- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3232
التصعيد في العراق: كيفية الحد من الضرر وإعادة السيادة
في أعقاب قيام «كتائب حزب الله» («الكتائب») الشيعية المدعومة من إيران بتنفيذ 11 هجوم [ضد مواقع أمريكية] وتحذيرات واشنطن العديدة التي أعقبتها، ردت الولايات المتحدة أخيراً عسكرياً على هذه الميليشيا. ففي 29 كانون الأول/ديسمبر، قصفت الطائرات الحربية الأمريكية خمس قواعد تابعة لـ «كتائب حزب الله» في العراق وسوريا، مما أسفر عن مقتل 25 من أعضاء هذه الجماعة وجرح خمسين آخرين. وجاءت الغارة بعد يومين من إطلاق قوات «الكتائب» ثلاثين صاروخاً على قاعدة "K-1" العسكرية في العراق، مما أسفر عن مقتل مقاول أمريكي واحد وإصابة عدد من الجنود العراقيين والأمريكيين.
ورداً على القصف الأمريكي، قام أعضاء من «قوات الحشد الشعبي» ومؤيدون لها - وهي شبكة الميليشيات الحكومية التي تُعد «كتائب حزب الله» جزءً منها رسمياً - باقتحام أبواب مجمع السفارة الأمريكية في بغداد في 31 كانون الأول/ديسمبر. وتزعمهم مسؤولون عراقيون رئيسيون مثل مستشار الأمن الوطني فالح الفياض ورئيس «منظمة بدر» المدعومة من إيران، هادي العامري.
إن كل هذا التصعيد يلحق الضرر بالعراق، الذي يتسبب عجز حكومته [على احتواء الميليشيات] في تحميله مسؤولية العنف. فالهجوم على السفارة الأمريكية والرد الأمريكي المستمر يجب أن يمنحا لحظة صفاء للزعماء العراقيين أثناء اتخاذهم خياراً قاسياً بشأن مستقبل البلاد: بمعنى، هل سيختارون العزلة الدولية المماثلة لإيران، أو لنوع الدولة السيادية والفعالة التي يطالب بها المحتجون العراقيون ويموتون من أجلها منذ 1 تشرين الأول/أكتوبر؟ أما واشنطن فتواجه مأزقها الخاص - فعلى الرغم من أنه كان من الضروري القيام بعمل عسكري ضد «كتائب حزب الله» لردع طهران ووكلائها، إلّا أن تنفيذ هذا التصعيد دون اتخاذ تدابير سياسية ضرورية أخرى قد يعطي الميليشيات الموالية لإيران والنخب السياسية العراقية ذريعة لمواصلة تأخير الإصلاحات الحاسمة التي يطالب بها المتظاهرون في عشرات المدن.
السيادة الانتقائية للعراق
كانت الغارة الجوية الأمريكية أول عملية من نوعها ضد أهداف عراقية منذ عام 2011، لكن مع ذلك، كانت قيادة البلاد سريعة في إدانتها - حتى في الوقت الذي ظلت فيه صامتة في الغالب حول قتل وجرح جنود أمريكيين الأمر الذي استلزم القيام بهذه العملية في المقام الأول. وبعد أن هدد زعيم «كتائب حزب الله» أبو مهدي المهندس الولايات المتحدة بالانتقام، أصدر كل من مكتب القائد الأعلى للقوات المسلحة و"مجلس الأمن الوطني" للحكومة العراقية تصريحات قاسية ضد العملية وهددا بمراجعة الوجود العسكري الأمريكي بأكمله. كما ندد كل من الرئيس برهم صالح ورئيس البرلمان محمد الحلبوسي بالهجمات الجوية، على الرغم من أن تصريحاتهما المدروسة كررت أيضاً التأكيد على أهمية حماية المواقع الدبلوماسية وممارسة سيطرة الدولة على جميع الجماعات المسلحة من أجل تجنب مثل هذه الردود الأمريكية. وبالمثل، انضم الزعيم الشيعي آية الله علي السيستاني إلى عاصفة الإدانات بترديده إياها لكنه أشار إلى أن الضربة الأمريكية كانت "رداً على الأنشطة غير القانونية التي قامت بها بعض الجماعات".
وكانت الكلمة الأكثر انتشاراً في هذه التصريحات وغيرها هي "السيادة"، لكن سجل بغداد الخاص [في هذا المجال] جعل من المستحيل على واشنطن احترام السيادة الوطنية العراقية في هذه الحالة. ورغم أن وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبير لم يطلب إذن بغداد قبل أن يأمر بالضربات الجوية، إلا أنه أعطى رئيس الوزراء عادل عبد المهدي تحذيراً مسبقاً عن الغارة. بالإضافة إلى ذلك، وصف بيان صادر عن البنتاغون العملية بأنها دفاعية، وأشار "ممثل الولايات المتحدة الخاص" لشؤون إيران براين هوك بأنه تم إعطاء الأمر بشن الضربات بعد قيام الميليشيات الموالية لإيران بمهاجمة المواقع الأمريكية في العراق 11 مرة في الشهرين الماضيين وحدهما. وسابقاً، ضغط وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو ومسؤولون آخرون على بغداد مراراً وتكراراً للوفاء بالتزاماتها بحماية المستشارين العسكريين الأمريكيين المكلفين بتدريب قوات الأمن العراقية. وعندما أسفرت الهجمات التي نفذها وكلاء [إيران] أخيراً عن سقوط ضحية أمريكية في الأسبوع الماضي، أخذت واشنطن زمام الأمور بيدها.
وتكشف الضجة الناتجة عن ذلك عن اتجاه مزعج يمكن أن ينتهي به المطاف إلى تدمير الدولة: فكل من الحكومة العراقية والميليشيات الخارجة عن السيطرة مثل «كتائب حزب الله» انتقائية عندما تحترم وتُطبق مبدأ السيادة الوطنية. ومن الصعب التعامل بجدية مع الخطاب الصارم المناهض للولايات المتحدة الذي صدر على مدار الأربع وعشرين ساعة التي سبقت كتابة هذا المقال في ضوء عدم مبالاة الحكومة والصمت الذي دام شهوراً بشأن المليشيات التي تهاجم القواعد العسكرية العراقية، و "المنطقة الدولية" في بغداد، وأنابيب النفط السعودية. وبالمثل، لم يزعج أي مسؤول عراقي نفسه لدحض التقارير التي أفادت بأن القائد العسكري الإيراني قاسم سليماني قاد شخصياً حملة القمع ضد المتظاهرين العراقيين، والتي قُتل فيها أكثر من 500 شخص وجُرح أكثر من 20 ألفاً وخُطف الكثيرون منذ الأول من تشرين الأول/أكتوبر.
وبالمثل فإن الميليشيات الموالية لإيران انتقائية أيضاً فيما يتعلق بممارسة هويتها العراقية. فبعد أن فازت الأحزاب السياسية المرتبطة بها بمقاعد في الانتخابات البرلمانية عام 2018، قاومت العديد من هذه الميليشيات المساءلة أمام الدولة بحجة أنها جزءاً من حركة "مقاومة إسلامية" أكبر، على حد تعبير زعيم «عصائب أهل الحق»، قيس الخزعلي. ومع ذلك، ففي أعقاب الضربات الأمريكية على قواعد «كتائب حزب الله»، تصر «الكتائب» وجماعاتها الشقيقة على كونها منضوية ضمن «قوات الحشد الشعبي» وبالتالي تخضع لسلطة الجيش العراقي. وتريد «كتائب حزب الله» ان تكون في كلا الاتجاهين - العمل بشكل مستقل عن الدولة عندما يكون ذلك مناسباً لها، والإستناد على السيادة العراقية عندما تحتاج إلى الحماية. ومن هذا المنطلق، فإن إثارة الاحتجاجات المناهضة للولايات المتحدة في السفارة الأمريكية هي بديل أكثر أماناً لـ «كتائب حزب الله» من إطلاق الصواريخ. وحيث يقلّل مثل هذا التحوّل من مخاطر قيام الولايات المتحدة بشن ضربات انتقامية، فقد يساعد أيضاً «كتائب حزب الله» والجهات الفاعلة المماثلة على تغيير صورتها من مرتكبة جرائم إلى ضحايا، وتصوير أنفسها أساساً كحركات شعبية غاضبة بحق، ترقى إلى مستوى المتظاهرين الإصلاحيين في "ساحة التحرير".
ويبدو أن الزعماء السياسيين العراقيين قد وقعوا في الفخ الخطابي لـ «كتائب حزب الله»، بإدانتهم الضربات الأمريكية بوصفها اعتداء على «قوات الحشد الشعبي» بدلاً من كونها ضربات على عنصر مارق يخدم أجندة إيرانية عنيفة. ومقارنة بصمتهم في أعقاب هجمات الميليشيات التي قتلت رجال أمن عراقيين، فإن إظهار تعاطفهم مع «كتائب حزب الله» يبدو وكأنه إيماءة تعكس الخوف من طهران ومن الضغط الذي تمارسه على النخبة السياسية في العراق. كما أنه تناقض مخز للانتقادات الملفوظة الموجهة من قبل حركة الاحتجاج للميليشيات، التي أدت مغامراتها المدمِّرة نيابة عن إيران إلى خلق الخوف في صفوف المستثمرين الأجانب والتسبب في هجمات انتقامية.
ومع ذلك، فإن الرد من بغداد ليس سيئاً بالكامل. فكما ذُكر أعلاه، إذا قُرئت تصريحات الرئيس صالح وآية الله السيستاني بحذاقة مناسبة، فإنها تلقي اللوم على التصعيد الأخير بشكل مباشر على الميليشيات الجامحة وضعف الدولة المستمر. بالإضافة إلى ذلك، فإن إصدار إدانات شديدة للغارات الجوية يمكن أن يعطي المزيد من الجهات الفاعلة العراقية العقلانية بعضاً من التنفس السياسي، مما يمكّنها من الخروج من الموجة الحالية من الغضب المعادي لأمريكا دون الرضوخ للدعوات الإيرانية والجهات الوكيلة لها لرحيل القوات الأمريكية.
دعم الإصلاحيين ووقف التصعيد
قد تكون حركة الاحتجاج الوطنية التي بدأت بجدية في تشرين الأول/أكتوبر أقوى وسيلة متاحة لجعل الحكومة العراقية أكثر عرضة للمحاسبة حول قضية الميليشيات وغيرها من المسائل ذات الأهمية بالنسبة للولايات المتحدة. وقد ساعدت المظاهرات المستمرة في بغداد وجنوب العراق حتى الآن في الحد من تأثير الميليشيات والنفوذ الإيراني في بعض المناطق، مما أدى إلى تحوّل هيكل الحوافز لصالح القوميين العراقيين. ومن خلال إيماءات السيستاني والرئيس صالح، أدّت الاحتجاجات إلى إرغام رئيس الوزراء على الاستقالة وأعادت تصميم النظام الانتخابي. وفي جنوب البلاد، أصبح من النادر الآن رؤية علم يمثل الميليشيات أو أحزابها. وبالمقارنة، فإن المسيرة نحو السفارة الأمريكية هي شأن صغير نسبياً يهدف إلى صرف الانتباه عن الاحتجاجات الأكبر في "ساحة التحرير" وغيرها من المواقع.
ومع ذلك، ظل عبد المهدي رئيساً مؤقتاً للوزراء، وكلما طال شغله هذا المنصب، كلما كان من السهل على الميليشيات وضع أنصارها في مواقع السلطة. ففي الأسبوع الماضي، على سبيل المثال، قام بتعيين شخصية بارزة من «كتائب حزب الله» هو [الفريق الركن تحسين العبودي الملقب بـ ] أبو منتظر الحسيني في المنصب المسؤول عن أمن "المنطقة الخضراء". وبمجرد تعيينه في هذا المنصب المهم، سرعان ما سمح الحسيني لمثيري الشغب بالدخول إلى مجمع السفارة.
وإذا اختارت إيران وميليشياتها تصعيد الموقف إلى حرب شاملة بالوكالة على الأراضي العراقية، فسيؤدي ذلك إلى مزيد من تقويض فرص الإصلاحات الجادة ويزيد من تأثير إيران وميليشياتها على الحكومة. يجب على واشنطن حرمان إيران بشدة من هذا النفوذ، وإبقاء العبء على عاتق المسؤولين العراقيين لحماية العسكريين والدبلوماسيين الأمريكيين، وهو سبيلهم الوحيد المؤكد لتفادي هجمات انتقامية أمريكية في المستقبل.
وعلى نطاق أوسع، يجب على المسؤولين الأمريكيين إدراك القيود على متابعة سياسات محلية أكثر تركيزاً على مواجهة إيران من مساعدة العراق، لأن هذه المقاربة تُسهل في النهاية التأثير الإيراني. وبدلاً من ذلك، يجب على واشنطن مضاعفة دعمها المعلن للمحتجين العراقيين الذين يتحالفون ضد الفساد والمحسوبية الطائفية. ويستلزم ذلك مواصلة الضغط على المؤسسات العراقية الرسمية وغير الرسمية لحماية حقوق الإنسان والحفاظ على قدرة المواطنين على الاحتجاج. وتحقيقاً لهذه الغاية، ينبغي على الحكومة الأمريكية الإشارة إلى عقوبات إضافية وفقاً لـ "قانون ماغنيتسكي" تُفرض على المستويات العليا للطبقة السياسية، وكذلك مواصلة دعمها للإصلاح السياسي والاقتصادي بالتنسيق مع "الاتحاد الأوروبي" و "بعثة الأمم المتحدة للمساعدة في العراق" ("يونامي"). وإذا استمرت الجهود القمعية داخل العراق، فينبغي على واشنطن إيجاد طرق مبتكرة لمساعدة الإصلاحيين على إسماع أصواتهم بشكل أفضل.
وأخيراً، إذا كان الضغط الإيراني أو العاطفة المحضة يدفعان بغداد إلى المطالبة بإنهاء مهمة بعثة التدريب العسكري الأمريكية، يجب على واشنطن التواصل بوضوح مع المواطنين العراقيين وصناع القرار حول كيفية تسبب هذه الخطوة بتعريض أمنهم واقتصادهم للخطر. فالعراق ما زال بحاجة الى مساعدة أمنية من الولايات المتحدة لدرء تنظيم «الدولة الإسلامية» المنبعث من جديد. بالإضافة إلى ذلك، يتم حالياً تلبية احتياجات العراق من الطاقة بالغاز الطبيعي الإيراني، الذي لا تستطيع العراق شراءه بدون إعفاءات العقوبات الأمريكية. وربما الأهم من ذلك هو اعتماد الاستقرار المالي للبلاد على عائدات بيع النفط المحمية من قبل "البنك الاحتياطي الفيدرالي" في نيويورك. وكل هذه المصالح واضحة للعديد من القادة العراقيين، الذين قد يكونون على استعداد للوقوف في وجه الضغوط الإيرانية من أجل حماية هذه المصالح - خاصة وأنه من المرجح أن تحذو الدول الأخرى حذو الولايات المتحدة إذا خفضت واشنطن علاقاتها الدبلوماسية. وعلى الرغم من بذل المسؤولين العراقيين قصارى جهدهم قانونياً وسياسياً لإبقاء معاداتهم لأمريكا في عالم الخطابة المحضة في السنوات الأخيرة، إلا أن ذلك قد لا يكون كافياً بعد الآن في أعقاب إراقة دماء أمريكية. وفي الوقت نفسه، لا يزال بعض القادة العراقيين حذرين من التقلّبات في سياسة الولايات المتحدة كما شوهد في سوريا المجاورة، لذلك ينبغي على واشنطن توخي الحذر في تجنب تقديم الوعود (أو إلقاء التهديدات) التي هي غير مستعدة للوفاء بها.
بلال وهاب هو "زميل واغنر" في معهد واشنطن.