- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
الخصائص الاقتصادية لحالة الهدوء
في ظل غياب أي تسوية سياسية في الأفق، سيكون الاقتصاد والأمن ركيزتا العلاقة بين إسرائيل والفلسطينيين. إنه ليس سلاماً يتعلق بالقضايا الاقتصادية ويحمل في طياته الرخاء بدلاً من التطلعات الوطنية الفلسطينية، بل لأنه يصب في المصلحة الأمنية لإسرائيل. وبما أن الجهات الدولية المانحة خفضت مساعداتها للفلسطينيين، فقد بذلت إسرائيل - وخاصة مؤسستها الدفاعية - مجهوداً أكبر لتعزيز الاستقرار الاقتصادي والمالي في الضفة الغربية وقطاع غزة.
التوجهات في غزة
برز هذا التوجّه بوضوح أكثر في غزة منذ اندلاع النزاع مع إسرائيل في عام 2014، والذي نجم جزئياً عن التدهور الاقتصادي في القطاع في أعقاب حملة القمع على تجارة الأنفاق المربحة بين غزة وسيناء بعد سقوط حكومة مرسي التابعة لجماعة «الإخوان المسلمين». فحين فشل المجتمع الدولي إلى حد كبير في تقديم مساعدات ملموسة لإعادة إعمار القطاع، استمرت البنية التحتية في غزة في التدهور. وأدّى التغيير السياسي في مصر، إلى جانب تحوّل التحالفات مع سوريا وإيران، إلى ترك «حماس» أكثر عزلة من أي وقت مضى. كما أن قيام السلطة الفلسطينية بتخفيض الرواتب، والدعم لواردات الوقود، وغيرها من الخدمات في غزة بعد انهيار محادثات المصالحة بين «فتح» و«حماس» في عام 2017، أدّت إلى وضع الاقتصاد الفلسطيني على شفا الانهيار وهددت بقيام أزمة إنسانية.
وبسبب قلق إسرائيل من أن يضطرها الصراع القادم إلى تنفيذ عملية توغل برية أكبر في غزة، تبنّت سياسة احتواء في القطاع بعد النزاع في عام 2014. ومع تدهور الوضعين الاقتصادي والأمني في غزة عام 2018، وبناءً على توصية المؤسسة الدفاعية، بدأت إسرائيل بالمصادقة على تحويلات مالية ممولة من قطر بقيمة 15 مليون دولار شهرياً للمساهمة في تسديد رواتب "الموظفين الحكوميين" التابعين لـ «حماس» في البداية، وللأسر المحتاجة، في الآونة الأخيرة. وبرزت قطر كإحدى أكبر الدول المانحة للفلسطينيين في السنوات الأخيرة، حيث ساهمت بتبرعات فاقت المليار دولار لغزة وحدها بين عامَي 2012 و2018. كما أن التحويلات المالية، إلى جانب واردات الوقود المموّلة من قطر لدعم توليد الطاقة في غزة، قد ساعدت هي الأخرى في استمرار المفاوضات غير المباشرة بين «حماس» وإسرائيل للتوصل إلى هدوء طويل المدى على حدود غزة. ويحمل مثل هذا الاتفاق وعداً باستئناف الصادرات من غزة على نطاق أكثر أهمية، وتحقيق تحسينات في توفير الكهرباء، من بين تطورات أخرى.
غير أن الوضع لا يخلو من المخاطر السياسية والمعنوية. فمع استمرار الاحتجاجات الأسبوعية على الحدود وإطلاق الصواريخ بشكل متقطع في غزة، بدأ الخصوم السياسيون لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يتهجّمون عليه بسبب تساهله. ووصف وزير الدفاع الإسرائيلي السابق أفيغدور ليبرمان المدفوعات النقدية، التي تم تسليمها في حقائب عبر «معبر إيريز»، بأنها "استسلام للإرهاب". وبينما تحاول «حماس» ضبط التهديدات النابعة من غزة، تصدّت لها التنظيمات الأخرى الموجودة داخل القطاع. فقد أُلقيت مسؤولية الهجمات الصاروخية الأخيرة المنطلقة من غزة تجاه إسرائيل على محاولات «حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين» عرقلة المحادثات. وفي تفجيرين انتحاريين على نقاط تفتيش تابعة لـ «حماس» في غزة في أواخر آب/أغسطس تم إلقاء اللوم على عناصر من تنظيم «الدولة الإسلامية» في القطاع، التي كانت تنتقد أيضاً علاقة «حماس» مع مصر.
التوجهات في الضفة الغربية
تشهد الضفة الغربية ديناميةً مماثلة. ففي أعقاب تصاعد العنف في القدس والضفة الغربية في عام 2015، لم يُقدِم "جيش الدفاع الإسرائيلي" على إغلاق الضفة الغربية بشكل كامل أو شبه كامل كما حدث في الانتفاضة الثانية، لكنه ركّز في ردّه على حصر القيود على الحركة في المناطق المباشرة التي تشهد أعمال عنف، مشجّعاً بدرجة أكبر الحركة في مناطق أخرى من الضفة الغربية، وكذلك إصدار تصاريح إضافية للفلسطينيين للعمل في إسرائيل.
وتشهد السلطة الفلسطينية حالياً أسوأ أزماتها المالية منذ عقود، حيث رفضت استلام ما يُعرف بأموال المقاصة منذ شباط/فبراير. وقد اتخذت السلطة الفلسطينية هذه الخطوة المثيرة - برفضها استلام الضرائب التي تجبيها إسرائيل نيابة عنها - بعد أن بدأت إسرائيل باقتطاع ما يعادل المبالغ التي تدفعها السلطة الفلسطينية للأسرى في السجون الإسرائيلية ولعائلات الشهداء. وحتى اليوم، رفض رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس القبول بالأموال المتبقية أو النظر في إصلاح مدفوعات السلطة الفلسطينية للسجناء، لأنه لا يريد أن يخاطر بالتعرض لرد شعبي عنيف إذا أوقف هذه الدفعات الحساسة سياسياً، ويبدو أنه يأخذ في عين الاعتبار أن المخاوف الإسرائيلية بشأن عدم الاستقرار في الضفة الغربية ستجبر إسرائيل على عكس قرارها في النهاية. وفي الواقع، واصلت إسرائيل تحويل العائدات، مما استدعى السلطة الفلسطينية إعادة الأموال كل شهر منذ بدء الأزمة في شباط/فبراير. [وعلى أثر ذلك]، تبنّت السلطة الفلسطينية تدابير تقشفية حيث دفعت رواتب جزئية فقط بينما أخذت تُراكم ديونها المستحقة لمقدمي الخدمات المحليين وتستدين المزيد من القروض المحلية. وإذ راهنت السلطة الفلسطينية على تراجع إسرائيل قبلها، إلّا أنها لم تتوقع أن تؤدي الانتخابات الإسرائيلية الثانية إلى تأجيل أي خطوة ممكنة في هذا الصدد.
وحين بلغت السلطة الفلسطينية أقصى حدود قدرتها على الاستدانة من المصارف المحلية في تموز/يوليو، قدّمت لها قطر مزيجاً من المنح والقروض مما سمح لها بمواصلة دفع الرواتب الجزئية لمد شهرين. ولكن مع اقتراب موعد المهلة النهائية الأخرى، وافقت السلطة الفلسطينية في آب/أغسطس على تحويل ملياري شيكل (حوالي 600 مليون دولار) من إسرائيل، باعتبارها - شكلياً - استرداداً للضرائب على الوقود التي كان الفلسطينيون قد دفعوها لإسرائيل في الأشهر الستة السابقة. وبينما كان تدخّل المجتمع الدولي في الأزمات السابقة مرجّحاً إلى حد كبير، إما بالمساعدات والقروض و/ أو بالضغط على إسرائيل، إلّا أن الأزمة الراهنة لم تسترعِ أي ردٍّ من هذا القبيل. إن قرار السلطة الفلسطينية برفض أي تحويل جزئي من إسرائيل حتى الآونة الأخيرة لم يثير التعاطف. فباستنثناء قطر، لم تُقدّم الدول العربية دعماً إضافياً لميزانية السلطة الفلسطينية، وجاءت العلاقات المتردّية بين قيادة السلطة الفلسطينة وحكومة أبوظبي - ومع حكومة الرياض بدرجة أقل - لتضاف إلى الخلاف بين دول الخليج، الذي أدى إلى اصطفاف هاتين الحكومتين والقاهرة ضد الدوحة. وفي محادثات أجريتُها مع محاورين فلسطينيين في زيارة قمتُ بها مؤخراً إلى الضفة الغربية، قبل أيام فقط من الجولة الثانية من الانتخابات الإسرائيلية في 17 أيلول/سبتمبر، استمر أولئك المحاورين في الإصرار على أن القادة الإسرائيليين سيجدون وسيلة لحل الأزمة؛ وكانوا واثقين من استخدام نتنياهو تفويضه الجديد لتعديل القانون الذي يتطلب الاقتطاعات (الخصومات).
عدم السعي إلى التبعية المتبادلة
تتشوّق الجماهير في كلا الجانبين لتخفيف هذه التبعية المتبادلة. وقد أحجمت الحكومة الإسرائيلية عن المضي قدماً في إجراء تحسينات على إمدادات المياه والكهرباء بين إسرائيل وغزة بسبب المخاوف من تعميق الروابط بين إسرائيل والقطاع وإطالتها. وفي هذا السياق، أفاد مسؤولٌ إسرائيلي في عام 2015 خلال اجتماع دولي لتنسيق مساعدات المانحين للضفة الغربية وقطاع غزة، بأن الخطوات الإسرائيلية لضمان حصول سكان غزة على الطاقة تتعارض مع سياسة إسرائيل الشاملة المتمثلة بحلّ الروابط مع القطاع عبر "تشكيل تبعية متبادلة طويلة الأمد وتبادل السلع الاستراتيجية كالطاقة".
وفي وقت سابق من هذا العام، استلم رئيس وزراء السلطة الفلسطينية محمد اشتية مهامه وسط أشد الأزمات المالية والحوكمة التي تمر على السلطة الفلسطينية منذ عقود، وأعلن عن خطةٍ أمدها 100 يوم تشمل "الانفصال التدريجي" عن إسرائيل، وعلى الصعيد الاقتصادي بالدرجة الأولى. ودعا اشتية إلى إجراء دراسة حول استبدال الوقود الإسرائيلي المستورد بالنفط العراقي، وتوفير الكهرباء من الأردن بدلاً من "شركة الكهرباء الإسرائيلية". كما أعلن مؤخراً عن "تجمّع زراعي" يتضمن زراعة الأراضي التابعة لأوقاف السلطة الفلسطينية. وعلى الرغم من شعبية هذه الخطط، إلا أنها غير عملية. فالوقود العراقي لن يفي بالمعايير المشتركة مع إسرائيل، وأراضي الوقف التي اختيرت في البداية لأغراض التنمية تقع بالدرجة الكبرى في المنطقة "ج" من الضفة الغربية، حيث تتمتع إسرائيل بالصلاحية الكبرى ومن غير المرجح أن توافق على تصاريح لإنشاء الطرق والآبار الجديدة اللازمة للنهوض بالمشاريع الزراعية.
لكن في الوقت الحالي، من المرجح أن تبقى الأراضي الإسرائيلية والفلسطينية - إذا كانت مستقرة وآمنة - مترابطة اقتصادياً. فالاتحاد الجمركي المنصوص عليه في "بروتوكول باريس" يجعل من أسواق الضفة الغربية وقطاع غزة حكراً على السلع الإسرائيلية، وهذه الواردات ممولة من العمالة الفلسطينية في إسرائيل. وتستحوذ إسرائيل على 58 في المائة من الواردات الفلسطينية و80 في المائة من صادراتها. أما عدد العمّال الفلسطينيين في إسرائيل ومستوطنات الضفة الغربية فيقدَّر بـ 127,000 شخص، و80,000 منهم تقريباً يحملون تصاريح رسمية.
الخاتمة
لقد كان اعتماد الأراضي الفلسطينية على إسرائيل من خصائص حقبة أوسلو، حيث تتولى إسرائيل ضبط الحدود والتنقلات وتجمع الغالبية العظمى من إيرادات السلطة الفلسطينية نيابة عنها، بينما تتولى هذه الأخيرة إدارة مناطق حضرية محدودة وتكافح من أجل تطوير محركاتٍ للنمو الاقتصادي، مثل الصناعات ذات القيمة المضافة، وسط القيود المفروضة عليها. ولكن هناك توجهان أدّيا إلى تفاقم الاعتماد الفلسطيني، هما: تراجع مساعدات الدول المانحة، وتدهور قدرة مؤسسات السلطة الفلسطينية، وخاصة قدرتها على المساهمة في إيجاد الظروف اللازمة لتحقيق النمو الاقتصادي.
وفي حين هناك عدداً من الأمثلة الحديثة التي تدعم الحجة القائلة بأنّ الاستقرار الاقتصادي قادر على تحقيق هدوء نسبي، إلا أن هناك بالتأكيد أمثلة تاريخية سادت فيها المشاعر القومية الفلسطينية وأدت إلى وقوع اضطرابات، على الرغم من الازدهار الاقتصادي النسبي، كما حدث في الفترة التي سبقت الانتفاضة الأولى. من هنا، تشكك المخاطر المعنوية والتكاليف السياسية في استدامة مثل هذا النهج. ولذلك فإنّ صمود الحلول الاقتصادية المؤقتة القائمة على دوافع أمنية ودفاعية يستوجب تأييداً أكبر من الزعماء السياسيين وقدرةً على إقناع المواطنين المشككين بها.
كاثرين باور هي زميلة "بلومنستين كاتس فاميلي" في معهد واشنطن ومسؤولة سابقة في وزارة الخزانة الأمريكية. وقد نُشرت هذه المقالة في الأصل على موقع "كارافان".
"كارافان"