- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
الخلافة كتحدٍ جيوسياسي
في حزيران/ يونيو 2014 أعلن تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش») أنه بايع شخصاً يُدعى إبراهيم عوض البدري، المعروف اليوم باسم أبو بكر البغدادي، لمنصب الخلافة، وهو إعلان أثار البلبلة في صفوف الحركة الجهادية العالمية، وقيادة تنظيم «القاعدة» على وجه التحديد. ومع ذلك، دفع هذا الإعلان بالذات المجتمعات الإسلامية في جميع أنحاء العالم إلى إدانة التنظيم، خاصة في ظل الوحشية التي يرتكبها باسم الدين والتي يروّج لها على صعيد واسع. وعلى سبيل المصادفة أيضاً، يمكننا الاعتراف الآن بأن هذا الإعلان للخلافة هو الذي وضع تنظيم «داعش» مع ما يسمى بـ «الدولة الإسلامية» على رأس أولويات الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب. وفي الواقع، قبل خمسة أشهر فقط، وفي مقابلة أجراها الرئيس الأمريكي باراك أوباما مع ديفيد رمنك من مجلة "نيويوركر"، [وضّح الرئيس فكرته عن «داعش»] بتشبيهه الشهير للتنظيم بفريق كرة السلة للمبتدئين. وفي آب/ أغسطس، قبل أيام من قيام التنظيم بذبح أول مواطن أمريكي، استخدم أوباما هذا الإعلان ذاته كسبب لإعادة تقييم التنظيم. وكما أوضح لتوماس فريدمان في صحيفة "نيويورك تايمز" قائلاً: "لدينا مصلحة استراتيجية في دحر تنظيم «الدولة الإسلامية». نحن لن نسمح لهم بإقامة نوع من الخلافة في سوريا والعراق..."
ومنذ ذلك الحين، تمت مناقشة الرمزية الدينية للخلافة وأهميتها باستفاضة بينما سعى المراقبون إلى فهم السبب الذي جعل الإعلان عن «الدولة الإسلامية» يولّد مثل هذه الموجات. وربما ما ليس مفهوماً جداً هو السبب الذي جعل هذا الجانب من التنظيم على وجه التحديد يدفع بالإدارة الأمريكية إلى تغيير تقييمها واستراتيجيتها. وفي الواقع، أن استخدام مصطلح ديني مبهم إلى حد ما، من قبل فئة ثانوية تابعة لتنظيم «القاعدة» هو الذي دفع بالولايات المتحدة إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة وليس استخدام الرئيس السوري بشار الأسد الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين في بلاده.
طموح الخلافة
إن ما هو أكثر إثارة للدهشة، وربما لم يناقش كثيراً مع استمرار تنظيم «داعش» في الهيمنة على السياسة والخطاب العام، هو أن ما يسمى بـ «الدولة الإسلامية» ليست المجموعة الأولى التي تدعو إلى إقامة الخلافة ولا هي الوحيدة التي تعمل على ذلك حالياً. وفي الواقع، كان المصلح الإسلامي محمد رشيد رضا (المتوفي عام 1935)، قد دعا - خلال السنوات الأخيرة من الإمبراطورية العثمانية والظهور الجديد للحكم الاستعماري الأوروبي في الشرق الأوسط - إلى إنشاء الخلافة؛ وقد ألهمت أفكاره الآباء المؤسسين للحركة الإسلامية في أوائل القرن العشرين. ومن أكثر أعماله المعروفة كتابته أطروحة حول هذا الموضوع. وفي عام 1953، أسس الشيخ تقي الدين النبهاني (المتوفي عام 1977) «حزب التحرير الإسلامي» في القدس، سعى من خلاله إلى بعث الخلافة لعلاج الأمراض الناجمة عن زوال الإمبراطورية العثمانية.
وفي الآونة الأخيرة فقط دعت الحكومات الغربية إلى حظر «حزب التحرير»؛ وكان رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير من بين الذين دعو إلى ذلك في عام 2007؛ بيد، لا علاقة لهذه المقترحات بدعوة الحركة إلى إقامة خلافة إسلامية بل إلى علاقات بعض جماعات الحزب بالإرهاب والعنف. ولطالما طمح تنظيم «القاعدة» إلى إنشاء الخلافة، ولكن، بطبيعة الحال، لم يشكل هذا الأمر أولوية إلا عندما هاجم التنظيم الولايات المتحدة في عقر دارها. أما اليوم، فما زال «حزب الأمة» - جماعة متعددة الأقاليم لها مراكز في الكويت والمملكة العربية السعودية - يدعو إلى إقامة "الخلافة الراشدة"، وذلك من على منصات وسائل التواصل الاجتماعي وفي الجلسات الجماعية. وفي آذار/ مارس 2015 تعهدت جماعة «بوكو حرام» في نيجيريا بالولاء إلى تنظيم «الدولة الإسلامية». كما قام فصيل صغير من حركة «الشباب» (الصومالية) بفعل ذلك أيضاً في تشرين الأول/ أكتوبر، على الرغم من أن الحركة لا تزال تابعة لـ تنظيم «القاعدة».
وهذه الفكرة، أو على الأقل هذا الوعد، بإقامة خلافة هي الحافز الرئيسي لتطور جميع أصول الفكر الإسلامي، أو حتى ربما القاسم المشترك الوحيد بينها؛ لكن بغض النظر عن حالة تنظيم «داعش»، لم تجذب هذه الفكرة انتباه الحكومات الغربية إلا عندما أصبحت الجماعات المتنافسة على الخلافة متصلة بالعنف. وفي إطار ما يسمى بحالة «الدولة الإسلامية» فقط، دفعت طموحات التنظيم للخلافة (وليس العنف الذي يمارسه) بالرئيس أوباما إلى إعادة تقييم "المصلحة الاستراتيجية للولايات المتحدة" في هزيمة التنظيم - وقد اتضح ذلك من خلال الوصف الذي أصدرته الإدارة الأمريكية مؤخراً، والذي طال إنتظاره، ومفاده أن التنظيم يرتكب "الإبادة الجماعية". بالإضافة إلى ذلك، لم يغيّر تنظيم «داعش» طريقة نظر الرئيس الأمريكي للتنظيم فحسب، بل غيّر أيضاً كيفية رؤيته للحل الذي سيؤدي إلى وقف أعماله. وبتعبير أدق، وبعد مضي عام، توقع أوباما أن يدفع تنظيم «الدولة الإسلامية» نفسه إلى التدمير الذاتي، وسبب ذلك بالتحديد هو فشله في بناء الخلافة. فعلى حد تعبيره: "يمكن لـ تنظيم «داعش» الحديث عن إقامة الخلافة الجديدة، ولكن لا أحد يتوهم بأن باستطاعته فعلاً تغذية الناس أو تعليمهم أو تنظيم المجتمع بطريقة مستدامة وناجحة".
لا يشبه أي تنظيم آخر
أين يكمن الفرق إذاً؟ يقيناً، هناك عوامل ظرفية لعبت دورها في حالة تنظيم «الدولة الإسلامية» تجعل دعوته إلى الخلافة لا تشبه الدعوات الأخرى. وبصرف النظر عن حقيقة احتلاله الأراضي التي خصصت لها الولايات المتحدة أكبر التزام لجنودها ومواردها على مدى العقد الماضي، عزل تنظيم «داعش» نفسه عن العديد من الجهات الفاعلة المحلية والإقليمية بطرق لم يعتمدها تنظيم «القاعدة» (ولا سيما من خلال وحشيته التي لا رحمة فيها)، الأمر الذي جعل التحالف الدولي ضده أكثر جدوى.
ولكن يبرز أيضاً جوهر ما يأمل تنظيم «الدولة الإسلامية» في تحقيقه. ولكي نكون أكثر دقة، وعلى عكس الجماعات الإسلامية السابقة، يعتمد تنظيم «داعش» في الواقع رؤية عملية لخلافته. فعبر تبنّيه التوجه الديني السلفي، الذي لا يعترف سوى بالاقتداء بالنبي محمد وبأولى أتباعه السنّة، يعتمد التنظيم رؤية طائفية سنية حصرية لخلافة تقوم، استناداً إلى الأحاديث النبوية، "على المنهجية النبوية". إن هذا التركيز على "المنهجية" وعلى توجهها السلفي يعني أن لدى التنظيم خطة مدروسة لخطواته المقبلة، وتشمل هذه تطهير الأراضي الواقعة تحت سيطرته من أي تقليد إسلامي آخر (الشيعة، الصوفية، حتى السنة غير السلفيين)، بالاعتماد على النصوص والأمثلة من التاريخ الإسلامي لترسيخ التعريف لمشروعه (أي مواضيع وسجلات المعارك الإسلامية المبكرة المروّعة)، وتبرير أساليبه الوحشية باسم هذا المشروع.
ولكن الأمر الأكثر أهمية، وبالتالي الأكثر فوضوية، هو أن لقب الخليفة يحمل مطلباً لزعامة المجتمع الإسلامي العالمي. وقد أشار المراقبون بحق إلى أنه لم تكن هناك دولة إسلامية بحتة على الإطلاق. ويمكن للمرء أن يستمر في هذا النقاش عبر شرح أن ما جعل الحكومات الإسلامية إسمياً من الناحية التاريخية حكومات فاعلة (بدءً من الخلافة الأموية وصولاً إلى الإمبراطورية العثمانية)، كانت قدرتها بالذات على استيعاب كامل الثقافات والأديان، بدلاً من فرض تعريف معياري متصلب للإسلام. بالإضافة إلى ذلك أن هذا التنوع بالذات في تجارب الخلافة، إن أمكن تسميتها كذلك، هو الذي أدى إلى مجموعة متنوعة من التجارب الإسلامية (وأحياناً تناقضات). فقد أصبح هذا النقاش حول التعريفات أكثر اختلاطاً مع انهيار الدول المحلية وظهور قنوات التواصل الاجتماعي، مما أدى إلى توسع سوق الأفكار، وظهور عدد وافر من البائعين والمشترين.
إذاً ما هو العامل الهام جداً في خلافة «الدولة الإسلامية»؟ يبدو أن التنظيم ليس فقط فريداً من نوعه في لحظته المناسبة لمطالبته بإقامة الخلافة، إلا أنه يفعل ذلك كوسيلة لفرض نوع معين من الإسلام. ويأتي ذلك في وقت يثير فيه تعريف الإسلام الكثير من الجدل على أنه ليس فقط شكلاً من أشكال الحوكمة بل أيضاً من العبادة الشخصية. ولقد كتبتُ في منشورات أخرى حول البقعة العمياء الدينية في السياسة الخارجية للولايات المتحدة (انظر "الأفكار الدينية في السياسات الخارجيّة: تنظيم «الدولة الإسلامية» في هذا السياق"). وفي حالة تنظيم «داعش»، يبدو أن ما تقوم به الولايات المتحدة هو محاولة يائسة للنظر في هذه البقعة العمياء الدينية، ولكن من خلال النظارات الخاطئة. فإعلان الخلافة هو تدخل في تعريف الإسلام في الوقت الذي يلاقي ذلك معارضة شديدة. وليس ذلك فحسب، فهو يحدث في سياق طائفي جديد من الصراعات في الشرق الأوسط والأصوات المرتفعة على وسائل التواصل الاجتماعي التي تشكل الروايات التي تدفعها إلى ذلك.
ومع ذلك، فإن ما يسمى بـ تنظيم «الدولة الإسلامية» يشكل أيضاً تدخلاً في تحديد شكل الحوكمة في الشرق الأوسط. وبالتالي، فإن ما يجب على الولايات المتحدة القيام به هو الالتفات إلى القاعدة السياسية الجديدة التي يمكن في إطارها إعلان الأراضي غير الخاضعة للسلطة، دولة إسلامية باسم قضية ثانية وثالثة، سواء كانت الخلافة التوسعية لـ تنظيم «داعش» أو المدينة الفاضلة السنية الخالصة السورية التي تروج لها جماعات مثل «جبهة النصرة» و «أحرار الشام».
يعقوب أوليدورت هو زميل "سوريف" في معهد واشنطن.
"مؤسسة توني بلير للعقيدة"