- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 2997
التحكم بالتصعيد في غزة (الجزء الثاني): كسر الديناميكية
"هذا المرصد السياسي هو الثاني في سلسلة من جزئين حول آخر الأعمال العدائية في غزة. اقرأ الجزء الأول، الذي يناقش الدروس المكتسبة من «عملية الجرف الصامد» - آخر نزاع رئيسي في القطاع".
منذ آذار/مارس المنصرم، ازدادت التوترات على طول الحدود مع غزة بشكل ملحوظ، حيث نظّمت «حماس» مظاهرات أسبوعية عنيفة وحاولت التوغل على طول الحاجز الأمني، وأرسلت الطائرات الورقية والبالونات الحارقة إلى إسرائيل، وردّت على هجوم إسرائيل المضاد بإطلاقها الصواريخ، وكل ذلك في محاولة لإيجاد توازن رادع جديد. وقد تم إطلاق أكثر من 200 صاروخ خلال الأسابيع القليلة الماضية وحدها، الأمر الذي أثار مخاوف من أن الجانبين على أعتاب صراع كبير آخر. ورغم أن الكثير من التعليقات قد ركّزت بحق على كيفية مساهمة الحالة الاقتصادية والإنسانية لغزة في هذه الديناميكية التصاعدية، إلّا أن الاعتبارات الأمنية والإجراءات العسكرية ستكون هي المحرك الرئيسي لأي مواجهة جديدة.
التطورات العسكرية الأخيرة
يمكن أن تُعزى الديناميكية التصاعدية الحالية إلى أربعة تطورات رئيسية:
- تصاعد العنف على الحدود. بدءاً من 30 أذار/مارس، أطلقت «حماس» احتجاجات أسبوعية على الحدود تحت اسم "مسيرة العودة الكبرى" لجذب الانتباه إلى الأوضاع الرهيبة في غزة، وإظهار ثمن استمرار الوضع الراهن، وتحويل الغضب المحلي إزاء الوضع السائد تجاه إسرائيل. ويبدو أن الحركة تعتقد أن هذه الحوادث - التي يتحول الكثير منها إلى أعمال شغب وتشمل محاولات تسلل - مكّنتها من استعادة الأضواء وقد تساعدها على المضي قدماً في تنفيذ أجندتها. كما بدأت «حماس» باستخدام الطائرات الورقية والبالونات الحارقة لكي تسبب الحرائق وتلحق الأضرار بالزراعة وتحدث آثاراً نفسية داخل إسرائيل. وفي حين كانت هذه الأسلحة تكتيكاً مرتجلاً في البداية، غير أنها أصبحت أهم أداة في يد الحركة، الأمر الذي مكّنها من فرض التكاليف وتوجيه رسالة بواسطة وسائل يصعب التصدي لها وتعتبر ظاهرياً "غير عسكرية".
- الجهود الإسرائيلية لمنع العنف والإرهاب. من خلال قيام قوات "جيش الدفاع الإسرائيلي" بالتصدي لهجمات الإحراق المتعمّد ومحاولات التسلل، فقد استهدفت أحياناً نشطاء «حماس» ومواقعها.
- جهود «حماس» لإنشاء "معادلة" رادعة جديدة. ردت الحركة على الهجمات الأخيرة التي شنها "الجيش الإسرائيلي" من خلال إطلاقها الصواريخ بهدف ردع المزيد من الهجمات. وهذا الأمر جدير بالملاحظة بشكل خاص لأنها المرة الأولى التي تلجأ فيها «حماس» إلى إطلاق الصواريخ منذ "عملية الجرف الصامد" عام 2014، مما دفع الطرفين إلى الاعتقاد بأن التصعيد الأوسع نطاقاً قد يكون وشيكاً.
- الأنشطة الإرهابية التي تنفذها «حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين» والجماعات السلفية. خلال الأشهر القليلة الماضية، قامت جماعات أخرى بين الحين والآخر باتخاذ إجراءات ضد إسرائيل، مما دفع "الجيش الإسرائيلي" إلى ضرب أهداف «حماس» على أساس المبدأ بأن «حماس» هي المسؤولة عن كل ما يحدث في غزة. وقد ساهم هذا النمط في عملية التصعيد التدريجي. ففي تشرين الأول/أكتوبر 2017، هدم "الجيش الإسرائيلي" نفقاً تابعاً لـ «حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين» امتد إلى إسرائيل، مما أدى إلى مقتل العديد من نشطاء الجماعة. ومنذ ذلك الحين، تصرفت «حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين» بشكل أكثر عدائية، وذلك من خلال مهاجمة قوات "جيش الدفاع الإسرائيلي" على الحدود. وفي كانون الأول/ديسمبر، أطلقت عناصر مارقة الصواريخ على إسرائيل بعد أن أعلن الرئيس ترامب أن السفارة الأمريكية ستُنقل من تل أبيب إلى القدس. وفي أيار/مايو المنصرم، قُتل العديد من أعضاء «حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين» في اشتباك حدودي، مما حفّز الجماعة على إطلاق عشرات الصواريخ. وبعد ذلك، قامت إسرائيل بعمليات انتقامية وضربت مواقع كل من «حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين» و«حماس»، ثم قتلت أحد أعضاء «حماس» في اشتباك آخر، مما أدى إلى قيام «حماس» بإطلاق وابل من الصواريخ خاصة بها.
وفي الآونة الأخيرة، أدّت الأحداث التي دارت في 14 - 15 تموز/يوليو وفي 20- 21 تموز/يوليو إلى تقريب الطرفين من حافة المواجهة. وفي كلتا الحالتين، أصيب جنود من "الجيش الإسرائيلي" خلال أعمال الشغب الحدودية التي وقعت أيام الجمعة، كما قتل ضابط برصاص قناص في 20 تموز/يوليو. ورداً على هذه الهجمات وعلى مواصلة استخدام الطائرات الورقية والبالونات الحارقة، أطلق "الجيش الإسرائيلي" أكبر موجة من الهجمات خلال فترة النهار منذ "عملية الجرف الصامد"، حيث أصاب عشرات الأهداف التابعة لـ" «حماس». وفي هذا الإطار، قُتل مراهقان فلسطينيان في أول عطلة نهاية أسبوع، وقُتل العديد من أعضاء «حماس» في ثاني عطلة نهاية أسبوع. ورداً على ذلك، أطلق نشطاء غزة قذائف قصيرة المدى على إسرائيل، حوالي 200 قذيفة في أول عطلة نهاية أسبوع، مما أسفر عن إصابة أربعة إسرائيليين في سديروت.
وفي كلتا الحالتين، أدت جهود الوساطة التي قامت بها كل من مصر و"المنسق الخاص للأمم المتحدة" نيكولاي ملادينوف إلى وقف إطلاق النار. ولكن خلايا «حماس» الإرهابية استمرت في محاولاتها لشن هجمات حارقة، وما زالت إسرائيل تتخذ إجراءات ضدها، موضحة أنها لن تقبل استخدام مثل هذا التكتيك.
التصعيد الديناميكي
إن الافتراض السائد هو أن «حماس» لا تسعى إلى اندلاع صراع أوسع مع إسرائيل - حيث أن الذكريات المريرة للثمن الذي دفعته في "عملية الجرف الصامد" لا تزال تردع الحركة. غير أن التطورات الأخيرة تشير إلى أن «حماس» أصبحت أكثر قبولاً للمخاطرة بسبب عدد من العوامل وهي: هدفها المتمثل في الحصول على تنازلات من إسرائيل لتخفيف "الحصار" المفروض على غزة، والإحباط الذي تشعر به من ضربات "الجيش الإسرائيلي"، ورغبتها في إظهار نفسها كمدافع عن غزة، لا سيّما نظراً إلى الخسائر التي تكبدها متظاهرو "مسيرة العودة الكبرى".
وقد تعكس تحركات «حماس» أيضاً افتراضها بأن إسرائيل تريد تجنب صراع آخر أيضاً. ويبدو أن الحركة تعتقد أن إسرائيل منهمكة جداً في مشاكل حدودها الشمالية ولن تعمل على تصعيد الأوضاع في غزة، مما يمنح الجماعة مجالاً أكبر للمناورة.
ونتيجة لذلك، يبدو أن كلا الطرفين يحاولان تحقيق توازن دقيق بين هدفين باستخدام أدوات محدودة: (1) الردع، والاستجابة، والتأثير على بعضهما البعض، و (2) تجنب التصعيد الكبير. وكان قرار إسرائيل المتمثل في إغلاق معبر "كيريم شالوم" ["كرم أبو سالم"] التجاري في 9 تموز/يوليو مثالاً على هذا التعقيد: فقد أشار إلى وجود رغبة في كبح العنف الذي ترتكبه «حماس» بوسائل غير عسكرية، على الرغم من أن تفاقم الوضع الاقتصادي قد يجعل الوضع الأمني أكثر سوءاً. وعلاوة على ذلك، اكتفت «حماس» بإطلاق قذائف قصيرة المدى فقط في 14 و15 تموز/يوليو، بينما ركّز "الجيش الإسرائيلي" على ضرب البنية التحتية للجماعة، وتجنّب الضربات التي قد تقتل أفراداً من «حماس». وعلى الرغم من ضبط النفس المتبادل، فقد أظهرت تصرفات كل طرف التأثير التصاعدي الهام الذي يمكن أن تحدثه التطورات التكتيكية على المنظور الاستراتيجي الأوسع.
باختصار، لا يرغب أي من الطرفين في التصعيد، ولا يبدو أن أيّاً منهما يؤمن بأن الصراع الأوسع سيخدم مصالحه، لكن كلاهما يريد تغيير الوضع الحالي: فـ «حماس» تريد إنهاء "الحصار" ووقف هجمات "الجيش الإسرائيلي"، بينما تريد إسرائيل إنهاء جميع الهجمات والتوغلات التي تحصل على طول الحدود. وقد أدى هذا الهدف إلى اتخاذ إجراءات يمكن أن تؤدي إلى النتائج ذاتها التي يحاولان تجنبها. وبالفعل، يبدو أن كلا الجانبين يدركان الآن أن المواجهة قد تحدث في وقت قريب ويستعدان لها - وربما قد لا "يبذلا قصارى جهدهما" لمنع الحرب نظراً لرغبتهما في تغيير الوضع الراهن والرد على أفعال بعضهما البعض.
وفي الوقت الراهن، يبدو أن استراتيجية إسرائيل تقوم على [فكرة] إقناع «حماس» بضرورة كبح جماح العنف، مع التوضيح أن "جيش الدفاع الإسرائيلي" لا يخشى من مواجهة أخرى إذا اقتضى الأمر، وأنه مستعد بالفعل لهذا الاحتمال (على سبيل المثال، انظر إلى نشر نظم الصواريخ الدفاعية المعروفة بـ "القبة الحديدية" في وسط إسرائيل والذي حظي بتغطية إعلامية واسعة والتمارين العسكرية الأخيرة لـ "الجيش الإسرائيلي"). كما أن استعداد الحركة لقبول وقف إطلاق نار مؤقت خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي، دون إطلاق عشرات القذائف قبل موافقتها، قد يعكس فهمها لاستعداد إسرائيل للدخول في صراع أوسع نطاقاً.
التوقعات على المدى القريب
تُظهر الأحداث الأخيرة التحدي المتمثل في التحكم بالتصعيد في غزة بالنظر إلى الظروف المعقدة للقطاع، والضغوط الداخلية التي تُمارس على «حماس» وإسرائيل، وعدم وجود "حلول سحرية" للنزاعات الأساسية. وكما اتضح خلال "عملية الجرف الصامد"، ليس من الصعب منع وقوع مواجهة في غزة فحسب، بل من الصعب أيضاً إنهاء مثل هذا النزاع حال الشروع فيه.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل ستؤدي الحالة الراهنة إلى تصعيد أوسع؟ لا يمكن لأحد أن يعرف حقاً بشكل مؤكّد، لكن الأمر سيعتمد على مجموعة من العوامل وهي: الإجراءات العسكرية التي يتخذها الطرفان؛ وكيفية تقييم كل طرف لنوايا الطرف الآخر؛ وأين ستدفع الضغوط الداخلية صناع القرار في إسرائيل و«حماس»؛ ونطاق المحاولات الخارجية لتحسين الوضع الاقتصادي في غزة ومدى فعاليتها؛ وقبل كل شيء، الديناميكيات على الأرض.
ومن ناحية، يبدو الطرفان مصممَين على تعزيز مصالحهما، وإذا استمرّت هذه الحالة، فقد يقرر أحد الطرفين البدء بصراع للاستفادة من عنصر المفاجأة. ومن ناحية أخرى، لا يزال لذكريات "عملية الجرف الصامد" وعوامل أخرى أثر تقييدي على كلا الجانبين.
وبالنسبة لـ «حماس»، فإن خلفية القيادي "يحيى السنوار" في الجناح العسكري قد تساعد الحركة على الحفاظ على التماسك الداخلي ومنع التنافسات السياسية - العسكرية التي ساهمت في التصعيد السابق. بل إنه قد يقود «حماس» إلى اتخاذ قرارات عملية جريئة، على الرغم من أن نهجه المتشدد قد يزيد من التوتر داخل الحركة وتجاه إسرائيل. ومن جانبها، تفضل إسرائيل الاستمرار بالتعامل مع غزة على أنها "ساحة ثانوية" مقارنة بالجبهة الشمالية، لكن صناع القرار سيحددون أولوية قصوى للقطاع إذا تطلبت الأحداث ذلك.
أمّا بالنسبة إلى الأطراف الفاعلة الأخرى، فإن تصرفات العناصر الخارجية الفاعلة - وخاصة مصر وقطر والأمم المتحدة - يمكن أن تؤثر على الوضع إلى حد معين. على سبيل المثال، يمكن لجهودها الرامية إلى إطلاق مشاريع اقتصادية وإنسانية أن تسهّل مسعى أوسع نطاقاً لتهدئة الوضع، بما أن «حماس» قد لا ترغب في الظهور كما لو أنها تمنع المبادرات التي تشتد الحاجة إليها فيما يتعلق بالكهرباء والمياه ومعالجة مياه الصرف الصحي وغيرها من الأمور.
ومع ذلك، فإن مثل هذه المشاريع ليست بأي حال من الأحوال وسيلة مؤكدة لمنع المواجهة المقبلة. وكما نوقش في الجزء الأول، فإن أحد الاستنتاجات الرئيسية لهذا التحليل لا يكمن في ضرورة معالجة المشاكل الاقتصادية فحسب، بل في العوامل الأخرى أيضاً التي كانت تدفع إلى التصعيد والنزاعات الكبرى في غزة لمدة عشرة أعوام حتى الآن، ومن بينها الاحتكاك العسكري المستمر على الحدود، وعجز «حماس» الواضح على ضمان احتكار استخدام القوة في غزة ومنها، وانعدام الثقة بشكل عميق والخلافات الإيديولوجية الأساسية بين الجانبين، ومشاكل التواصل المستمرة، والميل إلى الخطأ في التقدير.
وبشكل واقعي، من المشكوك فيه أن تتمتع غزة بالهدوء التام في ظل الظروف الراهنة. ومع ذلك، يجب على أولئك الذين يريدون منع التصعيد أن لا يركزوا فقط على المشاكل التكتيكية والقضايا الاستراتيجية الأكثر استعصاءً (مثل المصالحة الفلسطينية الداخلية؛ وقف دائم لإطلاق النار مع إسرائيل، أو الهدنة ؛ تحول جذري في الظروف الاقتصادية لغزة؛ الخ)، بل أيضاً على "الطبقة الوسطى" المذكورة أعلاه. وطالما تسيطر «حماس» على غزة، فهذا يعني أنه يجب الحد من عدم الثقة بين الجانبين، وإنشاء قنوات اتصال وتواصل موثوقة وفورية، والحد من الاحتكاك العسكري، وخفض التوترات بين الجماعات المسلحة في غزة، والأهم من ذلك، صياغة واقع اقتصادي وأمني يمكن للطرفين التعايش معه - حتى لو كان ذلك يعني وضع أهدافهما الاستراتيجية والسياسية النهائية جانباً في الوقت الحالي. وعلى غرار القضايا التكتيكية والاستراتيجية القائمة على الجانبين المتقابلين، فإن هذه المشاكل "الوسطية" ليست سهلة الحل، ولكن أي جهد جاد للتحكم بالتصعيد يجب أن يعالجها.
الرائد نداف بين حور، "جيش الدفاع الإسرائيلي"، هو زميل عسكري زائر في معهد واشنطن.