- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
العنف بين إسرائيل وغزة يعني أن على بايدن تجنب تشجيع «حماس» في أي اتفاق لوقف إطلاق النار
Also published in "إن بي سي نيوز"
بعد التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، سيزداد الإلحاح على الإدارة الأمريكية للعمل على تحسين حياة الفلسطينيين على الأرض لأنه قد يساعد على تغيير السردية المتداولة بشأن الموضوع. وفي خضم اليأس الحالي، يجب على العالم، تحت قيادة الولايات المتحدة، أن يثبت للفلسطينيين أن النهج التعاوني السلمي يمكن أن يكون بديلاً قابلاً للتطبيق لأساليب «حماس» العنيفة.
عندما تولّى الرئيس جو بايدن منصبه في كانون الثاني/يناير، وضع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي المتأجج في أسفل سلم أولوياته، فإذا به ينفجر بحلول أيار/مايو. وصحيحٌ أن الأسباب التي دفعت بايدن إلى صرف الأضواء عن تلك القضية كانت منطقية، إلا أن الأحداث على الأرض تطورت بوتيرة أسرع مما توقعته الحسابات الأمريكية - وهذا ما يحدث في غالب الأحيان في الشرق الأوسط - وهكذا وجدت إدارة بايدن نفسها مؤخراً أمام دعوات متزايدة للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بعد تصاعد القتال في غزة.
قال بايدن إنه أيّد وقف إطلاق النار لكنه لم يدعُ إليه صراحةً إلّا قبل أيام من وقف العمليات الحربية بين إسرائيل و«حماس». ومع ذلك، أعتُبِر وقف إطلاق النار مسألةً ملحة نظراً لحجم الكارثة الإنسانية التي توالت فصولها والخسائر في الأرواح من كلا الجانبين. إن الولايات المتحدة هي الطرف الدولي الوحيد الذي كان قادراً على التوسط في اتفاق لوقف إطلاق النار بحكم علاقتها الوثيقة مع إسرائيل وقدرتها الفريدة على حشد دعم الحلفاء العرب في المنطقة لإجبار حركة «حماس» الإسلامية، التي تسيطر على قطاع غزة، على القبول بوقف إطلاق النار.
لكن الأمر لم يكن بسيطاً كوقف إراقة الدماء التي بدأت حين أخذت «حماس» تطلق الصواريخ على القدس في الأسبوع الماضي: على بايدن أن يحرص على ألا تسمح شروط وقف إطلاق النار بأن تدّعي «حماس» بالنصر. فهذه الحصيلة ستزيد من جرأة «حماس» وتقوّي هذه المنظمة الإرهابية إلى حدٍّ كبير في صراعها الداخلي مع "السلطة الفلسطينية" العلمانية المسؤولة عن الضفة الغربية.
وفي الواقع أن هذا الصراع الداخلي على السلطة هو أحد الخلفيات لهذه الموجة الأخيرة من الأعمال العدائية. فالتزام "السلطة الفلسطينية" بالمسار الدبلوماسي وتعاونها الأمني مع إسرائيل لا يحظيان بشعبية لأنهما فشلا في تحقيق فوائد ملموسة للفلسطينيين في السنوات الأخيرة. وتصاعدت التوترات بعد أن ألغى رئيس "السلطة الفلسطينية" محمود عباس الشهر الماضي الانتخابات الفلسطينية الأولى منذ عام 2006.
في هذا السياق، سعت «حماس» إلى استغلال استياء الجمهور الفلسطيني عبر إظهار نفسها بصورة المدافع عن الحقوق والمصالح الفلسطينية. وبعد انتهاء هذه الجولة من القتال، سوف ترغب «حماس» في المجاهرة بأن "مقاومتها" استطاعت إرغام إسرائيل على تغيير سياساتها. وبالفعل، يدّعي الناطقون باسمها منذ الآن أنهم أوجدوا قوة ردع ضد إسرائيل، ويشيرون إلى العنف الطائفي بين العرب واليهود الذي انتشر في جميع أنحاء إسرائيل للادعاء بأن خصمها في حالة تراجع.
وبالتالي، كان على وقف إطلاق النار أن يركز على إنهاء الأعمال العدائية فقط وليس على رسم مسار دبلوماسي ما بعد الصراع. إن القضايا مثل توفير المساعدات الدولية لإعادة إعمار غزة ومعالجة السياسات التي أدت إلى احتدام التوترات التي سبقت هجمات «حماس» الصاروخية والضربات الإسرائيلية سوف يكون من الضروري مناقشتها قريباً - ولكن ليس في سياق وقف إطلاق النار.
وقد وفّر إعطاء مصر دور الوساطة أفضل فرصة للنجاح. فموقع مصر على حدود غزة منحها نفوذاً هائلاً تجاه «حماس»، بينما التزمت أيضاً بحرمان الحركة من تحقيق نصر سياسي، لأن "حماس" جزء من جماعة "الإخوان المسلمين" التي تعتبرها مصر تهديداً وجودياً لاستقرارها.
ومع ذلك، فإن الأمر الذي لا يقل أهمية عن نجاح بايدن في تحقيق وقف إطلاق النار هو ألا يغير خطته بعد انتهاء القتال. فلا بد أن يكون هناك دافع "لبذل أقصى الجهود" ومحاولة استئناف المفاوضات، لا سيما وأن بعض الأصوات بدأت تحث الرئيس الأمريكي على اتخاذ خطوات أكثر جرأة. وهذا أمر مفهوم لأنه لا يمكن حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في النهاية إلا من خلال حل الدولتين عن طريق التفاوض. وإلى أن يتم التوصل إلى مثل هذا الحل، سيظل الوضع متقلباً مع اندلاع اشتباكات مأساوية عرضية. لكن هذه الحصيلة ليست واقعية اليوم، وأي محاولة لتحقيقها قبل أوانها لن تخدم الفلسطينيين أو الإسرائيليين أو، في الواقع، حتى الولايات المتحدة.
ويكاد يكون من المؤكد أن الغوص بثقة تامة في مساعٍ دبلوماسية رفيعة قد يؤدي إلى فشلها وإلى جعل الوضع على الأرض - ومكانة بايدن في الشرق الأوسط - أسوأ إلى حد كبير. ولن تؤدي جولة أخرى غير مثمرة من المفاوضات إلّا إلى زيادة فقدان الثقة بفائدة الدبلوماسية كوسيلة لإنهاء الصراع، وزيادة الشعور باليأس بين الفلسطينيين والإسرائيليين وتأجيج التقلبات. ولا تحتاج الولايات المتحدة إلى انهيار آخر في الشرق الأوسط يجعلها تبدو غير كفؤة ويشتت الانتباه عن أولويات السياسة الخارجية الأخرى.
ولعل العقود الطويلة التي أمضاها بايدن في "لجنة العلاقات الخارجية" التابعة لمجلس الشيوخ الأمريكي، والسنوات الثماني التي شغل خلالها منصب نائب الرئيس [أوباما]، قد علّمت بايدن شيئاً فاختار بحكمة مساراً مختلفاً عن كل رئيس سبقه منذ جورج دبليو بوش. فبدلاً من السعي إلى تحقيق سلام فلسطيني-إسرائيلي شامل، قد يتجنب بايدن المبادرات الضخمة وعالية المستوى لصالح أهداف أصغر ولكنها واقعية [تتطلب] من كبار المسؤولين الأمريكيين الحد الأدنى من الانخراط.
لقد خلص فريق بايدن بشكل صحيح إلى أن هذا الصراع، وإن كان لا يزال مهماً، أصبح الآن أقل أولوية بالنسبة للمنطقة والمصالح الأمريكية. ففي حين كانت غالبية الدول العربية تعتبر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي القضية المحورية في المنطقة، أصبحت اليوم ترى أن التصدي لطموحات إيران النووية وأنشطتها الخبيثة في المنطقة، والتعامل مع الصراعات الدائرة في سوريا واليمن (لذكر سوى القليل من مشاكل المنطقة)، هي أمور أكثر إلحاحاً. وتقف "اتفاقيات أبراهيم" لتطبيع العلاقات بين إسرائيل وأربع دول عربية التي تم إبرامها العام الماضي شهادة على تراجع أهمية هذه القضية.
كما خلصت إدارة بايدن، بشكل صحيح مرة أخرى، إلى أن السياسة الإسرائيلية والفلسطينية لا يناسبها هذا النوع من التسويات التي تُعتبر لازمة لحل القضايا الحساسة وذات الطابع التأسيسي للغاية. لقد أجرت إسرائيل للتو جولتها الرابعة من انتخابات غير حاسمة في غضون عامين، مع احتمال إجراء جولة خامسة في الأفق. وفي غضون ذلك، فإن إلغاء أي انتخابات على الإطلاق عند الجانب الفلسطيني يشهد على عمق الجمود السياسي الفلسطيني.
لذلك اختار بايدن نهجاً أكثر تواضعاً بل قابل للتحقيق، وهو التعافي من سنوات ترامب الفوضوية التي تخلّى فيها عن المواقف الدبلوماسية الأمريكية والدولية القائمة منذ مدة طويلة، والتي أدت إلى قطع جميع العلاقات مع "السلطة الفلسطينية". فقد أعاد بايدن إقامة تلك العلاقات، وأعاد المساعدات، وحدّد مجالات ملموسة كفيلة بتحسين حياة الفلسطينيين والإسرائيليين كالتقدم في قطاعات الاقتصاد والبنية التحتية والأمن.
ولكن بعد التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، سيزداد الإلحاح لتكثيف العمل على الاندفاع الأولي للإدارة الأمريكية - العمل على تحسين حياة الفلسطينيين على الأرض - لأنه ليس الشيء الصحيح الذي يجب فعله فحسب، بل قد يساعد أيضاً على تغيير السردية [المتداولة بشأن الموضوع]. على الولايات المتحدة أيضاً التواصل مع إسرائيل بشأن تغيير بعض الممارسات التي ساهمت في زيادة التوترات قبل بداية الأعمال العدائية هذا الشهر، لا سيما في القدس. وسيكون من الضروري هنا إيجاد طريقة لوقف إخراج العائلات الفلسطينية من حي "الشيخ جراح" في القدس الشرقية وتعزيز الدور الأردني في جبل الهيكل/الحرم الشريف - موقع المسجد الأقصى - من أجل منع التصعيد في المستقبل.
إن حل مثل هذه القضايا من خلال الوسائل الدبلوماسية وبالشراكة مع "السلطة الفلسطينية" والأردن ومصر، يمكن أن يعطي مصداقية للدبلوماسية وللجهات الفاعلة البنّاءة. ومن شأن الحصول على دعم دول "اتفاقيات أبراهيم" أن يضفي ثقلاً إضافياً على هذه الجهود، مما يمنح "السلطة الفلسطينية" غطاءً دبلوماسياً إضافياً ويساعد في تمويل التنمية الاقتصادية للفلسطينيين.
وحتى لو بقي السلام الشامل بعيد المنال في الوقت الحالي، يجب ألا تكون الدبلوماسية من بين ضحايا الانفجار المأساوي الأخير. ففي خضم اليأس الحالي، يجب على العالم، تحت قيادة الولايات المتحدة، أن يثبت للفلسطينيين أن النهج التعاوني السلمي يمكن أن يكون بديلاً قابلاً للتطبيق لأساليب «حماس» العنيفة.
غيث العمري هو زميل أقدم في معهد واشنطن ومستشار سابق لفريق التفاوض الفلسطيني. وتم نشر هذه المقالة في الأصل على موقع "إن بي سي نيوز".