- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 2504
التصريحات الفلسطينية حول أعمال العنف: اتهام إسرائيل، ولكن الحفاظ على السيطرة أيضاً
في ضوء جرائم الطعن وموجة التظاهرات العنيفة التي لا تزال مستمرة منذ أسبوعين في ضواحي القدس وشوارعها، إلى جانب الانتهاكات العشوائية واسعة النطاق على حدود غزة، بدأت البيانات الرسمية وتعليقات وسائل الإعلام الفلسطينية بإطلاق رسالة مزدوجة المضمون. وعموماً، لا تدعو رسائل السلطة الفلسطينية ولا تصريحات حركة «حماس» إلى ارتكاب المزيد من العنف في إقليميهما، على الرغم من أن «حماس» لم تتوانَ عن الحثّ على ارتكاب المزيد من الجرائم بحق اليهود المقيمين في القدس. كما أن الحكومة الفلسطينية لا تشجب أعمال العنف؛ وتشيد كل من السلطة الفلسطينية و «حماس» بأولئك الفلسطينيين مرتكبي تلك الأعمال؛ وكليهما تتهمان إسرائيل بالقيام بذلك بدلاً من [اتهامهما عناصر متطرفة] في صفوف الشعب الفلسطيني.
الخلفية: التوترات في جبل الهيكل
في الفترة التي سبقت الأزمة الحالية، صعّدت السلطة الفلسطينية، تدريجياً، من موجة الاتهامات التي توجهها ضدّ إسرائيل. وقد استندت هذه الحملة إلى وجهة النظر الفلسطينية واسعة الانتشار إنّما الخاطئة التي تؤمن بأن إسرائيل تسعى إلى انتزاع حقوق جديدة لها في الحرم الشريف (جبل الهيكل) والمسجد الأقصى، المقدس عند المسلمين، وأن اليهود لا يتمتعون بأي حقوق أو تاريخ في تلك المنطقة. ولسوء الحظ، لم تنجح التصريحات المتكررة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وغيره، التي تؤكد تنصل الحكومة الإسرائيلية من أعمال اليهود المتطرّفين المستفِزة، في وقف التحريض التي تمارسه حركة "الجناح الشمالي" العربية الإسرائيلية الأصولية أو غيرها من الجماعات الإسلامية المتطرّفة أو حتى السلطة الفلسطينية نفسها.
وخلال موسم الأعياد اليهودية في منتصف أيلول/سبتمبر، وعلى ضوء التظاهرات والتدابير التي اتخذتها الشرطة الإسرائيلية في المسجد الأقصى، استنكر رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، شخصياً وعلناً، "الأقدام القذرة" للزوار اليهود التي تدنس الحرم القدسي، بينما أثنى على " كل قطرة دم أريقت .... ما دامت في سبيل الله". ووفقاً لتقارير صحفية إسرائيلية، استدعت تصريحات عباس المؤجِّجة لنار الفتنة إلى توجيه عتاب شخصي خاص وغير عادي للغاية من قبل الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، إزاء خطاب عباس التحريضي.
ومع ذلك، لم يتوانَ عباس عن الإدلاء بتصريحاته المحرِّضة بل واصل اتهاماته المضلّلة والمثيرة للفتن ضد السياسة الإسرائيلية تجاه الحرم الشريف، كما حصل في جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة حيث ألقى عباس كلمته بعد أسبوع على الحادثة. وبعد ذلك بوقت قصير، عندما استهدف الإرهابيون في الضفة الغربية والقدس مواطنين وجنود إسرائيليين، إمّا بطلقة نارية أو طعناً حتى الموت، في عدة مرات، لم يستهجن عباس تلك الأفعال على خلاف ما كان يفعل، أحياناً، في الماضي. ويجوز وصف صمت عباس عن تلك الأفعال، على وجه الخصوص، بأنه جدير بالاهتمام إذ تبّنى فصيل في حركة «فتح»، علناً، اثنين من عمليات القتل الأخيرة. وعلى العكس من ذلك، دعت السلطة الفلسطينية الأمم المتحدة والمجتمع الدولي رسمياً إلى اتخاذ الاجراءات اللازمة من أجل "حماية" الفلسطينيين من أي "تصعيد" إسرائيلي.
تصريحات المسؤولين الفلسطينيين مقابل إجراءاتهم
ألقت التصريحات المبكرة للمسؤولين الفلسطينيين اللائمة على إسرائيل بتصعيد الأزمة، بالرغم من تأكيد بعض المصادر على سعي أولئك المسؤولين، سراً، إلى احتواء أي فوضى محتملة قد تمتد على نطاق أوسع. وقد أشار بعض الفلسطينيين، بصورة غير علنية، إلى أن معظم أعمال العنف كانت تُرتَكب داخل إسرائيل وليس في الضفة الغربية، وخاصة في القدس أو على الحدود مع غزة حيث لا تملك السلطة الفلسطينية وضباط الأمن الصلاحية بدخول المنطقة أو بسط النفوذ فيها. ووفقاً لتصريحات المسؤولين والخبراء الإسرائيليين، تواصل أجهزة الأمن الفلسطينية، وراء الكواليس، التنسيق مع إسرائيل ضد العمليات الإرهابية التي ارتكبتها «حماس» حتى الآن، ووفقاً لتصريحات «حماس»، تكمن الغاية من ذلك التنسيق في تسليم خلية «حماس» السريّة المؤلفة من خمسة أعضاء متواجدين في نطاق نابلس/جنين، ومسؤولين عن إطلاق النار ومقتل اثنين من المستوطنين الإسرائيليين.
وبحلول الأسبوع الثاني من تشرين الأول/أكتوبر، عادت السلطة الفلسطينية إلى نمطها الاعتيادي المتمثّل في إدلاء التصريحات المتفاوتة إنّما بنبرة أعلى. فقد أكد عبّاس لجمهوره المحلي باللغة العربية استنكاره للعنف، مضيفاً بأنه ينادي بنهج "المقاومة الشعبية السلمية" دون سواه. وقد توجّه إلى الإسرائيليين مؤكداً "نريد السلام وستظل أيادينا مفتوحة لتحقيق السلام، رغم كل معاناتنا من قبلكم". ومع ذلك، وعلى الوتيرة ذاتها، حث عباس الفلسطينيين على "الدفاع" عن أنفسهم و"حماية" المسجد الأقصى وحذّر إسرائيل بأن عليها "البقاء بعيداً عن الأماكن المقدسة للمسلمين والمسيحيين".
كذلك، ألمحت «حماس» من خلال تصريحاتها إلى سعيها إلى درء أي تصعيد كبير وأي لجوء من جانب إسرائيل إلى سياسة الأخذ بالثأر في غزة. وقبل فترة من الإدلاء بتلك التصريحات، أعلن موسى أبو مرزوق، نائب رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» خالد مشعل، بأن «حماس» لن تشن أي هجوم صاروخي ضد إسرائيل كي لا "تشتّت" جهودها المبذولة في الصراع القائم في القدس والضفة الغربية. وفي الأسبوع الماضي، أعلنت «حماس» بأن جهتها على الحدود مع إسرائيل ستتحول، من الآن فصاعداً، إلى منطقة عسكرية مقفلة كي تتمكن، افتراضاً، من التصدي بصورة أفضل لأي توغل أو أفعال هجومية أخرى ضدّها. وقد ألمحت وسائل الإعلام الموالية للسلطة الفلسطينية، التي تُعتبر خصم حركة «حماس»، وغيرها من وسائل الإعلام العربية، بنبرة استياء، بأن إجراءات «حماس» تكشف عن سياسة الحركة الحقيقية تجاه إسرائيل والتي تنطوي على "هدنة تحت الطاولة"، كما وصفتها الصحيفة الرسمية اليومية للسلطة الفلسطينية في عددها الصادر بتاريخ 13 تشرين الأول/أكتوبر.
وعلى مستويات أقل شأناً، في مطلع شهر تشرين الأول/أكتوبر، أصدرت الصحيفة الرسمية للسلطة الفلسطينية، وبصورة يومية، مقالات استمرت في وصف الإرهابيين الفلسطينيين الذين قتلوا في المعارك على أنهم "شهداء"، بينما أشارت إلى أفعال الطعن والهجمات الفلسطينية الأخرى بمصطلح "العمليات"، وأصدرت بيانات صحفية تؤكد بالتفصيل تأييد وسائل التواصل الاجتماعي جرائم قتل المستوطنين. وقد نشرت الصحيفة مقالات افتتاحية تشمل تصريحات على النحو التالي: "لقد أسعدتني ابنتي عندما أبلغتني برغبتها في تنفيذ «عملية استشهاد لقتل بعض الجنود الإسرائيليين» ". إلا أن الصحيفة الرسمية المذكورة امتنعت عن إبداء تأييدها لتلك العملية تأييداً صريحاً.
أما وسائل الإعلام الموالية لحركة «فتح»، وأحياناً، القنوات التلفزيونية الرسمية التابعة للسلطة الفلسطينية، فقد بثّت تصريحات صادرة عن كبار المسؤولين في الحزب المذكور، بمن فيهم محمود العالول وسلطان أبو العينين، وغيرها من التصريحات التي تشيد صراحةً بأعمال العنف المنفّذة بحق المواطنين الإسرائيليين، واصفةً المستوطنين على أنهم "أهدافاً مشروعة". وفي 8 تشرين الأول/أكتوبر، أصدرت حكومة السلطة الفلسطينية بياناً لم تذكر فيه العنف الفلسطيني إنّما اتهمت اسرائيل بتنفيذ عمليات "قتل واغتيال بحق الأطفال والمواطنين العزّل...وعمليات إعدام بإجراءات موجزة وأعمال قتل بدم بارد". وفي الأيام القليلة الماضية، كرّر كبار المسؤولين في السلطة الفلسطينية، بمن فيهم صائب عريقات ونبيل أبو ردينة، تلك الاتهامات وأسهبوا في وصفها. وبينما يتم إرسال هذه المقالة للطبع والنشر، يقوم عباس نفسه بتكرار تلك الادعاءات الكاذبة في "خطابه الهام أمام الأمة"؛ [فقد قال أن الفلسطينيين ماضون في "الكفاح الوطني المشروع للدفاع عن النفس والمقاومة الشعبية السلمية". وحذر من أن استمرار "الإرهاب" الإسرائيلي "ينذر بإشعال فتيل صراع ديني يحرق الأخضر واليابس، ليس في المنطقة فحسب، بل ربما في العالم أجمع"، مشدداً على أنه "يدق ناقوس الخطر أمام المجتمع الدولي للتدخل الإيجابي قبل فوات الأوان"].
ومن أفضل الأمثلة عن الرسائل المختلطة الآنفة الذكر هي التصريحات التي جاءت من مصدر غير متوقع. ففي 11 تشرين الأول/أكتوبر، وفي رسالة خطية مفتوحة كُتبت في السجن ونُشرت في صحيفة الغارديان البريطانية، أكد مروان البرغوثي، أحد قادة حركة «فتح»، تأييده لحق الفلسطينيين "العزّل" في "مقاومة الاحتلال" واستنكر "الاعتداءات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين في المدينة [القدس] والأماكن المقدّسة عند المسلمين والمسيحيين". وفي مقطع آخر في الرسالة، أبدى البرغوثي أيضاً تأييده لحل الدولتين الدائم، دون أن يؤكد ذلك صراحة، من خلال التصريح بأن النزاع "لا يزال صراعاً سياسياً يمكن حلّه" وأن "اليوم الأخير من الاحتلال سيكون اليوم الأول للسلام". إلا أن هذه الرسالة ليست متوفرة سوى باللغة الانكليزية إذ لم يتم نشرها في أي مطبوعات عربية بارزة.
وفي الواقع، تعمد الصحف وقنوات التلفزيون الفضائية العربية إلى المبالغة في التركيز على أوجه التباين بين تلك التصريحات، علماً أن الاستفتاءات تظهر بأن الفلسطينيين يقرأون ويشاهدون وسائل الإعلام الفضائية العربية بالقدر نفسه على الأقل الذي يقرأون ويشاهدون وسائل الإعلام الخاصة بهم. على سبيل المثال، تعمد قناة "العربية" التلفزيونية التي تملكها السعودية أو صحيفتا "الشرق الأوسط" و"الحياة" إلى تقليل وقع الاعتداءات العنيفة الأخيرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين من خلال نشرها، كل يوم، مقالة رئيسية واحدة على الأكثر حول الصراع. وعلى نحو مخالف تماماً، تسعى قناة "الجزيرة" التلفزيونية التي تملكها قطر أو صحيفة "القدس العربي" إلى تأجيج مشهد "الانتفاضة" الجديدة، من خلال نشرها، يومياً، عن طريق عرض أو نشر ثلاث أو أربع مواضيع رئيسية حول الأزمة، بالإضافة إلى "تحاليل" مثيرة للفتن حول الموقف "الجبان" أو "الخائن" للسلطة الفلسطينية وحتى لـ «حماس» بسبب عدم توسيعهما دائرة العنف. وحتى اليوم، أكدت الجامعة العربية في بيان أصدرته بتاريخ 13 تشرين الأول/أكتوبر في القاهرة، تضامنها مع مواقف السلطة الفلسطينية تجاه "الاستفزازات الإسرائيلية ضد المسجد الأقصى"، مناديةً المجتمع الدولي بتوفير "الحماية الدولية للفلسطينيين"، عوضاً عن تأييد مواقف «حماس» الداعية إلى تنظيم عمليات "مقاومة مسلّحة" أكبر شأناً في القدس والضفة الغربية.
وبالعودة إلى التطورات في رام الله في تاريخ 11 تشرين الأول/أكتوبر، أفادت إحدى التقارير الصحفية الإسرائيلية بأنّ عباس اجتمع مع قادة «فتح» المسلَّحين من فصيل "التنظيم" ودعاهم إلى وقف تأجيج نار الفتنة. بيد، في هذه الأثناء، يتساءل بعض المحلّلين السياسيين عما إذا كان مطلب عباس سيحدث أي فارق مهم أو مذكور في ظل هذا المناخ المتقلّب، وخاصة بعد تراجع شعبيته ونفوذه السياسي الداخلي. وبالفعل، فكما أشار خبير استطلاعات الرأي الفلسطيني د. خليل الشقاقي، يطالب الآن ثلثي الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة باستقالة عباس.
التوقعات
في ظل غياب إجماع على رئيس جديد يخلف عباس، ومع سعي «حماس» وغيرها من الجماعات المتطرِّفة إلى الحل محل رئيس السلطة الفلسطينية، تبدو الإمكانية ضئيلة لظهور تصريحات فلسطينية داعية إلى إحلال السلام أو المصالحة، سواء في السيناريو الحالي أو السيناريو ما بعد ولاية عباس. ويبدو أن النهج السائد الذي تتبعه وسائل التواصل الاجتماعي المثيرة للفتن قد يطغى على الرسائل التي يحاول نقلها عباس، أياً كانت. وفي ظل هذا المناخ السياسي المشحون، على أيّ نداء رسمي بعدم اللجوء إلى العنف أن يقترن باتخاذ الإجراءات اللازمة على أرض الواقع كي يكون هذا النداء فعالاً.
ديفيد بولوك هو زميل كوفمان في معهد واشنطن ومدير "منتدى فكرة".