- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 2802
المسار الكردي نحو الاشتراكية في سوريا
في شمالي سوريا، يهدف «حزب الاتحاد الديمقراطي» الكردستاني إلى تعزيز نظام سياسي واقتصادي يقوم على الاكتفاء الذاتي والديمقراطية المحلية. ومع ذلك، فإن إلقاء نظرة فاحصة على التدابير التي يجري تنفيذها يكشف عن جهد واضح لتطبيق أيديولوجية زعيم «حزب العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان المناهضة للرأسمالية. ولا يزال من غير الواضح ما إذا كانت هذه الأيديولوجية تتلاءم مع الظروف الاقتصادية المحلية، ولكن بدلاً من ذلك قد تلجأ السلطات الكردية إلى التطبيع الكامل مع نظام الأسد إذا واجهت مقاومة من قبل أصحاب المصلحة الأساسيين.
أوجالان و "البلدية التحررية"
كتب أوجلان سلسلة من الكتب التي تقترح نموذجاً مجتمعياً للشعب الكردي. واستوحى أيديولوجيّته "الأوجلانية" مباشرةً من المُنظِّر الاجتماعي الأمريكي موراي بوكتشين، وهو يساري متطرّف أراد أن يقضي على الرأسمالية من خلال مفهوم "البلدية التحررية". وآمن بوكتشين بأنّ خلل الرأسمالية الفادح يكمن في صراعها مع الطبيعة - أي عبر تدمير البيئة، ستُحدث الرأسمالية حتماً أزمة كبيرة وتستهلك نفسها. وفي كتابه الأول عن البيئة المتطرفة، أوصى باتّباع اللامركزية في المراكز الحضرية الملوّثة والمزارع الصناعية التي تهيمن عليها المبيدات، ليتمكّن الناس من أن يعيشوا على نطاق أصغر، وينتجوا طعامهم محلياً، ويستخدموا الطاقة المتجدّدة، ويديروا شؤونهم الخاصة.
وفيما يخص هذه النقطة الأخيرة، أوصى أوجلان بإضفاء الطابع الديمقراطي على الأحياء الحضرية من خلال تمكين جمعيات المواطنين. ويمكن لهذه الجمعيات أن تتحالف على مستويات مختلفة: المدينة، المنطقة، الأمة السابقة، وهكذا دواليك. وسوف يرسلون مندوبين إلى المجالس الاتّحادية لتنسيق السياسة وإدارتها. وستستند أسس السلطة على الشعب، الذي سيتم تمثيله مباشرةً في القمة. وفي الوقت المناسب، وفقاً لنظريته، ستوازن البلديات الاتحادية الدولة القومية، وستختفي الرأسمالية بشكل طبيعي. وسوف تصادر البلديات الموارد الاقتصادية الرئيسية و"تُخضع" الاقتصاد لإشرافها، الذي سيمتلكه المجتمع.
ويُعتبر نموذج بوكتشين قريب من نظرية الماوية، وهو المصدر الرئيسي الأوّل لإلهام أوجلان. ومن غير المستغرب أنّ زعيم «حزب العمال الكردستاني» أصبح تلميذاً لأيديولوجية بوكتشين في عام 2004 بعد قراءة العديد من أعماله. وبعد ذلك بعام، خلال مؤتمر الحزب عام 2005، جعل "البلدية التحررية" الأيديولوجية السياسية الرسمية لـ «حزب العمال الكردستاني».
المجتمعات كوحدات سياسية أساسية
يسعى «حزب الاتحاد الديمقراطي» إلى تطبيق مبادئ أوجلان المتعلّقة بالبلدية في شمال سوريا. وعلى الرغم من أن الحزب لا يخطّط رسمياً لبناء دولة كردية أو حتى منطقة مستقلة هناك، فإنّه يسعى إلى إنشاء مجتمع ديمقراطي مسؤول بيئياً في إطار نظام اتحادي.
وفي عام 2013، بدأ «حزب الاتحاد الديمقراطي» إدارة الأراضي الواقعة تحت سیطرته من خلال إنشاء «حرکة المجتمع الدیمقراطي»، وهو تحالف يضمّ جمعیات مدنیة وأحزاب سیاسیة مثل «حزب الاتحاد الديمقراطي»، و«حزب الاتحاد السریاني»، و«حزب السلام الديمقراطي الكردي السوري»، و«حزب الاتحاد الليبرالي الكردستاني». أمّا أعضاء «الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا» وغيرهم من أعضاء «المجلس الوطني الكردي في سوريا» فليسوا جزءاً من «حرکة المجتمع الدیمقراطي»؛ وبالأحرى إنهم يُعتبرون أعداء سياسيين.
وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2013، أعلنت «حرکة المجتمع الدیمقراطي» عن إنشاء إدارتها المستقلة، ألا وهي: روج آفا، التي تنقسم إلى ثلاثة مقاطعات وهي الجزيرة ("Cizîrê" باللغة الكردية)، وكوباني، وعفرين. ويتزعم كل مقاطعة رئيس وزراء كردي يساعده نائبان لرئيس الوزراء، ومعظمهم من غير الأكراد (على سبيل المثال، عرب سنة أو مسيحيين). وعلى الرغم من أنّ «حزب الاتحاد الديمقراطي» هو حزب كردي مُعلن يتّبع سياسة عرقية طائفية واضحة، إلّا أنّ رؤساء وزراء روج آفا حريصون على احترام التنوّع.
ومن المفترض أن تَحكم المقاطعات الثلاث جمعية منتخبة تسيطر على المكتب التنفيذي لروج آفا، ولكنّ الانتخابات لم تجرِ بعد. وقد قررت «حرکة المجتمع الدیمقراطي» إجراء الانتخابات في يوم غير محدد من عام 2017، خلافاً لنموذج بوكتشين الذي يقضي بإنشاء بلديات تنتخب المندوبين إلى المجالس الاتحادية. وتُعرف هذه البلديات في روج آفا بالكوميونات ("komun" باللغة الكردية)، وتحتوي كل منها على 150 منزلاً تقريباً، وحوالي ألف نسمة. ويقوم مجلس بلدي منتخب بإدارة العلاقات بين القرى الفردية والسلطات القائمة التي لا تزال تدير الخدمات العامة المحلية مثل المياه والكهرباء، لأن الإطار الإداري لبلديات ما قبل الحرب لم يختف. ومن الناحية المثالية، تنشأ بلديات جديدة بشكل طبيعي من الكوميونات، ولكن في الواقع تتواجد الهياكل الجديدة والقديمة بالتوازي. وتقدم الكوميونات شهادات للسكان للحصول على الخبز والوقود بأسعار منخفضة، كما تُشرف على المجتمع المحلي وتشارك في تعليمه السياسي. ويتوافق ذلك تقريباً مع "لجان" القرى في الصين الشيوعية.
وبالإضافة إلى ذلك، من المفترض أن تقوم كوميونات روج آفا بتنظيم الحياة الاقتصادية من خلال تعزيز التعاونيات. وفي الريف، يُنظَّم المزارعون في مجموعات تتألّف من خمسة عشر شخصاً، ويُطلب منهم العمل معاً وتبادل فائض الإنتاج مع تعاونيات أخرى، بما في ذلك في المدن. وتتماشى هذه الممارسة مع الهدف المتمثل في تصميم الكوميونات لتكون مكتفية ذاتياً، ومع الهدف النهائي للقضاء على التجار والمال في الوقت الذي يتم فيه إنشاء نظام مقايضة.
ومع ذلك، هناك شكوك بشأن المبادئ الكامنة وراء هذه التدابير وتطبيقها على أرض الواقع. وحتى الآونة الأخيرة، أدّى الاضطراب الاقتصادي للحرب إلى دفع سكان روج آفا إلى تنظيم اقتصاد الْكَفَاف، وولّدت عزلة المنطقة الكردية أسباباً عملية تُفضل الاكتفاء الذاتي. ولكن مع إعادة فتح الروابط البرية حالياً، لا يمكن تبرير هذه السياسة إلا على المستوى الأيديولوجي.
عدم التوافق مع التنويع الاقتصادي
في القطاع الزراعي، تريد السلطات الجديدة في الجزيرة خفض حصة المقاطعة من الحبوب والقطن، وهي المحاصيل الرئيسية المنتجة في المنطقة، لإفساح المجال أمام الأنشطة التي تساعد المجتمعات المحلية على تحقيق المزيد من الاكتفاء الذاتي في مجال التغذية، كزراعة الخضروات والتشجير. ولتحقيق هذا التغيير، يجب أن تُعهد مزارع كبيرة وأراضٍ عامة إلى السكان وأن تنظَّم في التعاونيات. ومع ذلك، يبدو من غير المرجح أن يتقبّل السكان هذا النظام الاقتصادي الجديد. ويمكن لبرنامج «حرکة المجتمع الدیمقراطي» أن يغوي الفلاحين الذين لا يملكون أرضاً في الجزيرة، الذين يخطط «حزب الاتحاد الديمقراطي» أن يوزع عليهم المساحات العامة السابقة. ولكن هذا البرنامج غير مستساغ بالنسبة إلى المزارعين الحاليين الذين يملكون أراضٍ، ويفضّلون بدون شك مواصلة العمل بشكل فردي. وعلاوة على ذلك، تتطلب زراعة الخضروات استثمارات شخصية أكبر بكثير من زراعة الحبوب، وهو أمر بالكاد يتوافق مع الروح الجماعية التي سعى «حزب الاتحاد الديمقراطي» إلى غرسها.
وفي الوقت نفسه، فإن الصناعة غائبة تقريباً عن جميع المقاطعات، ويعود ذلك أساساً إلى تفضيل نظام الأسد إبقاء الأمور بهذه الطريقة "لأسبابٍ أمنية". فعلى سبيل المثال، لم يتم بناء سوى مصنعَين للقطن في منطقة الحسكة في الجزيرة. ويعني ذلك أن سلطات روج آفا لن تضطر إلى تأميم أي مصنع، ولكن فقط لأن هذه المرافق غير موجودة. ولسدّ هذه الثغرة وتلبية الاحتياجات المحلية، ترغب السلطات في تطوير الصناعات الغذائية والصناعات التحويلية. وقد تحاول أيضاً الاستفادة على نحو أتم من موارد النفط المحلية (قُدِّرت بـ150,000 برميلٍ يومياً في عام 2011)، الأمر الذي يتطلب استثمارات أجنبية.
إلّا أنّ جذب المستثمرين إلى مثل هذا النظام المناهض للرأسمالية سيكون أمراً صعباً. ويتم تشجيع الأعمال الحرّة في روج آفا، ولكن فقط ضمن إطار التعاونيات. وعلى نحو مماثل، ثمّة حاجة إلى مهندسين وفنيين للعمل من أجل "الثورة"، ولكن الأفراد الذين لديهم الشهادات والتدريب اللازمَين يميلون إلى مغادرة روج آفا لأن الرواتب منخفضة جداً هناك. وعلاوةً على ذلك، يخشى العديد من الشبان التجنيد ويفضلون اللجوء إلى العراق. وتعاني الطبقات الوسطى بشكلٍ خاص من هذا النزيف الديموغرافي، لأنّ المهنيين ورجال الأعمال الليبراليين يُستبعدون إلى حدٍّ كبير من النظام الاقتصادي الذي يجري إنشاؤه حالياً.
كشف علاقات روجافا مع دمشق
لا يزال تطبيق نظريات أوجلان متواضعاً في المجال الاقتصادي في روج آفا، لأن «حزب الاتحاد الديمقراطي» يدرك أنه يخاطر بتنفير جزء كبير من السكان، وخاصة أولئك الذين التفوا [حول راية] الحزب خوفاً من تنظيم «الدولة الإسلامية». وتشجع إعادة فتح الاتصالات البرية مع منطقة نظام الأسد في غرب سوريا على العودة إلى التصدير المربح للحبوب والقطن. وعلاوةً على ذلك، من المرجّح أن تُغمر السلع المصنّعة من منطقة النظام أسواق روج آفا قبل أن يتمكن أي إنتاج محلي من التطور. وبناءً على ذلك، قد تلجأ السلطات المحلية إلى الحِمَائِيَّة للدفاع اقتصادياً عن المقاطعات، ربما عبر فَرض التعريفات ومنع الوصول إلى السوق الغربية السورية.
وإذا فشل النظام الاقتصادي التعاوني لـ «حزب الاتحاد الديمقراطي» بسبب هذه الضغوط، فسيكون للحزب خيارَين: إمّا إجبار السكان المحليين على قبول نظريات أوجلان، وإمّا إعلان "توقف" عن التنفيذ بسبب ظروف الحرب، مثلما فعل فلاديمير لينين مع "السياسة الاقتصادية الجديدة" للاتحاد السوفييتي في عام 1920. وفي الحالة الأولى، إن عملية جعل اقتصاد روج آفا "ملكاً للمجتمع" تنطوي على مصادرة ممتلكات بعض الفئات الاجتماعية، وعلى وجه التحديد الدوائر التي تُعتبر معارضة للحزب. ثم يتم إعادة توزيع هذه الممتلكات على قاعدة الحزب بهدف تعزيز نفوذه والقضاء على نفوذ نظام الأسد. كما أن جهوداً كهذه تشير إلى عقلية انفصالية، على الرغم من النموذج الاتحادي الذي كان «حزب الاتحاد الديمقراطي» يروّج له.
وفي الحالة الثانية، من المرجح أن يحفّز "التوقف" عن العمل الجماعي الاقتصادي إلى تخلي «حزب الاتحاد الديمقراطي» عن إرادته في تغيير مجتمع روج آفا والموافقة على تطبيع العلاقات مع دمشق. وستعاد بعد ذلك المقاطعات الكردية إلى المجال الاقتصادي السوري، كما ترفع العوائق أمام المبادرة الخاصة. وأياً كان النهج الذي يختاره الحزب، فسيكون السكان المحليين، الأكراد وغير الأكراد، أكثر ميلاً للقبول بالسعي لتحقيق شكل من أشكال الاستقلال الذاتي إذا ما تحسّنت ظروفهم المعيشية.
فابريس بالونش، هو أستاذ مشارك ومدير الأبحاث في "جامعة ليون 2"، وزميل زائر في معهد واشنطن.