- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
الصراع على شرق سوريا
انطلقت المنافسة على حكم شرق سوريا بعد دحر تنظيم «الدولة الإسلامية». في 18 أيار/مايو، دمرت الولايات المتحدة قافلةً عسكرية تابعة لحلفاء الرئيس السوري بشار الأسد بعد تجاهلها تحذيرات متكررة لوقف تقدّمها باتجاه قاعدة التنف، الواقعة قرب حدود سوريا مع الأردن والتي تضم القوات الخاصة الأمريكية والبريطانية على تلك الحدود. وتخضع القاعدة لاتفاق تجنب وقوع الصدامات الذي أبرم في تشرين الأول/أكتوبر 2015 بين الولايات المتحدة وروسيا والذي أسفر عن إنشاء خط ساخن لتفادي المواجهة العسكرية المباشرة بين القوات المدعومة من روسيا وتلك المدعومة من الولايات المتحدة في سوريا. وجاء ذلك بعد مرور أيام قليلة على إعلان القاعدة الروسية في حميميم أن قواتها الجوية، إلى جانب مستشارين عسكريين إيرانيين، ستدعم جنود الأسد في محاولتهم التوغل شرقاً، من أجل تطهير الطريق من دمشق إلى بغداد ومنع تشكّل منطقة عازلة مدعومة من الولايات المتحدة في شرق سوريا. وقد أعقب كل ذلك إعلان واشنطن في 9 أيار/مايو أنها ستزوّد الفصائل الكردية ضمن «قوات سوريا الديمقراطية» بأسلحة ثقيلة لمساعدتها على استعادة عاصمة تنظيم «الدولة الإسلامية» الرقة - مثيرةً بذلك غضب حليفتها تركيا. وظاهرياً، يبدو أن هذه التحركات تهدف إلى محاربة تنظيم «داعش»، إلا أن مختلف الجهات الفاعلة في سوريا تفكر بشكل متزايد بما سيحصل بعد ذلك، مع التركيز على نقاط ضعف الطرف الآخر. وقد تخضع الاتفاقات الأمريكية-الروسية المتعلقة بتجنب وقوع صدامات في سوريا قريباً للاختبار، مما يزيد من احتمال وقوع حوادث في أحسن الأحوال. ويتنامى اليوم خطر جرّ الولايات المتحدة وحلفائها إلى مواجهة عسكرية مباشرة ليس مع الأسد فحسب، بل مع داعميه الروس والإيرانيين أيضاً - وهو خطر حدّت منه في السابق حاجة الطرفين لمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية». وحرصاً على أن يبقى خطر المواجهة العسكرية تحت السيطرة، يجب أن تتفق الولايات المتحدة وروسيا على معالم منطقة تخفيف حدة التصعيد في جنوب سوريا من شأنها إبقاء التركيز منصباً على تنظيم «داعش» واحتواء طموحات إيران بإقامة جسر بري عبر سوريا وصولاً إلى البحر المتوسط. ولكن وفقاً لطريقة سير الأمور، من المستبعد أن يحصل ذلك قريباً ما لم تنكشف نقاط ضعف نظام الأسد لداعميه الروس والإيرانيين.
اللعبة الكبرى
وفقاً لتقارير إعلامية، جاءت الضربة الأمريكية ضد القوات الموالية للأسد في 18 أيار/مايو بعدما رفض طابور يضم قوات حكومية وعناصر من الميليشيات الشيعية الامتثال للأوامر بالتراجع وتجاهل الطلقات التحذيرية من الطائرات الأمريكية. وعلى الرغم من أن هذه الخطوات العدائية من جانب قوات النظام بدت مفاجئة، إلّا أنّ القاعدة الجوية الروسية في حميميم كانت توجه رسائل عدائية طوال الأسبوع. وكان لا بدّ من تسليط الضوء عليها لما حملته من معانٍ صريحة ولدرجة التعاون الروسي الذي وعدت به مع إيران. فعلى سبيل المثال، ورد في رسالة صادرة عن القاعدة ما يلي:
"ستشهد الفترة القادمة تعاوناً عسكرياً على مستوى رفيع بين القوات الحكومية الروسية والعراقية ووحداتها المساندة... وهو أمر أتاحه الخبراء العسكريون الإيرانيون وبالتعاون مع سلاح الجو الروسي من أجل دعم قوات النظام السوري... وناهيك عن ضمان أمن الطريق السريع الذي يربط دمشق ببغداد، ستكون هذه الحملة العسكرية بمثابة سباق مع المعارضة المسلحة التي تخطط لإقامة منطقة عازلة بالقرب من مرتفعات الجولان والحدود الأردنية-العراقية بدعم أمريكي مباشر".
ويأتي قرار روسيا وإيران بتشجيع الحكومة السورية على التقدم شرقاً في أعقاب خطوتين بارزتين أقدمت عليهما الولايات المتحدة. وتمثّلت الأولى بتوجيه ضربة صاروخية ضد نظام الأسد في نيسان/أبريل رداً على الاستخدام المزعوم لغاز السارين الذي يضرب الأعصاب - في انتهاك للقانون الدولي (اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية التي وقعتها سوريا عام 2013 كجزء من قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2118)، فضلاً عن الاتفاق الأمريكي-الروسي لعام 2013 للتخلص من مخزون الأسلحة الكيمائية السورية. أما الخطوة الثانية، فكانت قرار واشنطن الأخير بزيادة دعمها لـ «قوات سوريا الديمقراطية» التي يقودها الأكراد في جهودها لتحرير الرقة.
وأشارت هذه التحركات معاً إلى ازدياد الانخراط الأمريكي في الحرب السورية. وتقوم خطة الأمريكيين الرامية إلى محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية» في سوريا، التي جرى وضعها في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، على دعم «وحدات حماية الشعب» الكردية، وهي الجناح المسلح لـ «حزب الاتحاد الديمقراطي»، الذي هو فرع سوري لـ «حزب العمال الكردستاني» التركي. وقد صنفت وزارة الخارجية الأمريكية هذا الأخير رسمياً تنظيماً إرهابياً، كما أنه عدو حليفة واشنطن في حلف "الناتو" تركيا. ولحلّ هذه المعضلة، أسّست الولايات المتحدة منظمة جامعة حول «وحدات حماية الشعب» - «قوات سوريا الديمقراطية» - التي شجعت الجماعات غير الكردية على مساعدة الأكراد في حربهم ضد تنظيم «داعش» في شرق سوريا ووادي الفرات مقابل الدعم الأمريكي. وكانت الآمال معلقة على أنه وسط استحواذ «قوات سوريا الديمقراطية» على المزيد من الأراضي، ستحصل على دعم خصوم الأكراد من العرب السنّة الذين يشكلون غالبية سكان شرق سوريا، ويتمركزون بشكل خاص في وادي الفرات. هذا ويُعتبر الوادي معقل تنظيم «الدولة الإسلامية» وسلفه تنظيم «القاعدة»، ولا يشكّل الاحتفاظ به مفتاح هزيمة التنظيم فحسب، بل الأهم من ذلك أنه يضمن عدم عودته في المستقبل أقوى من السابق.
وتكللت الخطة بالنجاح على الصعيد العسكري، إذ تمكّنت «قوات سوريا الديمقراطية» من خفض عدد الأراضي التي يسيطر عليها تنظيم «الدولة الإسلامية» بشكل كبير وحاصرت الرقة، كما نالت تقدير المستشارين العسكريين الأمريكيين. أما على الصعيد السياسي، فلا يزال الأكراد يهيمنون على «قوات سوريا الديمقراطية». ورغم انضمام بعض المقاتلين العرب إليها، إلا أن معظمهم كانوا إما من المسيحيين العرب وأقليات أخرى، وإما من رجال القبائل البدو السنّة، وهم أخصام القبائل المستقرة في وادي الفرات. وما لم تنجح واشنطن في إقناع «وحدات حماية الشعب» بالتخلي عن الأغلبية التي تتمتع بها داخل «قوات سوريا الديمقراطية» ومشاركة النفوذ مع القبائل المستقرة، تبدو فرص نجاح الأكراد في الحفاظ على الرقة وباقي وادي الفرات ضئيلة.
وتدرك روسيا وإيران أنه نظراً إلى قدرة «قوات سوريا الديمقراطية» المحدودة في المحافظة على الأراضي، يمثل انهيار تنظيم «الدولة الإسلامية» في شرق سوريا فرصةً لنظام الأسد لاستعادة الأراضي التي خسرها. ونتيجةّ لذلك، كانت موسكو وطهران تدعمان على مدار الأشهر القليلة الماضية جهود الفيلق الخامس الجديد الذي أنشأته الحكومة، وهو مزيج من الميليشيات الموالية للأسد مدعومة من روسيا وإيران، للتوجه شرقاً من حلب إلى منبج في شمال-وسط سوريا - قاطعاً بالتالي المنطقة العازلة التي فرضتها تركيا شمالي حلب - ومن ثم شق طريقه جنوباً وشرقاً على طول الضفة الغربية من نهر الفرات باتجاه الرقة. ويمنح هذا التحرك روسيا عدة خيارات: فيمكنها أن تقدّم النظام للعرب السنّة في وادي الفرات على أنه بديل موثوق لـ «قوات سوريا الديمقراطية» مع ترك المجال مفتوحاً في الوقت نفسه أمام دعم «وحدات حماية الشعب» في حال تعاون الولايات المتحدة بشكل أكبر مع تركيا، خصم هذه الوحدات. كما أن هذا التحرك يمكّن روسيا من أداء دور مفسد لخطط الولايات المتحدة في المنطقة.
الدخول إلى المنطقة
لا شكّ في أن الخطة الروسية-الإيرانية طموحة، لكنها تحتوي على ثغرة مهمة: فالقوة البشرية المستنزفة لدى نظام الأسد تعني أنه لا يمكنه احتلال أي قطعة من الأراضي من دون الانكشاف في منطقة أخرى. فعلى سبيل المثال، خلال تقدم الفيلق الخامس شرقاً على مدى الأشهر القليلة الماضية، بدأت الحكومة تفقد بسرعة أراضي شمالي حماه، مما أثار مخاوف خسارته المدينة برمتها. ورغم استعمال الأسد المتكرر لغاز الكلور منذ اتفاق عام 2013، لم تلجأ قواته إلى غاز السارين الأكثر فتكاً بكثير إلا بعد تكبدها هذه الخسائر الأخيرة. وأسفر ذلك بدوره عن دفع الضربة الصاروخية الأمريكية على مطار الشعيرات التابع للأسد التي تسبّبت بتدمير حوالى خُمس السلاح الجوي السوري. وتنطوي الضربة على رسالة أيضاً مفادها أن الولايات المتحدة لن تسمح لنظام الأسد باستعمال الغاز للخروج من النزاع بمساعدة روسية وإيرانية.
وبعد إدراكهما أن النظام لا يملك الموارد الكافية للقتال على عدة جبهات، اقترحت موسكو وطهران في أوائل أيار/مايو إقامة عدة "مناطق لتخفيف حدة التصعيد" أو مناطق لا يهاجمها النظام، مقابل عمل القوات الروسية والإيرانية كـ "ضامنين" يشرفون على انتهاكات وقف إطلاق النار. وكان من شأن مثل هذا الترتيب أن يسمح لروسيا وإيران بقبول تقسيم فعلي للبلاد من دون التنازل عن السيطرة على هذه المناطق لصالح دول مجاورة، لا سيما الأردن وتركيا، التي تدعم المعارضة في تلك المناطق. ومن وجهة نظر أمريكية، إن المنطقة الأكثر ترجيحاً (وذات أولوية قصوى) لتكون منطقة تخفيف حدة التصعيد هي جنوب غرب سوريا، بما في ذلك درعا والمنطقة المتاخمة لهضبة الجولان. فالمعارضة المسلحة الموجودة فيها أكثر اعتدالاً - وأظهرت سهولة أكبر في التعامل معها حتى الآن - من تلك الموجودة في أي مناطق أخرى. كما أن الوجود الإيراني ضئيل بما يكفي ليحدّ من دوره كمفسد [للمخططات الأمريكية]. ونتيجة لذلك، يمثّل جنوب غرب سوريا منطقة يتمتع فيها أي اتفاق تجنب وقوع صدامات مدعوم من الولايات المتحدة وضمانات أمنية روسية، بفرصة نجاح أكثر واقعية.
إن تأمين الجنوب لن يحمي الأردن وإسرائيل، حليفتي الولايات المتحدة، من الجهاديين ونظام الأسد فحسب، بل سيوفر أيضاً قاعدة لعمليات عسكرية مستقبلية ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» تسمح بالتقدم شرقاً نحو وادي الفرات. ويمكن أيضاً للعرب السنّة جنوبي سوريا المدعومين من الأردن أن يمثلوا بديلاً محتملاً أو مكملاً لـ «قوات سوريا الديمقراطية».
فضلاً عن ذلك، أشار إعلان روسيا عن عمليات مشتركة مع إيران لمساعدة الأسد على التقدّم باتجاه الفرات إلى أن موسكو - وهو أمر لطالما اشتبه به الأمريكيون - تعتزم مساعدة طهران على ضمان جسر بري - وهو امتداد متواصل من الأراضي التي يسيطر عليها حلفاء إيران - من إيران مروراً بالعراق وسوريا وصولاً إلى المناطق الخاضعة لسيطرة «حزب الله» في لبنان، الأمر الذي سيسمح بنقل وتسليم المزيد من الأسلحة الثقيلة غرباً إلى سوريا ولبنان. ومع ذلك، من المستبعد أن يُقنع هذا الأمر دولاً أخرى في المنطقة، مثل دول الخليج والأردن، بالتوقف عن دعم المعارضة، وقد يزيد فعلياً حدة الصراع. كما يمكن أن يثير ردّاً من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي تسعى إدارته إلى مواجهة طموحات إيران التوسعية في مناطق أبعد بكثير من مجال نفوذها التقليدي، بما في ذلك المناطق البرية في شرق سوريا.
الموقع ثم الموقع ثم الموقع
لا تزال نتيجة التقدّم المدعوم من روسيا وإيران نحو الشرق غير واضحة المعالم. فخلال الأيام القليلة الماضية، كانت القوات الموالية للنظام والميليشيات الشيعية الحليفة - التي يتردد أنها ترفع الأعلام الروسية في مقدمة صفوفها - تنتزع أراضيَ من تنظيم «الدولة الإسلامية» في البادية، وهي المنطقة الواقعة شرق دمشق في جنوب سوريا. ومع ذلك، سيتطلب الاستحواذ على مناطق أقرب من وادي الفرات والمحافظة عليها المزيد من الجنود، مما يسلّط الضوء على نقص القوى البشرية للنظام ويختبر استعداد روسيا وإيران للتصعيد.
إن أفضل طريقة بالنسبة لواشنطن للتعامل مع هذا الوضع هي السماح للنظام باستنفاد طاقته محاولاً التقدّم باتجاه الفرات في الوقت الذي تستعد فيه إلى توقف هذا التقدّم، وهو ما يبدو مرجحاً. ويتطلب ذلك الالتزام باتفاقات تجنب وقوع الصدامات الأمريكية-الروسية من أجل حماية التنف، بينما تقوّي الجماعات المعارضة في المنطقة، التي تضمّ الكثير منها عرباً سنّة وهي بذلك أكثر قبولاً من الناحية السياسية في أوساط السكان المحليين. وتدلّ المؤشرات الأولية من مصادر سورية وروسية على أن الأسد يعتزم السيطرة على معقل تنظيم «الدولة الإسلامية» في دير الزور وسط وادي الفرات، مما يمنح الولايات المتحدة الوقت لدعم قوات المعارضة جنوباً باتجاه البوكمال على الحدود العراقية. ومن شأن هذه المبادرة أن توفّر خيارات أفضل للولايات المتحدة في جنوب سوريا وتساعد أبرز حليفتين لها الأردن وإسرائيل وتقوّض خطط إيران للسيطرة على طريق بغداد-دمشق. كما ستمنح الولايات المتحدة دعماً سياسياً من العرب السنّة هي بأمس الحاجة إليه - أو بديلاً - لـ «قوات سوريا الديمقراطية» ذات الأغلبية الكردية في شرق سوريا.
أندرو تابلر هو زميل "مارتن جي. غروس" في برنامج السياسة العربية في معهد واشنطن.
"فورين آفيرز"