تستعد إدارة الرئيس الأمريكي ترامب لإصدار قرارين رئيسيين، أحدهما يتعلق بالمملكة العربية السعودية والآخر بإيران، من شأنهما تحديد مسار انتشار التقينة النووية في الشرق الأوسط لعقود قادمة. ففي كانون الثاني/يناير، حدد الرئيس الأمريكي شهر أيار/مايو موعداً نهائياً للتوصل إلى توافق في الرأي بين الولايات المتحدة وأوروبا على شروط أكثر صرامةً للاتفاق النووي المبرم مع إيران عام 2015. ويريد البيت الأبيض على وجه الخصوص التخلص مما يسمى ببنود الانقضاء الواردة في الاتفاق، التي قد تسمح لطهران بإنتاج الوقود النووي على نطاق صناعي في غضون عقد من الزمن.
وبالتزامن مع ذلك، بدأت الإدارة الأمريكية مفاوضات مع السعودية، الخصم الرئيسي لإيران في المنطقة، بشأن التوصل إلى اتفاق ثنائي محتمل للتعاون النووي. فلدى الرياض خطط طموحة لبناء ما يصل إلى ستة عشر مفاعلاً نووياً خلال العقود المقبلة بتكلفة تناهز 80 مليار دولار. وتريد الشركات الأمريكية المشاركة في هذه المشاريع المربحة في محاولة لإحياء قطاع الطاقة النووي المتداعي في الولايات المتحدة.
غير أن وضع الصيغة النهائية لشراكة نووية مع السعودية قد سبّبت مشاكل للإدارات الأمريكية المتعاقبة. فمثلها مثل طهران، تريد الرياض التمتع بحق إنتاج الوقود النووي على أراضيها من خلال تخصيب اليورانيوم وإعادة معالجة البلوتونيوم من وقود المفاعل المستهلك. وكانت إدارتا بوش وأوباما قد رفضتا مثل هذه الطلبات، خوفاً من أن تستخدم المملكة هذه التقنيات لصنع أسلحة نووية.
وعلى الرغم من أن إدارة ترامب لم تعلن حتى الآن موقفها الرسمي من هذا الموضوع، يعتقد بعض المسؤولين الذين يشاركون في خطط الرياض النووية الناشئة، أن واشنطن قد تخفف موقفها فيما يخص إقدام السعودية على تخصيب اليورانيوم من أجل دعم وعد الرئيس ترامب بإحياء القطاع النووي الأمريكي. ومع ذلك، فمثل هذه الخطوةً قد تشكّل سابقة يمكن أن تحتذي بها دول المنطقة الأخرى، بما فيها تركيا والأردن ومصر والإمارات - وجميعها أعلنت عن نيتها في تطوير الطاقة النووية في السنوات الأخيرة. وفي هذا السياق، قال أحد كبار المسؤولين التنفيذيين الآسيويين الذين شاركوا في مفاوضات مع الحكومة السعودية أنه "من الصعب أن تقول 'نعم' لحليف و 'لا' لآخر"، وأضاف: "قد تنتشر هذه التكنولوجيات بسرعة وبشكل خطير".
هل سيتمّ التخلي عن الاتفاق "الذهبي" للحدّ من الانتشار؟
في عام 2009، أبرمت إدارة أوباما اتفاق تعاون نووي مع الإمارات الذي يوصف الآن بأنه "المعيار الذهبي" لمكافحة انتشار الأسلحة النووية. ومن بين أمور أخرى، تخلت أبوظبي قانوناً عن حقها في تخصيب اليورانيوم أو إعادة معالجة البلوتونيوم، ووافقت عوضاً عن ذلك على شراء الوقود النووي من مورّدين أجانب. وفي ذلك الوقت، اعتُبر الاتفاق وسيلة للضغط على إيران كي تتخلى بدورها عن قدراتها الخاصة في مجال التخصيب. أما إذا قررت الولايات المتحدة الموافقة على قيام السعودية بتخصيب اليورانيوم، فقد تمنح الإماراتيين مبرراً للانسحاب من الاتفاق مع زيادة جرأة طهران في الوقت نفسه.
وكانت المخاوف من حدوث انتشار نووي مماثل قد خيّمت على المفاوضات، التي بلغت ذروتها في اتفاق عام 2015 مع إيران. وقد حذر منتقدو الاتفاق، بمن فيهم العديد من الحكومات العربية، واشنطن من أن قبول مطالب إيران بالتخصيب على المدى الطويل قد يتسبب ببروز اختلالات تكنولوجية وأمنية إقليمية قد تسعى السعودية ودول أخرى إلى تصويبها. بدورهم، ردّ كبار المسؤولين الأمريكيين بأن العجز عن فرض قيود على برنامج إيران النووي، مهما كان مؤقتاً، قد يشكل تهديداً أسوأ يؤدي إلى انتشار الأسلحة النووية.
وفي ذلك الوقت، أثارت إدارة أوباما أيضا شكوك حول ما إذا كانت دول الخليج تتمتع بالقدرة العلمية والتقنية لتطوير برامج نووية خاصة بها على المدى القريب. وفي هذا الإطار، كتب كولن كاهل - قبل فترة وجيزة من تعيينه مستشار الأمن القومي لنائب الرئيس الأمريكي جو بايدن - والمؤلفون المشاركون معه في تقرير صدر عن "مركز الأمن الأمريكي الجديد" في عام 2013: "أن السعودية تفتقر إلى التقنيات والوسائل البيروقراطية اللازمة" لإقامة دورة وقود نووية "في أي وقت في المستقبل المنظور". كما تطرّق تقريرهم إلى الفائدة المحتملة للتهديد بفرض عقوبات مالية على صادرات النفط السعودية من أجل حثّ الرياض على العدول عن فكرة تطوير دورة وقود نووي.
وبغض النظر عن ذلك، أظهرت المملكة كافة المؤشرات خلال السنوات الأخيرة على أنها تعتزم المضي قدماً وبقوة في خططها النووية الطموحة. ووفقاً لمسؤولين سعوديين، تجري المملكة أبحاثاً موسعة في "مدينة الملك عبدالله للطاقة الذرية والمتجددة"، وهي الهيئة النووية الأساسية في البلاد، وتُعِدّ كوادر من العلماء والمهندسين النوويين. كما وقّعت على اتفاقيات للتعاون النووي مع عدة دول، بما فيه الصين وفرنسا والأرجنتين.
وفي كانون الأول/ديسمبر، دعت المملكة خمس شركات لإعداد عروض للموجة الأولى من مشاريع المفاعلات، وفقاً لما ذكره المشاركون في هذه العملية. ومن بين هذه الشركات شركة "وستنغهاوس أليكتريك" الأمريكية، وشركة "جاي أس سي روساتوم" (التابعة لشركة روساتوم النووية الروسية العملاقة)، ومجموعة "إي دي أف" الفرنسية، و"المؤسسة الصينية للهندسة النووية"، وشركة "كوريا إلكتريك باور" (كيبكو). وكما أشار مسؤولون من الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، لن تنضم "وستنغهاوس" و"كيبكو" إلى المشروع إلا إذا قامت واشنطن بوضع اللمسات الأخيرة على اتفاق التعاون النووي مع السعودية، لأن الشركتين تستخدمان قطعاً وتكنولوجيات أمريكية في مفاعلاتهما. وعلى أي حال، من المتوقع أن تختار الرياض الفائزين بحلول نهاية العام.
وفي الشهر الماضي، زار وزير الطاقة الأمريكي ريك بيري الرياض لبحث مثل هذا الاتفاق، لكن الإدارة الأمريكية رفضت حتى الآن كشف أوراقها حول ما إذا كانت واشنطن مستعدة لتقديم تنازلات عن حظر تخصيب اليورانيوم. وفي أواخر تشرين الثاني/نوفمبر، قال مدير شؤون أسلحة الدمار الشامل ومكافحة انتشار الأسلحة النووية في البيت الأبيض، كريستوفر فورد، خلال جلسة استماع للكونغرس الأمريكي إن حظراً مماثلاً "ليس شرطاً قانونياً بل نتيجة مرجوة". وقد أسفر خبر المفاوضات التي تجريها الإدارة الأمريكية مع السعودية عن خوض جدال حاد في واشنطن حول حكمة إعطاء الرياض الضوء الأخضر لتخصيب اليورانيوم.
على سبيل المثال، حذّر عدد من الجماعات من اليمين واليسار من أن تخفيف الموقف الأمريكي بشأن هذه القضية يمكن أن يؤدي إلى إطلاق سلسلة من الانتشار النووي في الشرق الأوسط وحتى في آسيا. كما قلّلت هذه الجماعات من أهمية الحجج القائلة بأن المشروع السعودي يمكن أن يجني فوائد مالية كبيرة للشركات الأمريكية، علماً أن شركة "وستنغهاوس" مملوكة بمعظمها لشركة "توشيبا" اليابانية وقد تقدمت بطلب إشهار إفلاسها في آذار/مارس 2017 بعد تأجيلها عمليات تسليم مفاعلات لمحطتين لتوليد الطاقة في الولايات المتحدة. وفي هذا السياق، صرّح هنري سوكولسكي، المدير التنفيذي لـ"المركز التعليمي لسياسة عدم انتشار الأسلحة النووية" في مقابلة أجراها معه كاتب هذه السطور، بأن "الجوانب الإيجابية للأعمال النووية الأمريكية في الشرق الأوسط ضئيلة مقارنةً بمخاطر انتشار الأسلحة النووية". وتابع قائلاً، "من المؤكد أن المكان الأخير الذي تتخلى فيه الولايات المتحدة عن المعيار الذهبي للتعاون النووي السلمي الأمريكي هو في منطقة سبق أن تعرّضت فيها ثلاث محطات نووية 'سلمية' للقصف على يد دول مجاورة معادية"، في إشارة إلى إقدام العراق على قصف مفاعل بوشهر الإيراني في ثمانينيات القرن الماضي، وقيام إسرائيل بتدمير المفاعلين السوري والعراقي.
الزوايا الإيرانية والآسيوية
ومع ذلك، يقول خبراء آخرون أن واشنطن قد لا تكون لديها القدرة على منع السعوديين من تخصيب اليوارنيوم، لا سيما في الوقت الذي تتطلع فيه روسيا والصين إلى بيعهم مفاعلات. ومؤخراً كتب روبرت آينهورن، أحد الخبراء الاستراتيجيين وراء إبرام الاتفاق مع إيران، أن ادارة ترامب قد تضطر الى السماح للسعودية بإجراء بعض التخصيب، ولو مع تدابير احترازية صارمة لمنع أي تطوير للأسلحة النووية. ووفقاً لمقال في 12 كانون الثاني/يناير في "نشرة علماء الذرة" Bulletin of the Atomic Scientists، قد يتضمن أي اتفاق مع السعودية حظراً على التخصيب ينتهي بعد 15 عاماً. ومن شأن رفض هذا التنازل أن يقصي واشنطن بالكامل عن أي خطط نووية سعودية مستقبلية، وأضاف: "إذا كانت الولايات المتحدة ترغب في التعاون مع السعودية في المجال النووي السلمي، ستحتاج إلى اعتماد مقاربة تخدم الأهداف الأمريكية المتمثلة بحظر الانتشار من دون إقفال الباب تماماً أمام قدرة السعودية على إقامة دورة وقود نووي".
ويشير آخرون إلى أن الكونغرس، الذي يتعين عليه الموافقة على أي اتفاق مع السعوديين، قد يدرج بعض المطالب المتشددة. وقد تشمل هذه مطالبة الإدارة الأمريكية بأن توضح للرياض بأن الولايات المتحدة لن تبيعها أبداً التكنولوجيا الضرورية لتخصيب اليورانيوم أو إعادة معالجة البلوتونيوم، وأن واشنطن ستتخذ الخطوات الضرورية لضمان عدم قيام البلدان الأخرى بتوفير هذه التكنولوجيا للمملكة أيضاً. كما يتعين على المسؤولين الأمريكيين أن يطالبوا السعودية بالتوصل إلى اتفاق مع "الوكالة الدولية للطاقة الذرية"، وهي هيئة مراقبة الأعمال النووية التابعة للأمم المتحدة، للسماح لها بإجراء عمليات تفتيش موسعة لمواقعها النووية - وهو بند يسمى "البروتوكول الإضافي". ولفت داريل كيمبال، المدير التنفيذي في "رابطة تحديد الأسلحة"، في مقابلة أجراها معه الكاتب، إلى أن "أحد أهدافنا الرئيسية يجب أن يتمثل في منع انتشار هذه التقنيات الحساسة".
وفي جميع الأحوال، أصبحت السياسات النووية الأمريكية تجاه إيران والسعودية مترابطة بشكل معقّد وقد وصلت إلى حدّ الأزمة. فمساعي إدارة ترامب لتشديد القيود المفروضة على القدرات الإيرانية قد تحشد بعض الزخم في أوساط الحكومات الأوروبية المتشككة، ولكن إذا غيّر البيت الأبيض موقفه بعد ذلك ودعَم حقوق السعودية في تخصيب اليورانيوم، فقد تبدو إستراتيجيته الإقليمية فارغة. وتُنصح الإدارة حالياً بالاستفادة من التهديدات التي تشكلها الطموحات النووية السعودية والإيرانية من أجل الحصول على الدعم من قوى نووية أخرى بشأن فرض قيود صارمة ضدّ انتشار الأسلحة النووية - وهي وحدة سيصعب التوصل إليها.
كما أن آسيا تراقب عن كثب المحادثات السعودية. فمن المقرر أن تستأنف كوريا الجنوبية التفاوض بشأن اتفاق التعاون النووي مع الولايات المتحدة، وكانت تسعى إلى انتزاع شروط ستسمح لها بإنتاج كميات محدودة من الوقود النووي. ويقول مسؤولون في سيؤول إن برنامجها لأغراض سلمية بحتة، لكن النمو السريع لقدرات كوريا الشمالية في مجال الأسلحة النووية ما فتئ يؤجج الدعوات إلى عمليات تسلّح مماثلة في الجنوب. وكما أشار المسؤول التنفيذي الآسيوي الذي تمّ الاقتباس منه سابقاً: "ما يحدث مع السعودية قد يحمل أثراً كبيراً على كوريا الجنوبية".
جاي سولومون، زميل زائر مميز في "زمالة سيغال" في معهد واشنطن ومؤلف "حروب إيران: ألعاب التجسس، معارك المصارف، والاتفاقات السرية التي أعادت تشكيل الشرق الأوسط".