- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 2776
المشاكل المصرفية في اليمن قد تُسفر عن آثار إنسانية وخيمة
في أعقاب زيارةٍ إلى اليمن في وقتٍ سابقٍ من هذا الشهر، أعلنت رئيسة "برنامج الأغذية العالمي" التابع للأمم المتحدة أن تفادي المجاعة في تلك البلاد هو "سباقٌ مع الزمن". وقد ورد تقديرها في تقرير متعدد الوكالات صدر في وقت لاحق حول الأزمة، ووجد أن سبعة عشر مليون يمني يعانون من انعدام الأمن الغذائي، وقد ازداد عددهم بأكثر من 2.5 مليون منذ حزيران/يونيو 2016. ونظراً إلى صعوبة نقل المساعدة الإنسانية المادية عبر خطوط المعركة ومناطق النزاع، غالباً ما يؤمّن "برنامج الأغذية العالمي" وغيره من المنظمات الدولية المساعدة النقدية للأسر المحتاجة حيث تستمر الأسواق في العمل، مما يسمح لها بشراء السلع الأساسية بنفسها. لذلك، يشكّل الحفاظ على توافر تدفق الأغذية المتاحة لعملية الشراء التجارية، وضمان القوة الشرائية أولويتيْن ملحّتيْن في وضعٍ مثل اليمن.
وفي العام الماضي، نقلت حكومة الرئيس عبده ربو منصور هادي المعترَف بها دوليّاً مقر "البنك المركزي اليمني" من العاصمة صنعاء التي يسيطر عليها الحوثيون إلى عدن. لكن ما زالت علامات الاستفهام تحيط بسلطة "البنك المركزي اليمني"، التي تعيق وصوله إلى احتياطيات اليمن المحدودة. وبالمثل، لاقى المصرف صعوبة في دفع الرواتب العامة في جميع أنحاء البلاد، فعرّض العاملين الحكوميين ومُعاليهم الذي يبلغ عددهم بأكثر من ثمانية ملايين شخص في المجموع، للخطر.
الخلفية
بعد أن اضطرَّت حكومة هادي إلى الخروج من صنعاء في شباط/فبراير 2015، بقي "البنك المركزي اليمني" يضطلع بدورٍ نقدي ومالي من العاصمة، فدفع الرواتب في جميع أنحاء البلاد وفقاً للمخصصات في ميزانية عام 2014 التي سبقت الحرب. ومع ذلك، سرعان ما بدأ المسؤولون يشكّون في حياد المصرف، خشية من أن تؤدي المدفوعات إلى الوزارات التنفيذية من أجل تغطية الرواتب إلى تمكين الحوثيين من الدفع إلى مواليهم وتمويل جهودهم الحربية.
وفي آب/أغسطس الماضي، سعت حكومة هادي إلى تغيير قيادة "البنك المركزي اليمني" عندما انتهت ولاية أعضاء مجلس الإدارة الراهن. وفي منتصف أيلول/سبتمبر، في خضم اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، أصدر الرئيس هادي قرارات بنقل مقر المصرف إلى عدن.
الاحتياطيات الأجنبية المتضائلة
في وقت نقل "البنك المركزي اليمني"، كان المصرف يواجه بالفعل تحديات هائلة. فمن دون تصدير النفط بشكلٍ منتظم، لم يتمكّن من سد عجز احتياطاته الأجنبية. وقد وفرت وديعة سعودية بقيمة مليار دولار تم تقديمها في عام 2012 بعضاً من الاستقرار إلى المصرف والريال اليمني، لكن الرياض لم ترغب في توفير أموال إضافية لمؤسسة يُنظر إليها على أنها تموّل خصومها في الصراع.
ومنذ انتقاله إلى عدن، جاهد "البنك المركزي اليمني" من أجل تولي العديد من الواجبات التي تُلقى على عاتق أي مصرف مركزي. وتفيد التقارير بأنه ما زال من الصعب الوصول إلى عدد كبير من حساباته الأجنبية بسبب استمرار عدم اليقين بشأن مطالبته باحتياطات النقد الأجنبي الخاصة باليمن. وفي حين يُدرِج "صندوق النقد الدولي" محافظ البنك الجديد، منصّر صالح القعيطي، على لائحته كممثل اليمن الرئيسي في الصندوق، لا يزال الحاكم السابق محمد بن همام مدرجاً كبديل عنه على اللائحة.
ويشير المسؤولون اليمنيون أيضاً إلى أن التحديات االتي واجهها "البنك المركزي اليمني" مؤخراً قد عقّدت استلام المدفوعات الخاصة بصادرات النفط المحدودة للبلاد. ففي الصيف الماضي، أُودعت عائدات إحدى عمليات البيع النفطية إلى شركة "جلينكور" المتعددة الجنسيات في حسابٍ تمتلكه وزارة المالية اليمنية في السعودية بدلاً من الحسابات الموجودة الخاصة بـ"البنك المركزي اليمني". وبينما أفادت الحكومة اليمنية في أواخر شباط/فبراير أنها بصدد الانتهاء من المفاوضات مع الرياض لإيداع مبلغ ملياريْ دولار في "البنك المركزي اليمني"، لا يمكن استخدام هذه الأموال بشكلٍ كامل من دون الوصول إلى حسابات الدولار الأمريكي، ولا يتضح إذا كان "البنك المركزي اليمني" يتمتع بإمكانية الوصول إليها عمليّاً.
النقص في الأوراق النقدية
واجه "البنك المركزي اليمني" ومصارف يمنية أخرى أيضاً نقصاً في العملة المادية منذ فترة طويلة قبل الانتقال إلى عدن. فخلال الحرب التي دامت عامين، أصبح هذا النقص أكثر تواتراً، حتى عندما كانت الأموال متوافرة إلكترونيّاً لتسديد مدفوعات الرواتب. وأُلزِمَت فروع "البنك المركزي اليمني" على تأجيل التدمير المزمع للأوراق النقدية المتدهورة من أجل ضمان امتلاك القطاع المصرفي ما يكفي من النقود المادية. كما قام "البنك المركزي اليمني" بالتفاوض على اتفاق مع الشركة الروسية "غوزناك" المعنية بطباعة العملات، لطباعة أربع مئة مليار ريال يمني في العام الماضي، لكن ما أن أصبحت حكومة هادي غير سعيدة من قيادة المصرف، اتخذت خطوات لمنع تسليم النقود الجديدة إلى صنعاء من أجل منع التحالف الحوثي من الوصول إليه.
فور انتقال "البنك المركزي اليمني"، وَضع الصيغة النهائية لترتيبات العملة الجديدة التي سيتم تسليمها حصراً إلى عدن. وقامت شركة "غوزناك" بتسليم الدفعة الأولى مؤخّراً إلى هناك، ويقوم المصرف بنشر النقود في الأراضي الخاضعة لسيطرة هادي عبر فروع البنك ومكاتبه البريدية. ومن أجل المساعدة في دفع الرواتب في المناطق التي يسيطر عليها المتمردون، يعتمد "البنك المركزي اليمني" على بعض المصارف الخاصة ومؤسسات الصيرفة التي تمكّنت من الحفاظ على مستويات كافية من العملة المادية. ويُرجَّح أن هذه المؤسسات الخارجية حصلت على نقدها من تجّار يُحضرون إليها عملة محلية لدفع ثمن الواردات من الخارج. ومن المحتمل أن يتم تعويض هذه المعاملات الأجنبية في الخارج عن طريق تحويلات العملات الأجنبية من المغتربين اليمنيين. وبهذه الطريقة، يبدو أن بعض المؤسسات اليمنية قادرة على مواصلة المدفوعات العابرة للحدود من دون المرور بالمزيد من قنوات المقاصة التقليدية الخاصة بـ"البنك المركزي اليمني". ويمكن أن يشرح وجود هذا النظام المتوازي أيضاً كيفية عدم خروج أسعار السلع الأساسية كليّاً عن السيطرة.
ومع ذلك، لم يتقاضَ العديد من الموظفين الحكوميين أجورهم منذ أن قررت حكومة هادي التوقف عن تزويد الوزارات بمبالغ مالية كبيرة للتوزيع. ويسعى المسؤولون الآن إلى تصديق جداول الرواتب في كل وزارة ومقاطعة على أمل ضمان عدم دفع أي أموال للموظفين الذين تم تعيينهم بعد الانقلاب الحوثي، أو تم تحويلها إلى المتمردين خلافاً لذلك.
كما أن "البنك المركزي اليمني" ما فتئ يبذل جهوداً لإتمام واجبات أساسية أخرى منذ انتقاله إلى عدن. وتشمل هذه الأنشطة الرقابة على المؤسسات المالية ومكافحة غسل الأموال ووضع الضوابط المتعلقة بمكافحة تمويل الإرهاب - وهي واجبات مهمة خاصةً في بلدٍ سيطر فيه «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» بين حين وآخر على بعض الأراضي واستغل الفراغ الأمني الذي ولّدته الحرب الأهلية. وتنطوي مواصلة التدهور في القطاع المالي الرسمي على مخاطر دخول المزيد من المعاملات ضمن شبكات غير رسمية خارجة عن السيطرة التنظيمية لـ "البنك المركزي اليمني".
توصيات سياسية
سعى المسؤولون اليمنيون باستمرار إلى حصول "البنك المركزي اليمني" المنقول على الدعم الأمريكي والدولي، وذلك جزئياً لدعم ادعائهم الأوسع بأنهم قادرون على حكم البلاد وتحقيق الاستقرار الاقتصادي. ونظراً للظروف الاقتصادية والإنسانية التي بلغت حد الأزمة في البلاد، يجب أن تحث واشنطن حكومة هادي على الوفاء بوعودها ودفع الرواتب الحكومية في جميع أنحاء البلاد. لكنّ ما أعاق هذا الجهد إلى حد كبير هو نهجها البطيء لتصديق جدول الرواتب في كل وزارة، مقاطعةً تلو الأخرى، الأمر الذي قوّض مصداقية الحكومة. والأهم من ذلك أنه جعل الأسر عاجزة عن شراء الأغذية.
كما يجب على واشنطن أن تحث الحكومة اليمنية على معالجة مشاكل السيولة في جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك خارج مناطق سيطرتها. وقد يعني ذلك توفير السيولة للمناطق الحوثية مقابل ضمانات يمكن التحقق منها، بأن الأموال لن يتم تحويلها لأغراض عسكرية، وكذلك الاعتراف باستقلالية "البنك المركزي اليمني" في جميع أنحاء البلد. وبالمثل، يجب على الحكومة الأمريكية أن تضغط على اليمنيين للتأكد من أن مخصصات العملة الصعبة لشراء الأغذية والأدوية ستفسح المجال لوصول الواردات إلى كل من مينائي الحديدة وعدن.
وفي النهاية، لن تكون معالجة قدرة "البنك المركزي اليمني" سوى جزء من المسافة التي يجب اجتيازها من أجل التخفيف من المشاكل الإنسانية في اليمن. على الحكومة أيضاً تأمين المزيد من العملة الأجنبية وضمان خدمة الأموال لجميع احتياجات البلاد. ويمكن أن تأتي هذه الأموال من صادرات النفط المتجددة، أو من قرض/إيداع يدعمه التحالف السعودي، أو من المساعدة الإنسانية الدولية. وعلى الرغم من أن هذه القرارات الاقتصادية قد لا تحتل الصفحات الأولى من الصحف، إلا أنه من المرجح أن يكون لها تأثير هائل على أرض الواقع، حتى أنها قد تحدد إذا ما كان اليمن قادراً على تفادي المجاعة.
كاثرين باور هي زميلة "بلومنستين كاتس" في برنامج مكافحة الإرهاب في معهد واشنطن ومسؤولة سابق في وزارة الخزانة الأمريكية. إريك بيلوفسكي هو زميل زائر في المعهد، وقد شغل منصب مساعد خاص للرئيس الأمريكي والمدير الأقدم لشؤون شمال أفريقيا واليمن في "مجلس الأمن القومي".