- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
إقالة مدير المخابرات الجزائرية: هل هي بداية مرحلة جديدة من تاريخ الجزائر؟
أثار القرار الذي صدر في 13 أيلول/سبتمبر بإقالة رئيس المخابرات الجزائرية الأسبق الفريق محمد مدين، المعروف بــ "الجنرال توفيق" صدمة بين أوساط الجزائريين. ويجادل السياسيون ووسائل الإعلام حالياً، حول دلالات هذه الإقالة وأسبابها.
إن السؤال الأبرز في المشهد السياسي الجزائري اليوم، هو كيف تمكّن الرئيس بوتفليقة من التوقيع على قرار الاحالة على التقاعد لشخص كان يعتبر قبل هذا التاريخ بأنه "صانع الرؤساء" و "رب دزاير" أي رب الجزائر، في إشارة إلى تأثيره ونفوذه وتحكمه في مقاليد الحكم في البلاد.
وحتى بعد قيام وسائل الإعلام الجزائرية ببث الخبر بأن الرئيس بوتفليقة قد أحال الجنرال توفيق إلى التقاعد، كان الجزائريون الذين فوجئوا بهذه الأخبار مترددين في قبول صحة هذه المعلومات، إلى أن صدر بيان من قبل الرئاسة وضع حداً لحالة الشك والارباك.
لقد فوجئ الجزائريون من إقالة "الماجور" أي الجنرال بسبب الهالة التي كان يتمتع بها. فمنذ توليه إدارة جهاز المخابرات، أحد أقوى الأجهزة الأمنية في الجزائر، وأرعبها على الإطلاق، لم يظهر الجنرال توفيق أمام وسائل الإعلام، ولم يدلي بأي تصريحات علنية على مدار ربع قرن. ويجهل الجزائريون حتى صورته الشخصية، حيث لم تظهر منها سوى صورة واحدة ذات جودة رديئة.
وحتى وقت قريب جداً، كان الجزائريون يؤمنون بأن الفريق توفيق هو الذي يعين الرؤساء والوزراء، ويختار من يريده في مختلف الأماكن الحساسة في البلاد. وكان يُعتقد أنه لا يمكن تعيين أي شخص في أي منصب حكومي إلا إذا حصل على رضا "جهاز المخابرات الذي يترأسه توفيق المعروف باسم (DRS) الدياراس."
ويتساءل الجزائريون كيف تمكن بوتفليقة من وضع حد لنفوذ توفيق، وهو في حالة صحية معتلة تمنعه من الظهور أمام الجمهور، أو مخاطبة الشعب الجزائري. وكان الرئيس بوتفليقة قد أكد خلال ولايته الرئاسية الأولى في عام 1999 بأنه لن يرضى أن يكون رئيساً لولاية ثالثة، وأنه سيعيد جميع الصلاحيات الدستورية للدولة. بيد، لم يتمكن من تحقيق ذلك طوال فترة رئاسته التي دامت خمسة عشر عاماً وهو في كامل صحته، لذا فإن الخطوة التي اتخذتها الحكومة ضد توفيق هي أكثر إلفاتاً للنظر والتأمل.
ومع ذلك، أظهرت عدة مؤشرات أن تأثير "الماجور توفيق" بدأ مؤخراً في التراجع. وكانت أول علامة على ذلك هي الرسالة التي بعث بها النائب السابق لرئيس شركة "سوناطراك" النفطية حسين مالطي، والتي نُشرت في صحيفة "الوطن" الجزائرية اليومية الناطقة بالفرنسية. وفي تلك الرسالة، وصف مالطي الجنرال توفيق بــ "رب دزاير"، وتحدى اللواء توفيق بكشف الفساد المستشري في سوناطراك والفرع الجزائري لشركة "ايني" الإيطالية. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يهاجم فيها شخص رئيس المخابرات بصورة علنية. وحتى أكثر ما يُصدم في الأمر هو نشر الرسالة في صحيفة جزائرية.
وكان المؤشر الثاني بعد عودة الرئيس بوتفليقة من رحلة علاجه في المستشفى العسكري "فال دوغراس" في فرنسا في حزيران/يونيو/جوان 2013. وعند عودته، أصدر الرئيس قراراً يقضي بإلحاق مجموعة من مديريات المخابرات برئاسة الأركان، الأمر الذي أضعف من سيطرة توفيق على المخابرات.
وجاء المؤشر الثالث عشية الانتخابات الرئاسية حينما هاجم عمار سعداني أمين عام "جبهة التحرير الوطني" (حزب بوتفليقة الذي يتمتع بأغلبية برلمانية)، الجنرال توفيق بشكل غير مسبوق، مدعياً أن الجنرال فشل في أداء مهامه. وقد أثارت تلك التصريحات موجة جدل غير مسبوقة، وفتحت فصلاً جديداً في العلاقة بين مؤسستي الرئاسة والمخابرات، قائماً على صراعهما بشأن احتمال ترشح بوتفليقة لولاية رئاسية رابعة. وقد مرت تصريحات سعداني دون عقاب، مما يشكل دليل إضافي على أن سيطرة توفيق كانت في تراجع.
والمؤشر الرابع والأقوى هو متابعة عبد القادر آيت عراب، أو الجنرال حسن قضائياً ووضعه في السجن العسكري في 26 آب/أغسطس/اوت. وكان حسن أحد قيادات المخابرات المكلف بملف مكافحة الإرهاب. وكانت هذه آخر حلقة في مسلسل من الإجراءات تهدف إلى إضعاف جهاز المخابرات، بعد أن تم الحاق أغلب مديرياته بقيادة الأركان، مع إحالة العديد من قيادته على التقاعد.
وبالتالي، فإن قرار إحالة الجنرال توفيق على التقاعد كان تتويجاً متوقعاً للأحداث الأخيرة، الأمر الذي يشير إلى ضعف مكانته ومكانة جهاز المخابرات بشكل عام. ومع ذلك، كان للاستقالة تأثير الصاعقة على الجزائريين، وعلى الطبقة السياسية التي ما تزال في حالة إرباك، وتتعامل بحذر مع هذا التغيير.
والسؤال الذي يشغل فكر الجزائريين هو: ما الذي سيحدث بعد إقالة "توفيق"؟ ولماذا أقيل؟ هل الأمر مرتبط بتصفية حسابات بعد أن عارض توفيق، حسبما أشيع، ترشح بوتفليقة لولاية رئاسية رابعة، وبعد أن كشف جهاز المخابرات تحت رئاسته، ملفات فساد تورط فيها مقربون من الرئيس بوتفليقة، مثل وزير الطاقة الأسبق شكيب خليل؟ وهل لدول أجنبية، وفرنسا على وجه الخصوص، دور في الموضوع، خاصة وأن القرار جاء بعد أيام قليلة من زيارة قام بها رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي جيرار لارشي إلى الجزائر؟
يؤكد مقربون من الحكومة وعلى رأسهم سعداني، ومدير ديوان رئاسة الجمهورية أحمد أويحي أن هذه التغييرات التي طالت قطاع الاستخبارات تدخل في إطار تحديث الحياة السياسية، وتهدف إلى وضع حد لدور المخابرات النافذ في المشهد السياسي في البلاد. إلا أن الجزائريون بشكل عام، ومثلهم مثل الطبقة السياسية ينظرون بعين الريبة للأمر، ويعتقدون أنه مرتبط بصراع مصالح وبسط نفوذ حول السيطرة على البلاد.
وتم تقديم عدة فرضيات كبدائل للرأي القائل أن توفيق ترك منصبه بسبب النزاع مع الرئاسة. وقد يكون الجنرال نفسه قد طلب التقاعد بحكم كبره في السن، ووسط تردد حديث عن عدم قدرته على إدارة جهاز المخابرات بسبب مرضه. إن الاجتماع الذي عُقد بين كبار ضباط المخابرات في مقر المخابرات بحضور توفيق والمدير الجديد الجنرال عثمان طرطاق، يعطي الانطباع بأن الإستقالة حدثت بشكل سلس، وتم التوصل إليها بتوافق بين مختلف الأطراف.
ومن ناحية أخرى، قد يكون الجنرال توفيق قد استسلم للأمر الواقع بعد أن تم تجريده من رجاله، وإدراكه بأنه قد تم إضعاف نفوذه. وفي هذه الحالة، فإن جناح الرئاسة يكون قد وضع حداً لهيكل الحكومة المتقلب، وهي السمة التي ارتبطت بطبيعة نظام الحكم في الجزائر منذ استقلالها، حيث تنافست العناصر العسكرية والمدنية للحكومة من أجل الحصول على المزيد من السلطة من الفرع الآخر.
بالإضافة إلى ذلك، فإن التحول بعيداً عن تأثير أجهزة الاستخبارات لا يمكن فصله عن تأثير الدول الأجنبية، وخاصة فرنسا. وتسعى الحكومة الفرنسية إلى الحفاظ على مصالحها في الجزائر مقابل المنافسة الأمريكية الشرسة، وخاصة مصالحها في قطاعات الطاقة.
ويتساءل الجزائريون الآن عما إذا كان رحيل الجنرال توفيق سيخرج البلاد من الأزمات المتعددة التي تعاني منها. والأمر الأكثر أهمية هو أن الجزائر تعاني من تهديد الاقتصاد المنهك والمهدد بسبب تراجع أسعار النفط في الأسواق العالمية، ذلك أن الجزائر تعتمد على عائداتها من تصدير النفط التي توفر 98 في المائة من دعمها الاقتصادي.
وينبغي التأكيد على أن الجنرال توفيق لا يتحمل وحده وزر الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي الهش للجزائر. وعوضاً عن ذلك، إن هذا الوضع هو جزء من النظام السياسي والعسكري الذي حكم البلاد منذ الاستقلال. لذلك فإن رحيله لا يشكل تحولاً كبيراً في منظومة الحكم التي أوصلت البلاد إلى حالة من الشلل في جميع المجالات.
ومع ذلك، فإن رحيل "توفيق" يمنح فرصة ذهبية للجزائر من أجل تحقيق انتقال ديمقراطي سلس، في ظل عدم وجود صراع قطبي في أعلى هرم السلطة.
وفي المستقبل المنظور، قد تشهد البلاد الكشف عن مسودة جديدة للدستور الجزائري، مع التعديلات والآثار المترتبة على التغييرات المحتملة في العديد من المؤسسات السيادية.
هذه هي مرحلة حساسة بالنسبة للجزائر، في ظل التحديات الاقتصادية والأمنية الخطيرة التي تواجه البلاد محلياً واقليمياً. لذلك، فإن الحفاظ على استقرار المؤسسات الأمنية والسيادية على السواء هو أمر ضروري من أجل تجنب أي ارتدادات قد تساهم في تعميق الأزمة المركبة التي تعاني منها البلاد، وهو ما يؤجل الانتقال الديمقراطي في الجزائر إلى نقطة مجهولة في المستقبل.
ياسين بودهان هو صحفي جزائري. وقد تم نشر هذه المقالة في الأصل على موقع "منتدى فكرة".
"منتدى فكرة"