- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
المراجعات الغائبة في مصر في الذكرى الخامسة لثورة 25 يناير
كانت ثورة 25 يناير 2011 أكبر عملية مراجعة مجتمعية تمت في مصر، توافقت على أهمية التغيير، واتفقت على أن المستقبل لابد من بلوغه بوسائل وقيم أكثر حداثة، تقترب بالمواطن المصري من مجتمع الحقوق المدنية الكامل، وبالنظام السياسي من مقومات الحكم الديمقراطي الرشيد.
لكن بينما ينظر الشباب الذي فجر هذه الثورة للمستقبل ولأدواته، تسلم القرار والتفاوض حول مصير البلاد عدة قوى تنتمي للماضي في تكوينها، سواء كانت الأحزاب القديمة أو جماعة «الإخوان»، أو حتى المجلس العسكري الذي تولى السلطة في البلاد آنذاك، فيما بقيت قوة الشباب مُهمشة ومُهدرة، أو مدفوعة للاستغراق في الاحتجاج المستمر، دون تطوير هذا الاحتجاج في رؤية سياسية قادرة على النمو والانتقال بالبلاد إلى المستقبل.
ومن بين هذه القوى المنتمية ثقافياً لقيم الماضي، تسلم تنظيم «الإخوان» راية هذه الثورة، وبات يعتقد أن وجوده في السلطة هو قمة التغيير وقمة الإصلاح، وأنه لا بأس إن استمرت كل سياسات الماضي بعد منحها طابعا دينيا، وهذا ما أثار غضب القوى الثورية.
مراجعة شبيهة حدثت في الثلاثين من يونيو عام 2013 بعد الإطاحة بنظام «الإخوان»، لكن بدا في داخلها حنين لدولة الماضي رغم أخطائها، أكبر من تطلع لمستقبل رسمت بعض ملامحه يناير وتعطل بلوغه لأسباب كثيرة في العامين التاليين من الإطاحة بحسنى مبارك.
والآن وحتى بعد دعوة العديد من المجموعات الثورية لمزيد من التغيير واستحضار روح ثورة 25 يناير، إلا أنّ المراجعة النقدية ما زالت غائبة تماماً عن تلك المجموعات وهو ما يمثل تحدياً حقيقياً لمصر.
وتقدم القوى المدنية الثورية نفسها باعتبارها معسكر ديمقراطي مدني يرفع شعار لا يجب العودة لما قبل يناير أو يونيو، لكنه معسكر لا ينظر لتجربته بقدر من النقد الذي يسمح بفهم أسباب إخفاقه المزدوج في مواجهة جماعة «الإخوان» وأنصار الدولة والجيش، ولا يوجد اعتراف منهم يوضح أسباب فشلهم في إحداث ثورة سواء في الشارع أو عبر الصناديق الانتخابية.
ولإجراء مراجعة جدية، ينبغي على القوى الثورية ان تدرس أسباب تهميشها وخروجها من الصراع المحسوم بين الطرفين الرئيسيين: الجيش وبقايا دولة مبارك من جهة وجماعة «الإخوان» وجمهورها الديني من جهة آخري، دون أن يكون أمامهم خيار سوى الانحياز لهذا الطرف أو ذاك.
ولكن بدلاً من أن تقوم تلك القوى بتشخيص أسباب هذا الفشل وممارسة النقد الذاتي، طالبت خصومها من «الإخوان» والدولة والجيش بممارسة ذلك النقد الذاتي.
وهناك أيضاً معسكر الدولة الذي يشمل مؤسساتها وأجهزتها البيروقراطية المتعددة، وهذا المعسكر كان دوماً يرى أن تغيير النظام ليس بالحل الأمثل لكن يجب أن ينطلق التغيير من داخل النظام نفسه واستبدال الوجوه في إطار ذات "النظام"، وهذا المعسكر أيضاً لم يجر أي مراجعات ليقنع المصريين، كما يحاول أن يروج أن العيب في الدولة قبل 25 يناير كان عيب أشخاص، وأن بنية الدولة وعلاقاتها بالمجتمع وانحيازاتها وثقافة أدائها لم تكن هي الحاضنة التي سمحت بممارسات هؤلاء الأشخاص. إلا أنّ هذا الطرح يفتقد الى الكثير من الدقة بدليل أن كثيراً من هذه الممارسات السلبية يتكرر أمنياً وسياسياً وتشريعياً رغم غياب الأشخاص واستبدالهم بوجوه جديدة.
أما بقايا نظام مبارك من فلول الحزب الوطني والسياسيين ورجال الأعمال المحسوبين على النظام، فهم يعتقدون أن من حقهم العودة دون مراجعات، لمجرد أن توازنات القوى أضعفت معارضيهم، وتجربة الناس مع حكم جماعة «الإخوان» خلقت حنيناً لحكم الرئيس السابق مبارك بمنطق "جربنا الأسوأ فلماذا لا نعود إلى السيء"، وهو أيضاً التفاف على المراجعة. وقد نجح معارضي «الإخوان» في تجنب إجراء أي مراجعات فكرية أو نقد ذاتي للوقوف على أسباب إخفاقهم في الماضي في ضوء الانتصار الجديد الذي تم تحقيقه.
وليس من المستغرب أن يقوم الشعب المصري بالتعبير عن حنينه لنظام مبارك خلال فترة حكم «الإخوان»، حيث تجنب «الإخوان» إجراء أي مراجعات فكرية، وهذا تكتيك تنظيمي يحاول ضمان استمرار مناخ المحنة والمظلومية لصرف الأنظار عن أي نقد ذاتي لتجربة الجماعة في الأعوام الأخيرة، دون إدراك أن المراجعة الجدية هي الباب المقبول للعودة للمستقبل. لكن اللافت أن المطالب العامة للمراجعة تُوجه فقط لـ «الإخوان» وكأن الآخرين لمجرد أنهم في موقع القوة لا يجب عليهم إجراء أية مراجعات، رغم عدم بلوغ الجميع أي من أهداف المستقبل التي قامت من أجلها ثورة يناير حتى الآن. ولا تزال جماعة «الإخوان» تنكر الحاجة الى اجراء تقييم ذاتي حقيقي يدفع بالجماعة نحو مستقبل أكثر نجاحاً. وفى الوقت ذاته، ترى قطاعات من «الإخوان» أن الجماعة أخطأت بالفعل نظراً لأنها "لم تقمع بالقدر الكافي وتحبس معارضيها، وتركت الإعلام يتحداها، لم تحبس منتقديها، وأنها وثقت في الجيش وأجهزة الدولة".
وباستثناء تجربة تيار في الجماعة الإسلامية يقوده ناجح إبراهيم وكرم زهدي، الذين دعوا الى نبذ العنف والانخراط في العملية السياسية بشكل سلمي، لم يجر فصيل مصري مراجعة حقيقية تذكر. وغير ذلك تقوم التيارات الأساسية في المجتمع بتبرئة نفسها أولاً من الخطأ، وتُلقي باللوم كل اللوم على الآخرين، مع إطلاق أوصاف وتصنيفات عدائية شديدة الحدة مثل "المتآمرين، الخونة، الدولة العميقة، الانقلابين، أعداء الديمقراطية". لكن أحداً لا يتحدث عن نصيبه من هذه الأخطاء، وحين يكون مضطراً للحديث عن أخطائه، يجيب مثل كبار نجوم السينما النرجسيين في مصر: "أهم عيوبي أني طيب، متسامح، صريح، حسن النية." إن أكثر شكل من أشكال المراجعات الذي تمارسه التيارات السياسية الآن هو أن تستسهل بتوزيع الخطايا على الجميع بمنطق "كلنا أخطأنا"، كما جاء في بيان اعتذار منسوب لجماعة «الإخوان» قبل عامين.
وأخيراً، هذا النوع من المراجعات ليس كافياً لوضع مصر مرة أخرى على مسار التقدم، ولا يساعد في فهم المخاطر التي ما زالت تواجهها البلاد. هذه الأيام وفي الذكرى الخامسة لثورة يناير، تغيب المراجعات تماماً، ومن ثم، مطلوب تشجيع التيارات السياسية المصرية على ممارسة النقد الذاتي والتقييم النزيه لممارساتها وتجاربها، لأن المراجعات باب بلوغ المستقبل، وبدونها ستظل مصر تكرر أخطاء الماضي.
أحمد الصاوي هو صحفي مصري.
"منتدى فكرة"