- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
التغيير لم يصل إلى الشرق الأوسط
يخيَّل للوهلة الأولى أن الشرق الأوسط الذي يواجهه الرئيس ترامب حالياً يختلف كثيراً عن المنطقة التي واجهها الرئيس باراك أوباما عام 2009. فالانتفاضات العربية التي اندلعت عام 2011 أطاحت بزعماء تونس ومصر واليمن وليبيا، بينما تسببت الحرب الأهلية في سوريا بتدمير البلاد وتشريد سكانها، تلك الدولة التي اعتُبرت يوماً ما القلب الدولي النابض للعالم العربي. كما نجح ما يسمى بـ تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش») باقتطاع أراض من العراق وسوريا في بداية اجتياحه لأراضيهما، وأقام شبه دولة إرهابية امتدت بين هذين البلدين، ولكن التنظيم يعاني حالياً من تقلص سريع في قاعدته. أما عملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين فتشهد فترة الجمود الأطول أمداً في تاريخها منذ توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993. بالإضافة إلى ذلك إن الأزمة النووية الإيرانية التي كانت تتفاقم في السابق بوتيرة متسارعة، توقفت لبرهة من الزمن بفضل مفاوضات «خطة العمل المشتركة الشاملة» - وهذا هو التطور الوحيد من بين هذه الأحداث الذي يرغب أوباما على الأرجح أن ينال الفضل عليه. إلا أن الأمر الحقيقي في الشرق الأوسط لا يرتبط بمدى التغيير الذي حصل، بل بضآلته إذا ما تعمق المرء بشكل أكبر [في دراسة الأوضاع]. فعلى العكس مما كان متوقعاً، تفاقم الركود الاقتصادي والسياسي الذي أطلق شرارة الانتفاضات عام 2011. فقد بلغت نسبة بطالة الشباب في العالم العربي 29 في المائة عام 2013، أي أكثر من ضعفَي المتوسط العالمي البالغ 13 في المائة، وأعلى نسبة من أي منطقة أخرى من العالم. وحتى في الوقت الذي تخشى فيه سائر دول العالم من غياب الاستقرار في الشرق الأوسط، يبقى الوضع الاقتصادي وليس الأمني مصدر القلق الأكبر لدى الغالبية الساحقة من شعوب المنطقة - فوفقاً لدراسة نشرها "الباروميتر العربي" لعام 2014، منح 88 في المائة من السكان في مصر الأولوية للمشاكل الاقتصادية مقارنة بـ 1 في المائة للمخاوف الأمنية.
ولم ينبثق تنظيم «الدولة الإسلامية» من الفراغ، بل جاء نتيجة القمع الوحشي المتواصل الذي مارسته الحكومة السورية بحق شعبها، والتمييز الطائفي الذي انتهجه رئيس الوزراء العراقي آنذاك نوري المالكي. وقد تصرف كلاهما بدعم من إيران، التي أرسلت قواتها الهجومية لمساندة الحرب التي شنها الرئيس السوري بشار الأسد في بلاده، والتي يهدد دعمها الحالي للميليشيات العراقية بالقضاء على أي مكاسب تُحقَّق ضد تنظيم «داعش» في أماكن مثل الموصل ومحافظة الأنبار. وقد تنامت قوة إيران في المنطقة على الرغم من «خطة العمل المشتركة الشاملة» - أو بسببها كما يُحتمل. وقد امتنعت الولايات المتحدة والقوى الأخرى عن صد مطامع طهران الإقليمية على أمل ضمان التوصل إلى اتفاق نووي، والحفاظ عليه فيما بعد.
أما الدول التي كان وضعها جيداً إلى حد معقول في عام 2008 - على سبيل المثال، الأردن، المغرب، والإمارات العربية المتحدة - فتستمر اليوم في الازدهار على الرغم من الاضطرابات التي تعصف بالمنطقة، ويُعزى ذلك إلى قيادتها السليمة وإلى التعاون الأمريكي والدولي الصبور والمتحفظ.
ومع ذلك، يمكن القول إن التغيير الأكبر قد جاء من الخارج، بدءً من دور الولايات المتحدة. فليس هناك تحالف أمريكي في المنطقة، أصبح في موقف أقوى في عام 2017 مما كان عليه عام 2009. فمن خلال محاولة إدارة أوباما تحويل اهتمامها نحو آسيا، وتخليص نفسها من العراق وتفادي النزاع مع إيران، ومعاناتها من أزمة مالية أدت إلى إعادة توجيه أنظارها نحو القضايا المحلية، فقد أعطت بذلك انطباعاً بالانفصال (أو فك الارتباط). ومن جهة استحقت الولايات المتحدة هذا الانطباع، ولكن من جهة أخرى يفند ذلك انطباع الشراكات الأمنية القوية والمتواصلة مع الحلفاء، مثل إسرائيل والإمارات العربية المتحدة، الأمر الذي يشكل ميزة مفيدة للرئيس ترامب - وغالباً ما كانت السياسة الأمريكية غير واثقة من نفسها وتدريجية، ولم تعطِ واشنطن لحلفائها الثقة الكافية بأنها تشاركهم نظرتهم إلى التهديدات.
وقد أدى هذا الانفصال الاستراتيجي من قبل الولايات المتحدة إلى إعادة تصميم المشهد الجيوسياسي في المنطقة. فقد قرّب العلاقات بين حلفاء الولايات المتحدة مثل دول الخليج العربية (وأكثرها قرباً، بشكل ملحوظ، مع إسرائيل) ودفع هذه البلدان إلى اتباع مذهب جديد من النشاط السياسي والتعددية. ولكن لهذا التعاون حدوده لأن حلفاء واشنطن ما زالوا يفتقرون إلى حد كبير إلى القوة المؤسساتية والقابلية على تبادل الإمكانيات اللتين تمتلكهما سائر التحالفات الإقليمية. كما أنهم يفتقرون إلى المنتديات أو الآليات الوطنية الخاصة بهم لمعالجة العديد من النزاعات في المنطقة.
بالإضافة إلى ذلك، حث الانعزال الأمريكي القوى الخارجية الأخرى على زيادة انخراطها في المنطقة، سواء كان ذلك لدوافع انتهازية أم لمجرد تأمين مصالحها الخاصة. وروسيا هي المثال الأوضح، فتدخلها في سوريا أنقذ نظام الأسد من الإنهيار. لكن الصين، والدول الأوروبية، وغيرها من البلدان زادت انخراطها في الشرق الأوسط بتكتّم أكبر، مؤذنة بنهاية السيادة الأمريكية التي استمرت بلا منازع لعقود من الزمن في المنطقة. وعندما تقوم الولايات المتحدة ببلورة سياستها الإقليمية، سوف لن يتعين عليها أخذ هذه القوى الأخرى بعين الاعتبار بشكل متزايد فحسب، بل سيتوجب عليها أيضاً إعادة النظر في الافتراضات الأساسية مثل حريتها في التحرك في المجال الجوي والممرات المائية في المنطقة.
ونظراً إلى الصعوبة التي تشتهر بها المنطقة، سيكون من المغري لأي إدارة أمريكية جديدة أن تصرف اهتمامها نحو بقعة أخرى من العالم. لكن الرئيس ترامب تعهّد بإعطاء الأولوية لتحقيق المصالح الأمريكية في سياسته الخارجية، وهذه المصالح هي التي تجر الولايات المتحدة إلى تلك المنطقة. أي المصالح المتعلقة بمكافحة الإرهاب، ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل، وضمان التدفق الحر للتجارة والطاقة، على سبيل المثال لا الحصر. وكلما زاد تركيز الرئيس الأمريكي على دعم هذه المصالح، بدلاً من السعي إلى حل النزاعات أو عقد الصفقات لمجرد عقدها، كلما حقق نجاحاً أكبر.
ومن المغري النظر إلى سياسة الشرق الأوسط من منظار "معالجة" مشاكل سوريا أو العراق أو النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، ولكن هذه النزعة لحل المشاكل لا تميل إلى الفشل فحسب، بل إنها تزاحم الاهتمام والموارد التي يمكن تسخيرها لمساعٍ أخرى لا تقل أهمية على المدى الطويل ولكنها أقل شهرة.
ولذلك، مهما بقيت الحرب ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» جوهرية، هناك ثلاثة تغييرات أخرى يمكن للرئيس ترامب إدخالها على سياسة الولايات المتحدة في المنطقة، والتي يمكنها أن تخدم مصالح واشنطن مع مرور الوقت. أولاً، عليه التصرف بحزم للتصدي لإيران، وبذلك لن يسهم في المساعدة على إنهاء الصراعات على نحو مستدام في سوريا والعراق واليمن وأماكن أخرى فحسب، بل سيضع الولايات المتحدة مجدداً أيضاً على نفس المسار الاستراتيجي مع حلفائها الذين يجدون في مطامع إيران الإقليمية التهديد الأكبر لهم. ثانياً، عليه السعي إلى إعادة بناء التحالفات الأمريكية في المنطقة، على أن لا يقتصر تركيزه على تحسين العلاقات الثنائية بل يمتد إلى تشكيل مجموعة متعددة الأطراف وذات قدرات ومنافع أكبر، مكونة من الشركاء الإقليميين المتشابهي التفكير.
وأخيراً، يجب عليه أن يساعد حلفاء واشنطن على الانخراط في الإصلاحات الاقتصادية والأمنية والسياسية حيثما أبدوا استعداداً لذلك. ولا ينبغي أن يكون الهدف من ذلك تغيير معالمهم ليصبحوا نسخة من صورة الولايات المتحدة، بل لمساعدتهم على اتخاذ الخطوات التي تعود بالفائدة على المصالح المشتركة لكلا الجانبين من خلال جعلهم أكثر قدرة على التكيف مع التهديدات الإقليمية والتجاوب مع شعوبهم. وبعد مرور ثماني سنوات من الانحراف الاستراتيجي الأمريكي، سيكون لدى حلفاء الولايات المتحدة طموحات عالية من الرئيس ترامب. وبدوره، يجب على الرئيس الأمريكي أن يصر على ترقّب الكثير منهم أيضاً.
مايكل سينغ هو زميل أقدم في زمالة "لين- سويغ" والمدير الإداري في معهد واشنطن، وكان مدير أقدم لشؤون الشرق الأوسط في البيت الأبيض في الفترة 2007-2008، ومدير في طاقم "مجلس الأمن القومي" الأمريكي في الفترة 2005-2007. وفي وقت سابق، شغل منصب مساعد خاص لوزيري الخارجية باول ورايس، كما عمل في السفارة الأمريكية في تل أبيب.
"سايفر بريف"