- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 2743
النهج المتأني لتنظيم «القاعدة» في سوريا قد يؤتي ثماره
نظراً إلى إستراتيجية العلاقات العامة التي يعتمدها تنظيم «الدولة الإسلامية» والقائمة على تصدّر العناوين الرئيسية بأكثر الطرق إثارة للصدمة، يتركّز اهتمام العالم لأسباب مفهومة على حظوظ التنظيم المتهاوية في المنطقة وتنامي ميله نحو شنّ هجمات في الخارج من خلال تنفيذه هجمات إرهابية تؤدي إلى وقوع خسائر وإصابات جماعية. لكن على الرغم من كل وحشيته التي حظيت بتغطية إعلامية كبيرة، قد لا يكون التنظيم الطرف الفاعل الأكثر خطورة بالنسبة لسوريا على المدى الطويل. ويُعزى هذا التمييز على الأرجح إلى «جبهة فتح الشام»، التابعة لتنظيم «القاعدة» التي تحاول تأسيس وجود دائم لها في البلاد عبر دمج نفسها في المشهد المحلي والسعي إلى (أو فرض) الاندماج مع جماعات المعارضة المختلفة، بما في ذلك من خلال المحادثات التي جُددت مؤخراً مع حركة التمرد الرئيسية «أحرار الشام».
أفعى تحت التبن
عندما أعلن تنظيم «الدولة الإسلامية» خلافته في العراق وسوريا، فرض حكمه على السكان المحليين بالقوة المحضة. وكانت هذه الاستراتيجية التي تمثلت بترويع المدنيين لإخضاعهم للتنظيم، الأسلوب المفضل للجماعة في وقت مبكر من منتصف العقد الأول من القرن الحالي، عندما كانت بقيادة أبو مصعب الزرقاوي وتُعرف باسم تنظيم «القاعدة في العراق». ومع ذلك، فمنذ انتفاضات "الربيع العربي" عام 2011، سعت القيادة الرئيسية لتنظيم «القاعدة» إلى تجنّب تنفير السكان المحليين من أجل تسهيل [قيام] نموذج مستدام وطويل الأمد من الحكم الإسلامي، ونصحت الفروع التابعة لها بالتصرف وفقاً لذلك. وقد تسبّب هذا الأمر بحدوث خلافات شديدة بين تنظيم «القاعدة» والأشكال السابقة لتنظيم «الدولة الإسلامية»، بلغت ذروتها في انفصالهما رسمياً عام 2014.
واليوم، قد تكون هناك فرصة أمام تنظيم «القاعدة» لإثبات تفوّق نهجه الشعبي. وعلى الرغم من أن فرعه السوري قد غيّر إسمه من «جبهة النصرة» إلى «جبهة فتح الشام» وتبرّأ من العلاقات مع "أي كيان خارجي" في تموز/يوليو الماضي، إلا أنه لم ينشق صراحة عن تنظيم «القاعدة»، وأن معظم المحللين يعتقدون أن إعادة التصنيف ما هي الا تغييرات شكلية. وفيما يتعلق بجميع نوايا «جبهة فتح الشام» وأهدافها، لا تزال هي الفرع السوري لتنظيم «القاعدة» وتحتفظ باستراتيجية التنظيم وفلسفته.
ويتمثّل أحد الجوانب الرئيسية في جهود «جبهة فتح الشام» على صعيد التموضع بإقامة علاقات مع فصائل سورية متمردة. فعندما اندلعت الحرب، سعى زعيم تنظيم «القاعدة» أيمن الظواهري في البداية إلى إخفاء روابط منظمته بـ «جبهة النصرة»، مما سمح لها ببناء مكانتها وقدراتها في صفوف المعارضة السورية. واليوم، لا تزال غالبية قيادة «جبهة النصرة»/«جبهة فتح الشام» أجنبية، لكن الجماعة حرصت على وضع تجنيد سوريين في سلّم أولوياتها. وكما ورد في تقرير "معهد بروكينغز" في تموز/يوليو 2016، سمح لها ذلك بأن تظهر كجماعة سورية محلية متمردة، مما سهّل لها التعاون مع فصائل أخرى، وعزّز درجة قبولها بين الناس. على سبيل المثال، عندما أطلقت الولايات المتحدة حملتها الجوية في سوريا في أيلول/سبتمبر 2014، أثار استهداف قاعدة تابعة لـ «جبهة النصرة» استياء المتمردين الآخرين الذين اعتبروا الجماعة شريكاً قيّماً ضد بشار الأسد. وعلى نحو مماثل، قاموا بدعم الجماعة عندما صنّفتها واشنطن منظمة إرهابية في كانون الأول/ ديسمبر 2012.
ولا تُعتبر «جبهة فتح الشام» أول فرع تابع لتنظيم «القاعدة» يحاول تطبيق هذه الاستراتيجية من الاندماج المحلي، لكنها كانت الأكثر نجاحاً حتى الآن. فالجماعة جزء من التحالف الإسلامي الرئيسي «جيش الفتح» وكانت مشاركاً أساسياً في العديد من العمليات التي نفّذها المتردون. لكن في نهاية المطاف، ليست هذه التحالفات سوى وسيلة لتحقيق الهدف الطويل الأمد المتمثل بتأسيس خلافة، وهو هدف تعتزم «جبهة فتح الشام» والمنظمة الأم تنظيم «القاعدة» تحقيقه بصبر وتريث أكبر مما فعله تنظيم «الدولة الإسلامية». وبالتالي لن تتورّع «جبهة فتح الشام» عن تفكيك الجماعات المتمردة متى سنحت لها الفرصة. وقد تعرّضت بعض الفصائل لهجمات بعدما ساءت [علاقات] التحالف السابق؛ في حين شهدت فصائل أخرى انشقاقات جماعية، في حين اندمج عدد قليل طوعاً مع «جبهة فتح الشام». وتعود هذه الضراوة إلى منتصف عام 2013 على الأقل، وهي تبعث على القلق بشكل خاص حالياً بينما يقبع المتمردون تحت وقع صدمة خسارة حلب التي تعدّ إحدى أسوأ الضربات التي تلقوها خلال الحرب حتى الآن.
عمليات الإندماج والاستحواذ
في أيار/مايو 2013، حذّرت صحيفة "ذي غارديان" من أن «جبهة النصرة» تستنزف مقاتلين ووحدات بأكملها من «الجيش السوري الحر»، الذي كان تحالف المتمردين الرئيسي في ذلك الحين. فالعديد من الذين انضمّوا إلى «الجيش السوري الحر» في عام 2011 كانوا من المنشقين عن الجيش السوري الذين جذبتهم إيديولوجية التحالف. لكن آخرين انضموا لسبب بسيط وهو أن «الجيش السوري الحر» منحهم وسيلة لمحاربة النظام، لذا لم يكن ولاؤهم مؤكداً قط. وبفضل علاقات «جبهة النصرة» بشبكات التمويل والخدمات اللوجستية الخاصة بتنظيم «القاعدة»، تمتعت الجماعة بموارد موثوقة من الأسلحة والمال، فما لبثت أن أصبحت بديلاً جذاباً لـ «الجيش السوري الحر» الذي كانت فصائله تحظى بدعم غير متواصل من الخارج في أحسن الأحوال. وبحلول عام 2013، أعرب قادة «الجيش السوري الحر» عن امتعاضهم وحزنهم إزاء خسارة آلاف المقاتلين في غضون أشهر قليلة، حيث أشارت إحدى التقديرات إلى أن الخسارة بلغت ربع إجمالي القوة البشرية المتوفرة للتحالف آنذاك. وعلى الرغم من أن «الجيش السوري الحر» صمد وبقي طرفاً فاعلاً هاماً، غالباً ما تضطر وحداته التي تقاتل على الخطوط الأمامية إلى التعاون مع «جبهة فتح الشام»، التي لا تزال تتمتع بموارد أفضل بكثير.
أما جماعات جهادية أخرى، فقد خضعت بالكامل إلى «جبهة النصرة»/ «جبهة فتح الشام». ففي أيلول/سبتمبر 2015، أعلنت جماعة «جيش المهاجرين والأنصار» علناً مبايعتها لـ «الجبهة»؛ وفي الشهر نفسه، ورد في مقال صدر عن "نشرة الحرب الطويلة" (Long War Journal ) كيف كان هذا اللواء حليفاً مقرباً ودائماً لـ «جبهة النصرة»، مشيراً إلى أنه بدا أن زعيمها معروف جيداً في دوائر تنظيم «القاعدة». وفي الوقت نفسه تقريباً، أعلنت جماعة أوزبكية وأخرى تترية عن ولائهما. وخلال تشرين الأول/أكتوبر 2016، أقدم «جند الأقصى» - وهو فصيل كان قد سبق للمحلل توماس جوسيلين أن وصفه بأنه "الواجهة الأمامية لتنظيم «القاعدة»" - على مبايعة «جبهة النصرة»/ «جبهة فتح الشام». وتماشياً مع الهدف المتمثل بتقليص الاحتكاك مع جماعات أخرى، كان الإندماج الأخير في جزء منه محاولة من «جبهة فتح الشام» لاسترضاء الفصيل الرئيسي «أحرار الشام» الذي اتَهم «جند الأقصى» بالتعاطف مع تنظيم «الدولة الإسلامية». لكن في الوقت الذي قد يكتنف فيه الغموض والالتباس ولاء بعض المقاتلين ذوي الرتب الدنيا، دعمت قيادة «جند الأقصى» بشكل حازم تنظيم «القاعدة»، وساهم الإندماج في تعزيز هذا الانطباع.
وفي المقابل، وجدت جماعات أخرى نفسها فجأة هدفاً لـ «جبهة النصرة» على الرغم من التعاون السابق بينها. ففي أيلول/سبتمبر 2014، أخبر أحد أفراد «حركة حزم»، وهي جماعة متمردة قومية تابعة لـ «الجيش السوري الحر»، "لوس أنجلوس تايمز" على أن منظمته حاربت إلى جانب «جبهة النصرة»، قائلاً، "نحن نحب «النصرة»". غير أنه بعد أسابيع قليلة، بدأت «جبهة النصرة» تهاجم قواعد «حركة حزم»، ويرجع ذلك أساساً لأن «الحركة» كانت تتلقى التدريب والتمويل والأسلحة من الولايات المتحدة، بما في ذلك صواريخ "تاو" المضادة للدبابات. وفي كانون الثاني/يناير 2015، اتهمت «جبهة النصرة» «حركة حزم» بقتل المدنيين وتعذيب السجناء. وفي غضون شهريْن، أفادت صحيفة "ديلي بيست" وغيرها من الوسائل الإعلامية أن «جبهة النصرة» أقدمت على حلّ «حركة حزم» واستحوذت على بعض المعدات التي زودتها بها الولايات المتحدة، في حين توزّع من بقي من المقاتلين على قيد الحياة على جماعات إسلامية أخرى.
وعلى نحو مماثل، عملت «جبهة ثوار سوريا»عن قرب مع «جبهة النصرة» في أواخر أيلول/سبتمبر 2014، حيث أقرّ القائد جمال معروف أنهما تبادلا الأسلحة. وكما كان عليه الحال مع «حركة حزم»، استفادت «جبهة ثوار سوريا» من المساعدة الأمريكية (ولو عبر إمدادات إنسانية أكثر منها عسكرية). وفي تشرين الأول/أكتوبر من العام نفسه، اتهمت «جبهة النصرة» فجأة الجماعة باستهداف المدنيين، ومن ثم شنّت هجوماً استهدفت فيه الأراضي الخاضعة لسيطرة «جبهة ثوار سوريا» في محافظة إدلب الشمالية الغربية. وكما أفادت صحيفة "واشنطن بوست" في ذلك الوقت، هرب القائد معروف الذي لا يحظى بشعبية إلى تركيا في غضون أيام، وانشق نصف قواته وانضموا إلى «جبهة النصرة».
ومنذ ذلك الحين واصلت «جبهة فتح الشام» سعيها لإقامة روابط وطيدة مع جماعات نافذة من المتمردين. وفي أيلول/سبتمبر، أفاد موقع "ناو ليبانون" (NOW Lebanon) الإخباري أن الجماعة جدّدت مساعيها للاندماج مع الفصيل القوي «أحرار الشام»، حيث تابعت محادثات سابقة نحو تحقيق هذا الهدف كانت قد جرت في مطلع 2016. وكان مسعى الاندماج الأول قد فشل عموماً بسبب معارضة العديد من المتمردين إقامة روابط علنية ومفتوحة مع تنظيم «القاعدة»؛ وكان هذا الفشل محفزاً إضافياً حث «جبهة النصرة» على تغيير اسمها بعد بضعة أشهر. وعلى الرغم من أن المحادثات الأخيرة قد فشلت أيضاً، فإن التماسك الداخلي لـ «أحرار الشام» على المحك بسبب الانقسامات بين الأعضاء الذي يفضلون علاقات أوثق مع «جبهة فتح الشام» وأولئك الذين يفضلون المزيد من التباعد عنها.
الخاتمة
يشير سلوك «جبهة فتح الشام» وبياناتها العلنية خلال السنوات القليلة الماضية إلى أن تنظيم «القاعدة» كان يعطي الأولوية إلى الوحدة الجهادية في سوريا مع الحرص في الوقت نفسه على أن تتم هذه الوحدة تحت راية التنظيم الخاصة، علماً بأن تغيير الاسم على تلك الراية لم يغيّر نهج المنظمة. وفي حين يبقى تركيز المتمردين السوريين منصبّاً على الإطاحة بالأسد، يدلّ صبر تنظيم «القاعدة» المؤسسي على أن «جبهة فتح الشام» سترضى على الأرجح باستمرار وجودها والسماح لها باستمرار هذا الوجود لفترة طالما بقيت محافظة على سيطرتها على أراضيها، الكائنة بشكل رئيسي في محافظة إدلب. وقد يكون الوضع الراهن في سوريا مواتياً لمثل هذا الترتيب؛ والآن وقد سقطت حلب، قد تكون إدلب الخطوة التالية للنظام، لكن قدرته وجدوله الزمني لاستعادة المحافظة غير محددين بعد.
وما لم يحدث تغييراً ملحوظاً في مصير«جبهة فتح الشام»، تبدو آفاقها بإقامة قاعدة سورية على المدى الطويل إيجابية. وعلى الرغم من أن الجماعة سعت لفترة وجيزة إلى التوسّع وشنّ هجمات إرهابية في الخارج، إلا أن الضربات الجوية الأمريكية قضت على هذه الفكرة، حيث طلب الظواهري صراحةً من قادة «جبهة فتح الشام» إبقاء تركيزهم منصباً على المستوى المحلي. غير أن هذا التركيز قد يتحوّل سريعاً ومجدداً إلى الإرهاب الدولي في المستقبل. وحتى في غياب أي تخطيط ناشط من داخل سوريا على المدى القريب، سيستفيد تنظيم «القاعدة» من قاعدة تدريب ولوجستيات يمكن النفاذ إليها بشكل أكبر بكثير مما عليه الحال في أفغانستان واليمن.
ومهما يكن عليه الحال، إذا سُمح لـ «جبهة فتح الشام» بالتصرف على سجيتها، فستعزّز موقعها على نحو متزايد عبر استمالة منافسيها أو تحييدهم. وللأسف، لم يتبق أمام الولايات المتحدة أي خيارات جيدة من أجل التصدي لنفوذ الجماعة. يُذكر أنه تمّ تشويه سمعة المتمردين القوميين والعلمانيين إلى حد كبير، وقد لا تقبل الجماعات الإسلامية التي أثبتت كفاءتها في ظروف قاسية أي مساعدة غربية. وتجدر الإشارة إلى أن الرئيس المنتحب ترامب ركّز خطاباته حتى الآن على تنظيم «الدولة الإسلامية»، إلا أنه لن يكون من الحكمة تجاهل فرع تنظيم «القاعدة» الذي يرسّخ جذوره حالياً في سوريا، حتى لو كانت الوسائل المتاحة لواشنطن لمواجهة التنظيم محدودة ومعقدة.
كيلسي سيكاوا، باحثة مشاركة سابقة في معهد واشنطن، وقد بدأت دراستها للتو في "مدرسة تدريب الضباط" في "سلاح الجو الأمريكي".