفت الحكومة المصرية، في 3 أيار/مايو، ما تردد من شائعات عن خططها لرفع سعر الخبز المدعوم. تنبع الحاجة إلى هذا النفي من واقع أساسي: الخبز هو المصدر الأساسي للسعرات الحرارية لدى معظم المصريين. لقد تسبب الغزو الروسي لأوكرانيا بارتفاع أسعار القمح في جميع أنحاء العالم، بات فهم كيفية تأثير هذه المشكلة على الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في مصر مسألة أكثر إلحاحًا بالنسبة إلى واضعي السياسات والمحللين. يقدم التعمّق في التغطية الإعلامية المصرية ذات الصلة بعض الأجوبة المفاجئة، بما في ذلك الإدراك أن جهاز الرئيس عبد الفتاح السيسي القمعي لا يمكن أن يخفي فشل الدولة في تلبية احتياجات مواطنيها.
السيسي تحت الضغط
ظاهريًا، يبدو أن السيسي يتحكم بالسياسة والمجتمع المصري بقبضة حديدية. فمنذ عام 2013، سعى إلى عرقلة النقابات العمالية، والقضاء بشكل نهائي على جماعة الإخوان المسلمين المحظورة، وتجنيد الفصائل الإسلامية السلفية لدعمه كحاكم شرعي. وسعيًا منه على تصوير نفسه كجمال عبد الناصر القرن الحادي والعشرين، شرع في مبادرة رؤية مصر 2030، التي تتضمن عاصمة جديدة بمليارات الدولارات في ضواحي القاهرة، مع قصر رئاسي جديد ومجمعات وزارية.
ولكن على الرغم من قبضة السيسي المحكمة، يتعرض العقد الاجتماعي في مصر لضغوط شديدة بسبب النمو السكاني، وتضخم الديون الوطنية، وتراجع العملة. توفر الحكومة الخبز المدعوم لما يقارب 80 في المئة من سكان مصر البالغ عددهم 100 مليون نسمة، ولكن تكلفة شراء القمح اللازم ارتفعت بنحو 40 في المئة خلال الحرب الأوكرانية. وردًا على ذلك، خفضت الحكومة كمية المواد الغذائية المدعومة التي يمكن أن يتلقاها المصريون وزادت في الوقت عينه إنفاقها المقرر على دعم المواد الغذائية بنسبة 20 في المئة للسنة المالية 24/2023. يعكس هذا الانفصال الظاهر خطورة القضايا الاقتصادية في مصر. ومع ذلك، سيكون من الخطأ الافتراض بأن الأزمة المحلية الحالية هي مسألة عدم رضى اقتصادي فحسب، إذ تتجذر حدتها في الانتقادات الصريحة والضمنية لكفاءة الدولة وشرعيتها، التي برزت نتيجة المشاكل الاقتصادية المتصاعدة.
إن لم تكن السياسة، كان الخبز حديث الساعة
إن الكفاح من أجل الحفاظ على نظام الدعم أو الإعانات ليس بالأمر الجديد. والجدير بالذكر أنه عندما قررت حكومة السادات خفض دعم الخبز في عام 1977 في إطار مفاوضات خفض الديون مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، اندلعت احتجاجات واسعة النطاق. وعلى الرغم من أن المظاهرات كانت مرتبطة بشكل وثيق بأسعار الخبز، فقد عكست أيضًا فجوة آخذة في الاتساع بين الوعود والوقائع المترتبة عن العقد الاجتماعي بعد عام 1952 الذي تم صياغته في عهد عبد الناصر. واليوم، تظل النقاشات حول المواد الغذائية مرآة تعكس نظرة العامة إلى إخفاقات الدولة.
يواصل السيسي وحلفاؤه من جانبهم التقليل من حجم التحدي الاقتصادي وأسبابه. فقد وجه السيسي إلى وسائل الإعلام سؤالًا شكليًا في ظهور له في كانون الثاني/يناير في إطار الاحتفال بيوم الشرطة، قائلًا "أنتم ليه بتبينو الناس مرعوبين وخايفين قوي على الأكل والشرب.. ميصحش وكأننا في آخر الدنيا…أنا مش بقول إن دا مش صحيح لكن الأكل والشرب ده مش آخر الدنيا في مصر". تعكس هذه التصريحات الساذجة سردية السيسي الذاتية القائمة على أصوله المتواضعة، والتي يدعي فيها أن ثلاجته لم تكن تحوي سوى الماء لسنوات. كما يدعي أن الغزو الروسي لأوكرانيا هو ما عطل الاقتصاد المصري الذي كان في السابق "سليمًا".
في كانون الأول/ديسمبر الماضي، أدت حملة الحكومة لتبرير الوضع الراهن إلى قيام وزارة الصحة والسكان بترويج أقدام الدجاج وحوافر الماشية كمصدر للبروتين. وكشفت الوزارة لاحقًا أنها نشرت صورة مزيفة تظهر نجم كرة القدم الدولي كريستيانو رونالدو وهو يأكل أقدام الدجاج بشهية. ونتيجة هذه الحادثة، نشرت قناة الجزيرة مقطعًا يوثق ردود الفعل على وسائل التواصل الاجتماعي على حملة الوزارة، بما في ذلك التكهنات الساخرة بأن القاهرة ستروج عما قريب الديدان كمصدر مجاني للبروتين.
في ميادين أخرى، لم تركز انتقادات الإخوان المسلمين الأخيرة للسيسي على القمع السياسي فحسب، بل أيضًا على فشل حكومته في إدارة الشؤون الاقتصادية. فمن المؤكد أن جماعة الإخوان المسلمين تم تهميشها كقوة سياسية بشكل متزايد في السنوات الأخيرة. ولكن الانتقادات الضارة تصدر أيضًا عن أحد خصومها المعارضين الرئيسيين، وهم السلفيون، الذين برزوا للمرة الأولى كوسطاء سياسيين في عام 2011.
إن الغالبية العظمى من السلفيين المصريين هادئة وبالتالي ترفض التعليق بصراحة على سياسات الدولة أو شرعيتها. ولكن انتقاداتها للوضع الراهن تُعد لاذعة، ليس لأنها تستهدف السيسي مباشرةً، بل لأنها ترفض طموحات الدولة في تحديد مسار حياة المواطنين. أعلن الداعية السلفي مصطفى العدوي، في بيان نُشر على موقع يوتيوب في كانون الثاني/يناير، أن معالجة مشاكل مصر الاقتصادية تكمن في العودة إلى الله. وكذلك، أعلن محمد سعيد رسلان، وهو شخصية سلفية تخرجت في جامعة الأزهر الدينية التي تسيطر عليها الحكومة وتحظى بشعبية خاصة في المناطق الريفية في مصر، العام الماضي، "فالذي يصيب ناس مما يكرهون من الغلاء…. فإن هو بذنوبهم…إذ أراد الناس أن يخرجوا من هذا…فعليهم أن يتوبوا إلى الله وأن يستغفروه".
ليست محاولات الربط بين أسعار المواد الغذائية والخطيئة بالأمر الجديد: على سبيل المثال، ورد على أحد الملصقات الشهيرة المعلقة على عربات مترو الأنفاق والمصاعد والحافلات منذ عهد مبارك ما يلي: “ينتهي الغلاء إذا تحجبت النساء". ولكن هذه الحجج الأخلاقية أصبحت واسعة النطاق في الآونة الأخيرة. وردًا على ذلك، لم يتمكن حلفاء السيسي الدينيون داخل الأزهر من فعل الكثير ما عدا الإعلان أن ارتفاع أسعار الخبز يخدم الصالح العام للمسلمين لأن الخبز الأرخص سيُستخدم لصنع المشروبات الكحولية.
قد تبدو تصريحات السلفيين وكأنها محاولات دينية لاستغلال الأزمة الاقتصادية من أجل تجديد التزام الأتباع بالدين، لكن هذا الافتراض ينضوي على إساءة فهم الشريعة السلفية المائلة إلى الهدوء. ببساطة، يؤدي تركيزهم على حل صريح، وهو التوبة، إلى حجب الرسالة العامة، وهي أن العالم لا يتشكل من قبل الدولة، بل من خلال التقيد بتعاليم الله. تبدو هذه الرسالة غير سياسية بما أنها تتجنب مهاجمة الحكومة، ولكنها تخريبية إلى حد كبير بما أنها تعتبر الله آمرًا على الحياة الاقتصادية والسلطات الدينية السلفية مرشدًا للسلوك السليم. وبينما قد يكون السلفيون موالين سياسيًا للسيسي في الوقت الحالي، فهم لن يترددوا في الانحياز إلى زعيم آخر في حال تم تهديد حكمه أو الإطاحة به.
توصيات السياسات
لا يمكن للقيود الكبيرة المفروضة على التعبير العام أن تحجب واقع أن علامات الاستياء الواسع الذي أطلق شرارة حركة الربيع العربي قبل عقد من الزمن تظهر مجددًا في مصر. فالظروف الاقتصادية الحالية تهدد شرعية حكومة السيسي واستقرارها، ما يدفع الكثيرين للتساؤل عما إذا كانت "ثورة الجياع" تلوح في الأفق. وكما انتشرت الاضطرابات التونسية في بقية أنحاء المنطقة في عام 2010-2011، من المحتمل إلى حد كبير أن تمتد الاضطرابات المصرية الحالية إلى خارج البلاد.
لمنع الانهيار الفوضوي، تستطيع الولايات المتحدة أن تسهم في استقرار العقد الاجتماعي في مصر. يتمثل التحدي الأكثر إلحاحًا لناحية السياسات في خفض سعر الخبز مع الاستمرار في الضغط على القاهرة لتنفيذ الإصلاحات المحددة في برنامج صندوق النقد الدولي الأخير. وفقًا لذلك، يجب على المسؤولين في واشنطن وصندوق النقد الدولي العمل مع حكومة السيسي على إيجاد طرق لخفض التكاليف على المصريين، ولكن الحد أيضًا من الهدر والاختلالات التي يمكن أن يسببها الخبز الرخيص (أي المدعوم) في ما يتعلق بإنتاج المواد الغذائية البديلة. فما من إجراءات أخرى يمكن أن تكون فعالة بالقدر ذاته في دعم الاستقرار الحكومي والاجتماعي. على الرغم من أنه لا ينبغي غض الطرف عن مخاوف الولايات المتحدة بشأن سجل حقوق الإنسان الخاص بحكومة السيسي، تتمثل المسألة الأكثر إلحاحًا بتجنب التدهور الذي يفاقم المعاناة الإنسانية.
بطبيعة الحال، يُعتبر السؤال المتعلق بالطريقة الفضلى لإبقاء سعر الخبز منخفضًا، معقدًا ولا أجوبة سهلة عليه. يمكن التعامل مع المشكلة المباشرة من خلال ثلاثة بدائل رئيسية: ضوابط الأسعار مع مخاطر النقص المرتبطة بها، الدعم المالي المباشر للحكومة المصرية، مع مخاطر الفساد المصاحبة له، أو دعم عمليات تسليم القمح، سواء من أوكرانيا (والتي قد يكون لها التأثير الإضافي المتمثل بدعم مجهودها الحربي)، أو من الولايات المتحدة (والتي قد تفيد المزارعين الأمريكيين)، أو من أماكن أخرى. لكل نهج تكاليفه السياسية والاقتصادية، ولكن نظرًا للوضع الملح بشكل متزايد، قد تكون أبسط استجابة، وهي إرسال الأموال إلى القاهرة، الطريقة الوحيدة للحؤول دون انفجار الوضع. لكن على المدى الطويل، تلوح أزمة الخبز التالية في الأفق ما لم تنفذ مصر إصلاحات اقتصادية كبيرة.
آرون روك سينغر مؤرخ مختص في الشرق الأوسط يركز على مصر والحركات الإسلامية. تشمل منشوراته: في ظل السُنة: التقوى السلفية في الشرق الأوسط في القرن العشرين In the Shade of the Sunna: Salafi Piety in the Twentieth-Century Middle East (دار نشر جامعة كاليفورنيا University of California Press، 2022).