- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 2562
الوضع الأيديولوجي (الأوضاع الأيديولوجية) في الشرق الأوسط: مقدمة
"في كانون الثاني/يناير 2016، وبرعاية معهد واشنطن عُقدت ورشة عمل حول التحديات التي تواجه سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، والتي تطرحها الاتجاهات الجديدة في الأيديولوجية السياسية. وهذا المرصد السياسي هو الأول في سلسلة من المساهمات الخطية المقدمة من قبل المشاركين".
في الشهر الماضي، وفي الذكرى الخامسة لبداية "الربيع العربي"، اجتمع خبراء "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى" بأعضاء مدعوّين من الحكومة والجهات الأكاديمية لمناقشة كيفية تغيّر عملية انخراط الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بناءً على الصدى الجديد من الأيديولوجية السياسية. يُذكر أن هذه هي أول ورشة عمل ضمن سلسلة من عدّة ورشات تُعقد وفق قاعدة "تشاتام هاوس" للمناقشات السياسية، والتي تسلط الضوء على الاتجاهات الإقليمية الناشئة وآثارها على السياسات. أما الاجتماع المقبل، الذي سيعقد في الصيف، فسيعالج موضوع الطائفية. فيما يلي الأفكار الرئيسية من الاجتماع المرتبطة بشكل خاص بالسياسة الخارجية الحالية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وتمشياً مع قاعدة "تشاتام هاوس"، هذه الأفكار غير منسوبة، وبالتالي ليست سوى تفسيراً للنقاط التي أثيرت. لذا فإن أي خلل في الدقة أو أي أخطاء تبرز في هذا السياق تقع على عاتق الكاتب وحده.
صدى الأيديولوجيات السياسية الإسلامية
تمحورت فكرة جوهرية مفادها أن عدد من الجماعات الأكثر عنفاً، وخاصة تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش»)، لا ترغب في شعبية واسعة ولا تتمتع بها في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وفي الوقت نفسه، يواجه المحللون صعوبات في فهم كيفية نظر الجماعات إلى العلاقة بين الدين والسياسة. وعلى وجه التحديد، بينما تُعتبر المداخيل والخدمات الاجتماعية أكثر أهمية عادة للمجتمعات المحلية من الأيديولوجيا، يرى العديد من الأشخاص أن الدين يتناسب مع حياتهم، على الرغم من أن نظراتهم ربما تكون بطرق مختلفة. مثال على ذلك هو شعبية الشريعة الاسلامية، في بعض الدول، والتي قد لا تتعارض بالضرورة مع الأشكال الديمقراطية للحكومات وقد تكون ذات طبيعة شخصية فقط وليست سياسية.
ويبرز تنظيم «الدولة الإسلامية» بعدد من الطرق فيما يتعلق بجاذبيته ونواياه، لاسيما عدم اهتمامه باستقطاب الجمهور العربي (وبدلاً من ذلك يسعى إلى جذب أولئك الذين يشاركونه أفكاره فقط)، وعدم اهتمامه في الاستيلاء على الدول القائمة (بل بالأحرى الاستيلاء على الأراضي). ومن المفارقات، أنه في حين لا يتمتع التنظيم بجاذبية كبيرة في صفوف العديد من المجتمعات في الشرق الأوسط، فإن صدى رسالته يصل إلى بعض الجماعات في أوروبا. وبينما يتمتع «داعش» بموارد وقدرات تتعدى تلك الخاصة بتنظيم «القاعدة»، فإن صفات تنظيم «الدولة الإسلامية» القائمة على عزل الذات تشكل أيضاً نقطة ضعف له.
وبسبب وجهة النظر المختلفة للأيديولوجية بين السكان المحليين والجماعات التي تعتمد العنف، يجب على السياسة الأمريكية أن تكون دقيقة وثابتة في استخدام المصطلحات. ولا بد من الإشارة إلى الأهمية الخاصة لواقع أن جذور طبيعة الصراعات الإقليمية أعمق من مجرد تنافس بين السنّة والشيعة، وأنه بينما يستخدم الغربيون مصطلح "التطرف العنيف" لوصف تنظيم «الدولة الإسلامية»، إلا أن أياً من عناصره لا يعتقد أنه ينضم إلى مجموعة "متطرفة عنيفة". إلى جانب ذلك، وفيما يتجاوز إطار المعركة ضد أعداء الولايات المتحدة، ينبغي على واشنطن أن تكون دقيقة بالقدر نفسه في مصطلحاتها عند التواصل مع الأصدقاء، وخاصة مع الشركاء المسلمين المحليين والإقليميين.
إن نجاح المعركة التي تخوضها الولايات المتحدة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» في ساحة القتال يعتمد على كيفية نظر الشركاء الإقليميين إلى هذا التهديد وإلى علاقة الولايات المتحدة به. وفيما يتعلق بالتهديد، فإن إيقاف نشاطات التنظيم يشكل، بالنسبة إلى جميع هؤلاء الشركاء، أولوية ثانية، بينما تعتبره الولايات المتحدة أولويتها الأولى. أما في ما يخص علاقة الولايات المتحدة به، فإن غياب استراتيجية أمريكية في سوريا، إلى جانب الاتفاق النووي الإيراني، يعملان على إدامة الصورة التي تعكس تحالف الولايات المتحدة مع إيران ووكلائها.
الجماعات الإسلامية في مجالات سياسية جديدة
أما بالنسبة إلى الجماعات الإسلامية العاملة في إطار المجالات السياسية القائمة، لاسيما في مصر وتونس وتركيا، فإن الأساليب التي تتبعها والرسائل التي تنشرها، والتي كانت هي السبب وراء صعودها، تؤدي اليوم إما إلى تهميشها أو إلى إجبارها على إعادة التفكير في استراتيجياتها. إذ إن فشل جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر يعود بشكل جزئي إلى أن الجماعة كانت تركز جداً على الشريعة كشعار بدلاً من التدخل الموضوعي [الجوهري]. وفي المقابل، فإن السلفيين هم الذين أمضوا العقود الماضية يحددون تدخلهم الموضوعي بناءً على الشريعة ولكنهم كانوا يفتقرون إلى الشعارات السياسية، الأمر الذي يسمح لهم اليوم بالتنقل في بيئة معادية للجماعات الإسلامية في مصر.
وعلى النقيض من ذلك، حدّ الإسلاميون في تونس وتركيا من تركيزهم على تطبيق الشريعة، ولكن هذه المرة بسبب السياق الإقليمي والمحلي، لأسباب مختلفة وتأثيرات مختلفة. ففي تونس، اختار حزب «النهضة» اتباع مقاربة أكثر شعبية في السياسة، في حين أن السلفيين الأكثر تحفظاً، والذين يحظون بدعم شعبي بنسبة 15 في المائة تقريباً، تحركوا بشكل متزايد نحو الجماعات الجهادية المحلية. وفي تركيا، لم يدعُ الإسلاميون إلى تنفيذ الشريعة لأن ذلك غير قانوني، استناداً على حظر التعبيرات الدينية في المجال السياسي الذي فرضه مؤسس الجمهورية التركية، مصطفى كمال أتاتورك. ومع ذلك، لا يزال المجتمع التركي مجتمعاً دينياً، فوفقاً لاستطلاعات "مركز بيو للأبحاث"، فإن 30 إلى 40 في المائة من الأتراك يعتبرون أنفسهم شرق أوسطيين ومسلمين في المقام الأول. وفي الواقع، تبرز في هذا الإطار جهود تهدف إلى إعادة صياغة الدستور.
وفي حالة تركيا، يركز أحد الأسئلة الهامة أيضاً على ما إذا كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نفسه مهتماً في أخذ البلاد في اتجاه أكثر إسلامياً، كما أنه من غير الواضح حتى الآن ما إذا كانت لتصريحاته أي آثار على أرض الواقع وإلى أي مدى وصلت هذه الآثار. وأشهر هذه التصريحات تشبيهه للديمقراطية بحافلة يمكنك الخروج منها بمجرد وصولك إلى وجهتك. فعندما خاض أردوغان انتخابات رئاسة الوزراء للمرة الأولى عام 2002، ترشح على منصة الحوكمة الاقتصادية وليس بناءً على مبدأ تنفيذ الشريعة، وقد شهدت فترة ولايته تمكين أحزاب يمين الوسط وتهميش الأصوات السياسية المعتدلة.
إن الاختلافات المماثلة لتلك المتجلية بين الوضع في مصر وتونس وتركيا تؤثر على ديناميكية الحزب وعلاقاته بالناخبين والنظام السياسي. ففي حين أن جماعة «الإخوان المسلمين» اكتسبت جانب الانضباط في مصر قبل "الربيع العربي"، وذلك جزئياً لأنه تم استبعادها من السلطة، ألا أن الوضع مختلف في تونس وتركيا، حيث تم إشراك الأحزاب الإسلامية في النظام الانتخابي؛ فحزب «النهضة» و «حزب العدالة والتنمية» الذي يتزعمه أردوغان طوّرا برامج فعلية للإصلاح الاجتماعي والاقتصادي، وحصلا على أصوات من غير الإسلاميين من كافة فئات المجتمع.
الدول واستخداماتها الجديدة للأيديولوجية
في إيران، لا تزال سياسات القوة نابضة بالحياة، كما أن قدراتها تأثرت بكل من المفكرين المتطرفين السنّة مثل سيد قطب (الذي توفي عام 1966) وبتسييس المبادئ الشيعية مثل الإمامة. وقد كانت الأيديولوجيا السياسية الإيرانية، وإلى حد أكبر مما كانت عليه في التجربة السنية، مرادفة تقريباً للعلوم الدينية، على الرغم من أن الإجراءات الحكومية مفروضة بإطار يتعدى الأيديولوجيا وحدها. وعلاوة على ذلك، حتى لو تراجع تأثير الفكر السياسي، لا بد لنا أن نتذكر أن المجتمع الإيراني لا يزال مجتمعاً دينياً، حتى بينما تكون ثقة الجيل الحالي بالمرجعيات الدينية الرسمية أقل بكثير مما كانت عليه في الجيل السابق. بالإضافة إلى ذلك، فإن علاقة رجال الدين مع الحكومة تعقدت بشكل خاص منذ اندلاع الثورة، مع ازدياد الاستقلالية المالية لرجال الدين، حيث اقام العديد منهم أعمالهم الخاصة، ولكن أكثر اعتماداً على الصعيد السياسي.
وتقوم السياسة الخارجية الإيرانية على تحالفات معادية للغرب، كما أن صناعة القرار فيها، سواء من حيث القضايا المحلية أو الخارجية، تعود إلى مؤسساتها السياسية الفريدة بقدر ما تعود إلى الشخصيات المعنية. وأمام هذا الواقع، سيكون من الصعب جداً استبدال المرشد الأعلى البالغ من العمر 75 عاماً بشخصية يمكنها إضفاء الطابع المركزي على السلطة كما فعل. أضف إلى ذلك أن المنظمات الكبيرة في الوقت الحالي، و «فيلق الحرس الثوري الإسلامي»، لم تعد رهينة الحكومة كما كانت إلى حد كبير قبل ثلاثين عاماً. وتشير هذه الخلافات السياسية بين الحين والآخر إلى أن أي ابتزاز من الحكومة سيشكل أزمة في القيادة، خصوصاً وأن هيكلية الحكومة الحالية قد بُنيت رداً على النظام الملكي. وبالتالي، فإن إحدى النتائج المحتملة هي إمكانية اختيار آية الله أضعف من الحالي للتمتع بالسلطة إسمياً وكون المنظمات الكبيرة في البلاد الدافع للقرارات السياسية.
يعقوب أوليدورت هو زميل "سوريف" في معهد واشنطن.