- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3096
الخطوة الثانية في السلام بين مصر وإسرائيل هي خطوة كبيرة
صادف يوم 26 آذار/مارس الذكرى السنوية الأربعين لمعاهدة السلام بوساطة الولايات المتحدة التي وقعها الرئيس المصري أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن. ومن أجل تخليد ذكرى تلك اللحظة التاريخية، نظمت إسرائيل مؤخراً فعاليات في "معهد هاري ترومان للبحوث" و"معهد دراسات الأمن القومي" و"كلية الجليل الغربي" و"جامعة بار إيلان" و"مركز تامي شتاينمتس لأبحاث السلام"، حصدت كل واحدة منها تغطية إعلامية مكثفة. ومع ذلك، شعر العديد من المشاركين بالإحباط لأن السلطات في القاهرة لم تسمح لأي مسؤولين مصريين أو مواطنين عاديين بالمشاركة في هذه الفعاليات.
ولا تبرر التدابير اللوجستية الدبلوماسية أو حتى تفسيرات الحكومة المعلنة على نحو ملائم هذا التقصير. فالعديد من المسؤولين المصريين المتمركزين في تل أبيب يتحدثون العبرية بطلاقة وهم قادرون إلى حدّ كبير على مخاطبة الجماهير الإسرائيلية. فضلاً عن ذلك، بينما أفاد أحد هؤلاء المسؤولين أن القاهرة ترغب في الاحتفاظ باحتفالها الرسمي بالمعاهدة لحدث يستضيفه الرئيس عبد الفتاح السيسي شخصياً، إلّا أنه لم يتمّ بعد تحديد موعد مثل هذا الحدث.
كما يمكن رؤية هذا التباين الصارخ نفسه في ردّ وسائل الإعلام في البلدين إزاء هذه الذكرى. فقد كرست وسائل الإعلام الإسرائيلية مساحة كبيرة للاحتفال بذكرى توقيع المعاهدة، لكن بالكاد قامت أي وسيلة إعلامية مصرية بتغطيتها باستثناء بعض الاقتباسات من وسائل إعلام إسرائيلية. وبدلاً من ذلك، ركّزت على الذكرى الثلاثين لإعادة إسرائيل مدينة طابا المتنازع عليها في سيناء إلى السيطرة المصرية - وهو حدث يُحتفل به باعتباره عطلة وطنية كل 19 آذار/مارس. وفي الموازاة، نشر مؤخراً موقع إلكتروني مرتبط بجماعة «الإخوان المسلمين» تقريراً يصف السلام بين الدولتين بـ"الوهمي" ويرثي "مفاعيله الكارثية والعكسية"، إذ إنه فتح الباب أمام وجود إسرائيل المستمر. [والأسئلة التي تطرح نفسها هنا] ما الهدف الكامن وراء هذه الردود المتباينة وما هي التداعيات السياسية المترتبة عليها بالنسبة للعلاقات الإقليمية مع إسرائيل؟
سلام دون تطبيع
بعد مرور 40 عاماً على توقيع المعاهدة، يحمل الوضع الراهن للعلاقات المصرية-الإسرائيلية في طياته الكثير من الإنجازات المهمة والمشجعة:
- غياب أي أعمال عدائية مسلحة بين البلدين لمدة أربعة عقود
- اتفاقيات عسكرية سليمة تماماً
- علاقات دبلوماسية وقنصلية مستمرة
- حرية مرور سفن الشحن الإسرائيلية في قناة السويس
- علاقات تجارية متبادلة (على الرغم من أن مصر تبقيها في حدها الأدنى)
- تعاون عسكري وثيق لمنع هجمات إرهابية على إسرائيل انطلاقاً من مصر
- غياب أي تدخل مصري عندما تتواجه إسرائيل عسكرياً مع جيران عرب آخرين
- سياحة إسرائيلية مشروعة إلى مصر (رغم أن القاهرة لا تفعل شيئاً لتشجيعها)
- قنوات حوار مفتوحة حول إقامة سلام شامل في المنطقة
ومع ذلك، يجب التمييز بشكل واضح بين الحفاظ على هذه الجوانب الأساسية للسلام والتقدّم بالعلاقات خطوة إضافية نحو التطبيع. فعلى مرّ السنين، خلص البلدان إلى أن الهدف الأول أهم بكثير من الثاني.
إلّا أن كل بلد يفصل بين هذه الأولويات بدرجات متفاوتة، فقد لجأت السلطات المصرية إلى هذا الاختلاف لتعزيز مصالحها الخاصة، وغالباً ما استخدمته كأداة للعقاب أو المكافأة. وتدرك القاهرة جيداً أن العديد من الإسرائيليين يتوقون جداً إلى الاعتراف [بدولتهم] وإلى المودة والعلاقات الطبيعية بحيث سيغتنمون في معظم الأحيان أي باب دبلوماسي مشرّع أمامهم - ويدفعون الثمن عن طيب خاطر لإبقائه مفتوحاً إذا هدد الجانب الآخر بإغلاقه. ولهذا السبب، ستعمد مصر بين الحين والآخر إلى تبادل الوفود مع إسرائيل، وإرسال مجموعة من السياح إلى هناك، والتعاون في مجالات فنية محددة، وكذلك التخفيف من حدّة الهجمات في وسائل الإعلام المصرية، وتحسين الوضع الأمني في محيط السفارة الإسرائيلية، ومنح الإذن لإقامة أنشطة ثقافية ثنائية، وتحسين العلاقات التجارية بشكل هامشي، والسماح لعقد اجتماعات بين شخصيات بارزة إسرائيلية ومصرية، وقبول الدعوات الإسرائيلية للمشاركة في مآدب عشاء رفيعة المستوى، والمشاركة في معارض تجارية أو ثقافية مع الإسرائيليين.
في الوقت نفسه، تسمح الحكومة لوسائل الإعلام المحلية بالحفاظ على نبرة معادية للغاية تجاه إسرائيل. فخلال احتفالات شهر رمضان في العام الماضي على سبيل المثال، بثّ التلفزيون المصري برنامجاً تبيّن خلاله أن أحد أفراد تنظيم «القاعدة» العامل في البلاد هو عميل لـ "الموساد" الإسرائيلي يعتزم تعريض الأمن القومي في مصر للخطر. وأشادت الحكومة علناً بالبرنامج، ويبدو تأييدها الضمني لمثل هذه الآراء المشوهة واضحاً بالنظر إلى درجة سيطرة معسكر السيسي على قطاع الإعلام منذ توليه السلطة. ويمكن اعتبار معظم الأوصاف التي تطلقها وسائل الإعلام على القضايا المتعلقة بإسرائيل بأنها تحظى بموافقة المسؤولين الحكوميين، مما يعكس رغبة واسعة النطاق بنبذ الإسرائيليين واليهود، وإثارة الخوف والكراهية تجاههم، وتمجيد الصراع العربي ضدّهم.
ويقيناً، تلتزم مصر تماماً بالحفاظ على السلام رغم هذا الخطاب. ففي النهاية، تمّ بثّ برنامج المؤامرة بين "القاعدة/الموساد" وغيره من البرامج في وقت يشهد تعاوناً أمنياً غير مسبوق بين الجيشين الإسرائيلي والمصري. وتحرص القاهرة أيضاً على مساعدة المجتمع الدولي على توسيع نطاق السلام مع إسرائيل ليشمل دولاً عربية أخرى. ومع ذلك، فإن مفهومها للعلاقات السليمة يختلف عن مفهوم إسرائيل.
ولا يرى المصريون أي صراع متوقع مع إسرائيل ما لم تبادر إلى مهاجمتهم أولاً أو إلحاق الضرر بمصالحهم الوطنية. ووفقاً لذلك، لا يوجد أي سيناريو موثوق يمكنهم بموجبه المحاربة بالنيابة عن الفلسطينيين أو اللبنانيين أو السوريين. لقد تمّ اختبار هذا الواقع أساساً وإثباته مرات عديدة - خلال الانتفاضات الفلسطينية والحروب في لبنان والحملات العسكرية الإسرائيلية في غزة وغيرها من الظروف. وقد تعلّمت القاهرة من الأخطاء التي ارتكبتها قبل عام 1979، ولن تدخل في حرب ضد إسرائيل مجدداً إلا إذا كان ذلك في ظل ظروف أمن قومي مخيفة.
كما تنظر مصر إلى نفسها على أنها القائد المهيمن للعالم العربي، وبالتالي يحق لها مواصلة السعي وراء المصالح العربية مقابل إسرائيل. ولم يتغير هذا الموقف عندما طردت "جامعة الدول العربية" القاهرة من صفوف المنظمة لسنوات بعد توقيعها معاهدة السلام مع إسرائيل. ومنذ حرب 1973، خلص المسؤولون المصريون إلى أنه يجب التعامل مع القضايا العربية مع إسرائيل على طاولة المفاوضات وليس في ساحة المعركة. وكدليل على هذه النظرية، لفتوا إلى أنه تمّت إعادة سيناء إليهم من دون إطلاق رصاصة واحدة.
وفي الوقت نفسه، يبدو أن القاهرة تعتقد أن الدول العربية الأخرى ليست قوية بما يكفي للتعامل مع مسألة التطبيع بالكامل، معتبرةً نظرياً أن مثل هذه النتيجة ستسمح لإسرائيل بالسيطرة على أنظمتها الاقتصادية والمالية. وبالتالي، يبدو أن المسؤولين المصريين يروجون لمقاربتهم الخاصة لإسرائيل باعتبارها النموذج الأفضل - وخاصةٍ توقيع اتفاق سلام ثنائي، ومع ذلك وضع حدود للتطبيع من أجل تفادي الضرر المفترض الذي قد تُلحقه إسرائيل بالنسيج الاجتماعي والسياسي والثقافي في المنطقة.
ويتمثل الجانب المشرق لهذا النموذج من السلام البارد في عدم نظر المسؤولين المصريين بجدية أبداً في إلغاء معاهدة السلام، ويرجع ذلك أساساً لأسباب استراتيجية. فمن وجهة نظرهم، قد يعتبر المجتمع الدولي مثل هذا القرار عملاً عدوانياً. وهذا بدوره يمهد الطريق أمام إسرائيل لشنّ هجوم على سيناء وقناة السويس والسيطرة عليهما، مما يلحق الضرر بالمصالح الاقتصادية لمصر بينما يعزّز تلك الخاصة بإسرائيل.
توصيات للسياسة الأمريكية
بإمكان للولايات المتحدة اتخاذ عدة خطوات محددة من أجل الحدّ من الحواجز التي لطالما أعاقت أي تطبيع حقيقي بين إسرائيل ومصر. فعلى سبيل المثال، يجب على إدارة ترامب أن تشجع القاهرة لكي تسمح بإجراء رحلات سياحية إلى إسرائيل دون مطالبة الأفراد بالحصول على إذن من أجهزة الاستخبارات والأمن في البلاد. تجدر الإشارة إلى أن مصر لديها أقسام باللغة العبرية في ثلاث عشرة جامعة، لكن خريجي هذه البرامج لا يُسمح لهم عموماً بزيارة إسرائيل. وعلى نحو مماثل، سُمح لعدد قليل من رجال الأعمال المصريين بإبرام صفقات مع إسرائيل حتى عندما كان مثل هذا التعاون مفيداً للبلاد ككل - على سبيل المثال، من شأن المشاريع التي تستفيد من خبرة إسرائيل الكبيرة في مجال تكنولوجيا المياه أن تساعد في التخفيف من مخاوف ندرة المياه في القاهرة.
هيثم حسنين كان زميل "غليزر" في معهد واشنطن في الفترة 2016-2017.