- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 2699
المشاكل تلوح في أفق "إقليم كردستان العراق"
في 29 أيلول/سبتمبر، ترأس مسعود برزاني، رئيس "حكومة إقليم كردستان"، وفدًا إلى بغداد - في زيارة نادرة قد تساهم في تكثيف الجهود لتحرير الموصل والتخفيف من الأزمات الاقتصادية والسياسية التي يعانيها الإقليم. فالبرلمان الكردي لم يعقد أي اجتماع منذ نحو عام، كما أن الاقتصاد يواجه صعوبات بسبب سوء الإدارة وأسعار النفط المنخفضة وأزمة قائمة منذ فترة طويلة مع الحكومة المركزية في بغداد إضافةً إلى الحرب ضد تنظيم "الدولة الإسلامية". ونتيجةً لذلك، نزل أساتذة وموظفون حكوميون آخرون غاضبين إلى الشوارع احتجاجًا على عجز"حكومة إقليم كردستان" عن تسديد رواتبهم. وفي حال كانت الولايات المتحدة وشركاء آخرون يأملون دعم إحدى روايات الشرق الأوسط التي تَعدُ بنجاح أكبر، سيتعيّن عليهم إشراك أكراد العراق بشكل أكبر حتى في المسائل السياسية والاقتصادية. وتبدو الحاجة ملحّة لا سيما مع اقتراب الحملة لتحرير الموصل - حيث من المزمع أن تضطلع قوات "البشمركة" الكردية بدور أساسي في استعادة الموصل وسهل نينوى، هي قوات تضمّ نحو 160 ألف مقاتل يقومون بدوريات على طول الحدود مع الأراضي الخاضعة لسيطرة "الدولة الإسلامية" والممتدة على ألف ميل.
سياسة داخلية متصدّعة
شكّل العقد المنصرم فترةً واعدة لتعزيز السياسة الكردية القائمة على التعددية والتنافسية. وقد دعم هذه العملية تدفق البترودولارات إلى "حكومة إقليم كردستان". كما أن خطوط الأنابيب بدأت أساسًا بتصدير النفط الكردي عبر تركيا، وقد تتمكّن في نهاية المطاف من نقله عبر إيران أيضًا.
لكن في الوقت نفسه، كانت مجموعة من المشاكل الاقتصادية والسياسية تكبّل "حكومة إقليم كردستان". فمنذ العام 2014، طالب برزاني و"الحزب الديمقراطي الكردستاني" الذي يقوده ويتّخذ من أربيل مقرًا له بالاستقلال عن بغداد باعتباره العلاج الشافي لهذه المشاكل. وفي موازاة هذا المسعى لإجراء استفتاء على الاستقلال، يبرز احتمال أن تشهد "حكومة إقليم كردستان" انقسامًا حادًا بين إقطاعيْن متناحريْن ترأسهما عائلتا برزاني وطالباني. وفي الوقت الراهن، أبقى الحزبان المنافسان لـ"الحزب الديمقراطي الكردستاني" - "الاتحاد الوطني الكردستاني" و"حركة التغيير" (كوران) ومقرهما في السليمانية - خطابهما حول الانفصال عن بغداد هادئًا، لكنهما واصلا اتهام برزاني بالانحياز الحزبي وفي المقابل عكّرا صفو الأجواء في الحكومة.
وتقوّض هذه الانقسامات السياسية وغيرها تطلّعات "حكومة إقليم كردستان" سواء للتمتّع بحكم ذاتي أكبر أو بالاستقلال التام. لكن تراجع مستوى الديمقراطية والحوكمة الضعيفة لا يزالان يطرحان مشكلة - فشبكتا المحسوبية في "الحزب الديمقراطي الكردستاني" و"الاتحاد الوطني الكردستاني" تميلان إلى السطوة أكثر منها إلى سيادة القانون، كما أن الولاءات لقوات "البشمركة" غالبًا ما تنقسم بحسب الخطوط الحزبية. وفي غضون ذلك، أقفل البرلمان أبوابه منذ تشرين الأول/أكتوبر 2015 بسبب خلاف حول ولاية برزاني الرئاسية (فعندما انتهت ولايته الثانية العام الفائت، برز خلاف حول ما إذا كان يجب التمديد له أو استبداله عبر إجراء انتخابات). كذلك، يتسبّب هذا الخلاف بتدخّل تركيا وإيران، ما يجعل الشرخ بين الأكراد أكبر.
الأزمات الاقتصادية
يُعتبر واقع الموازنة المحرّك الرئيسي خلف هذا الصراع السياسي. فمع انهيار أسعار النفط، باتت الأحزاب الكردية تتصارع على القضمة الأخيرة من فطيرة آخذة في التقلص. وفي الوقت نفسه، ترزح تحت وطأة الضغوط بسبب استياء شعبي إزاء إخفاقها التام خلال السنوات التي كانت فيها إيرادات النفط مرتفعة، عندما كان يجدر بالحكومة أن تعمل على تسهيل تطوير اقتصاد قائم على القطاع الخاص وغير نفطي ومؤسسات فاعلة على السواء. والآن مضت أشهر على تخلّف "حكومة إقليم كردستان" عن تسديد رواتب الموظفين الحكوميين، ما يؤدّي إلى تظاهرات وإضرابات غاضبة.
كما تطرح الأزمة المالية خطرًا على قطاع النفط والغاز. ونظرًا إلى أن "حكومة إقليم كردستان" غالبًا ما تأخّرت أو تخلّفت عن تسديد المدفوعات المستحقة إلى شركات النفط الدولية العاملة في أراضيها، هدّدت بعض الشركات بتعليق عملياتها أو مغادرة الإقليم بشكل كامل.
وعلى نطاق أوسع، لا يساهم وضع "حكومة إقليم كردستان" داخل العراق في منحها ميزات كثيرة على الصعيد الاقتصادي، على غرار السياسة النقدية أو الحصول على ائتمانات، لذا فهي مرغمة على تسديد ديون متراكمة تصل قيمتها إلى 20 مليار دولار - وهو مبلغ يوازي تقريبًا إجمالي ناتجها المحلي السنوي. وقد شبّه نائب رئيس الوزراء في "حكومة إقليم كردستان" قباد طالباني مرارًا هذا الوضع المالي السيئ بـ"التسونامي".
العلاقات مع بغداد
في العام 2014، قرّر رئيس الوزراء آنذاك نوري المالكي خفض حصة "حكومة إقليم كردستان" البالغة 17 في المائة من الموازنة الاتحادية (12 مليار دولار خلال 2014) بعدما عجز الأكراد عن تسليم إيراداتهم النفطية. وتسبّبت هذه الخطوة، إلى جانب المطالب الاقتصادية جراء اجتياح "الدولة الإسلامية" وأزمة اللاجئين الناتجة عنه، بإضعاف اقتصاد "حكومة إقليم كردستان" وأوصلت علاقات الأكراد مع بغداد إلى حائط مسدود.
ومنذ ذلك الحين لم تهدأ التوترات ولم يتوقّف تبادل الاتهامات. وفي 21 أيلول/سبتمبر، سحب البرلمان الاتحادي في بغداد الثقة من وزير المالية هوشيار زيباري، وهو مسؤول كردي رفيع المستوى كما أنه خال برزاني. وقد حمّل زيباري مسؤولية هذه الخطوة للمالكي الذي حافظ على نفوذه السياسي رغم استقالته قبل عاميْن. وكانت الحادثة لتقوّض العلاقات بين أربيل وبغداد بشكل أكبر، لكن بدا أن برزاني نزع فتيل التوترات من خلال زيارته العاصمة بعد أسبوع، في أول جولة مماثلة يجريها منذ ثلاث سنوات. واستنادًا إلى حسابات برزاني، قد يساهم دعم حكومة رئيس الوزراء حيدر العبادي في الحؤول دون عودة المالكي إلى الحكم.
وفي السابق، تميّز السياسيون الأكراد بإظهار الوحدة بشكلٍ مستمر في بغداد بغض النظر عن خلافاتهم في الداخل. بيد أن هذه لم تعد هي الحال. وبخلاف "الحزب الديمقراطي الكردستاني"، صوّت النواب الأكراد من حزب "الاتحاد الوطني الكردستاني" و"حركة التغيير" لصالح الإطاحة بزيباري إثر تهم بالفساد وسوء الإدارة. ويبدو أن للمالكي دورًا في هذه الديناميكية من خلال التودّد إلى هذيْن الحزبيْن في السليمانية، ما دفع ببرزاني إلى التخفيف من حدّة ردّ فعله إزاء سحب الثقة من خاله خوفًا من تعزيز مناورات المالكي ضدّ العبادي. يُذكر أنه حين زار المالكي "حكومة إقليم كردستان" في تموز/يوليو، توقّف في السليمانية وليس في أربيل. وهذا الأسبوع، ردّ برزاني الصاع صاعيْن حيث التقى العديد من القادة العراقيين في بغداد وعكف عن رؤية المالكي - وليست هذه الخطوة مفاجئة نظرًا إلى أن ابن شقيق المالكي، وهو عضو في البرلمان، دعا إلى اعتقال برزاني ما إن يحطّ في بغداد.
وبالنسبة لكلّ من "حركة التغيير" و"الاتحاد الوطني الكردستاني"، يبدو أنهما على قناعة بأنهما خسرا أي فرصة لفرض كامل سيطرتهما على أربيل، لذا عاودا التركيز على تعزيز موقفهما في السليمانية وحمّلا مسؤولية كافة الأزمات التي تعانيها "حكومة إقليم كردستان" إلى "الحزب الديمقراطي الكردستاني". وفي حال لم يُصر إلى حلّ هذه المسألة وواصلت هذه الثغرات اتساعها، قد تستقلّ السليمانية على نحو متزايد عن أربيل.
كما اتسعت رقعة المشاكل السياسية في الإقليم لتطال السياسة العراقية وبشكل أكبر سياسة المنطقة. ولطالما سعت إيران وتركيا إلى ملء الفراغ السياسي الذي تركه انسحاب أمريكا من العراق، وبخاصةٍ منذ تصاعد وتيرة الحرب الأهلية في سوريا. وبفضل اتفاق خط أنابيب مع تركيا، من جملة أمور أخرى، هيمن "الحزب الديمقراطي الكردستاني" على السياسة الكردية لبعض الوقت ويميل إلى إظهار لُحمة داخلية أكبر من منافسيه. في المقابل، فإن حزب "الاتحاد الوطني الكردستاني" منقسم داخليًا ويتنافس مع "حركة التغيير" للسيطرة على السليمانية، علمًا بأن إيران تحثّ الطرفيْن بشكل مستمر على الوحدة بغية محافظتها على ميزان القوة مع تركيا.
الفرص المستقبلية
يمكن أن يصبح الأكراد أصحاب القرارات من جديد في العراق، وهو دور كان منحهم ميزةً ومكانةً كبيرتيْن في مراحل مختلفة منذ العام 2003. واليوم، يتمتّع برزاني مجددًا بميزة مهمة على بغداد، بما في ذلك مشاركة قوات "البشمركة" في تحرير الموصل واستخدام شبكات خطوط أنابيب "حكومة إقليم كردستان" لتصدير نفط كركوك والاستعداد لاستقبال المزيد من اللاجئين. بيد أنه من أجل استخدام هذه الميزات بشكل فعال، على برزاني تمثيل كافة الأحزاب الكردية. وبالتالي، لا يؤدّي الخلاف الداخلي سوى إلى الحؤول دون استفادة الأكراد من الدعم الدولي غير المسبوق الذي يحظون به. وسيكون من الأسهل بكثير تحقيق الوحدة إذا طمأن برزاني منافسيه بأنه لن يكون رئيسًا لمدى الحياة.
وبغض النظر عمّا ستكون عليه الحال، ستواصل "حكومة إقليم كردستان" الضغط على بغداد في مسائل عدة، منها حمايتها من الميليشيات الشيعية بعد دحر تنظيم "الدولة الإسلامية" إضافةً إلى حصولها على حصة عادلة من قرض "صندوق النقد الدولي" والعائدات النفطية. ويصبّ المضي قدمًا في تنفيذ متطلبات الإصلاح المشترطة للحصول على قرض الصندوق في مصلحة الطرفيْن - وتشمل هذه المتطلبات تعزيز المالية العامة ودعم القطاع الخاص والمساءلة.
وبالفعل، يتطلّب حلّ هذه المشاكل وتخطيها إقرارًا بأن سوء إدارة الحكومة يشكّل خطرًا أكبر على المدى الطويل بالنسبة "لحكومة إقليم كردستان" مما يفعله تنظيم "الدولة الإسلامية". فالحوكمة القوية والاقتصاد المتين يشكّلان المؤشرات الاستباقية الفعلية على قيام دولة وليس الاندفاع الثوري. وفي غضون ذلك، من شأن إطلاق جولة جديدة من المفاوضات مع بغداد وإحكام السيطرة في الوقت نفسه أن يساعدا الاقتصاد الكردي. وقد تساهم الفيدرالية النفطية في توفير المزيد من الشفافية لقطاع النفط في "حكومة إقليم كردستان"، وهو مطلب شعبي لم تتمّ تلبيته بعد.
تجدر الملاحظة أن تدخّل الولايات المتحدة قد يكون له دور كبير في تسهيل مثل هذه المساعي والحؤول دون تدهور الوضع السياسي بشكل أكبر في "حكومة إقليم كردستان". فعلى سبيل المثال، تمكّنت واشنطن، من خلال توجيه دعم أمريكي عسكري إلى وحدات "البشمركة" الخاضعة لسيطرة الحكومة الرسمية بدلًا من أولئك الذين يُظهرون ولاءهم إلى الأحزاب السياسية الفردية، من توفير محفّز يرمي إلى تقوية الحكومة مقارنةً "بالحزب الديمقراطي الكردستاني" و"الاتحاد الوطني الكردستاني" وغيرهما من الأحزاب.
يُذكر في الختام أن الأكراد يكنّون الاحترام للولايات المتحدة ويدركون أنها لعبت دورًا مهمًا في نيلهم حريتهم، لذا من شأن موقف أمريكي واضح وناشط أن يؤثّر على سياستهم. فبإمكان ضغط أمريكي شفوي على سبيل المثال لإعادة تفعيل دور برلمان "حكومة إقليم كردستان" أن يُحدث فرقًا. بيد أنه في غياب أي تدخّل حازم من جانب الولايات المتحدة، قد يتزايد الانقسام الذي تشهده السياسة الكردية، الأمر الذي قد ينعكس سلبًا على استقرار العراق أو المنطقة الأشمل.
بلال وهاب، هو زميل "سوريف" في معهد واشنطن.