- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 2680
استدامة كردستان السورية والاستراتيجية الإقليمية لـ «حزب العمال الكردستاني»
على الرغم من أنه لا يزال من الصعب التنبؤ بمستقبل سوريا ككل، إلا أن وجود منطقة كردية تتمتع بحكم ذاتي على نحو متزايد على طول الحدود الشمالية للبلاد أصبح أمراً واقعاً. وحالياً، لا تزال حدود "منطقة الإدارة الكردية في شمال سوريا" (روجآفا/"كردستان السورية" أو غرب كردستان) غير واضحة وقد تختلف عن تلك التي يزعمها رسمياً «حزب الاتحاد الديمقراطي» الكردي السوري. ومع ذلك، تُظهر الجهود التي يبذلها الحزب لتوسيع مقاطعاته ودمجها التزاماً راسخاً في جمع أكراد سوريا ضمن دويلة قابلة للبقاء اقتصادياً تمتّد على مسافة ملفتة من البحر الأبيض المتوسط، وهو احتمال من شأنه أيضاً أن يسرّع تحقيق أهداف «حزب العمال الكردستاني» - منظمته الأم في تركيا.
انقر على الخريطة لعرض نسخة عالية الدقة.
السكان الأكراد بالكاد يشكلون أغلبية في كردستان السورية
واصل «حزب الاتحاد الديمقراطي» توسيع أراضيه منذ الانتصار الذي حقّقه في كوباني (أو عين العرب) في كانون الثاني/يناير 2015. وجاء معظم هذا التوسّع على حساب تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش»)، ولكن الأكراد استولوا أيضاً على مناطق تابعة لمتمرّدين آخرين في ممر أعزاز (انظر "القوات الكردية تدعم الأسد في حلب")، وللجيش السوري في الحسكة. وتتمتّع هذه المناطق بأهمية استراتيجية حتى وإن كان حجمها الصغير لا يتجاوز بضعة كيلومترات مربّعة؛ فالحسكة على سبيل المثال، هي عاصمة المحافظة، وبالتالي تضطلع كافة الأحياء التي تمت السيطرة عليها هناك بأهمية كبرى.
وانطلاقاً من مناطق عفرين وكوباني والقامشلي الكردية بامتياز، أقدَمَ «حزب الاتحاد الديمقراطي» على غزو أراضٍ يختلط فيها السكان بين عرب وأكراد وحتى بعض المناطق غير الكردية. ويكمن الهدف النهائي للحزب في إقامة اتصال جغرافي بين معاقله الكردية، وقد عزّز ذلك بسيطرته على تل أبيض في ربيع عام 2015 ومنبج في وقت سابق من هذا الشهر (في الواقع، أن «قوّات سوريا الديمقراطية» العربية الكردية هي التي شنت هجوم منبج إلاّ أنّ الأكراد هيمنوا على التحالف). وكان الأساس المنطقي وراء غزو الشدادي في محافظة الحسكة الجنوبية غير الكردية في شباط/فبراير، هو السيطرة على آبار النفط القريبة، وقطع الطريق بين الموصل والرقّة على تنظيم «الدولة الإسلامية».
انقر على الخريطة لعرض نسخة عالية الدقة.
يسيطر اليوم «حزب الاتحاد الديمقراطي» على أرض يعيش فيها حوالى مليوني نسمة، ولكن 60 في المائة منهم فقط من الأكراد (انظر المرصد السياسي 2528، "التطهير العرقي يهدّد وحدة سوريا"). ويشكّل الأكراد في مقاطعة الجزيرة الشرقية ومقاطعة كوباني المركزية أغلبية ضئيلة من السكان (55 في المائة). وتبلغ نسبة الأكراد في منطقة عفرين الغربية (تقسيم إداري رسمي سوري) 100 في المائة تقريباً من السكان، لكنّ خرائط كردستان السورية التابعة لـ «حزب الاتحاد الديمقراطي» تشير إلى أن "مقاطعة عفرين" ستضم في النهاية أعزاز وجرابلس والباب الشمالية ومناطق منبج الشمالية، وستؤدي هذه النتيجة إلى تخفيض نسبة السكان الأكراد إلى نحو 30 في المائة. ومن المفترض ألا يحاول «حزب الاتحاد الديمقراطي» غزو أراضي أعزاز وجرابلس العربية والتركمانية في الأشهر القليلة المقبلة، نظراً لأنها تتمتّع بأولوية استراتيجية منخفضة في الوقت الحالي وتُعتبر مناطق حسّاسة جداً بالنسبة لتركيا؛ ففي 23 آب/أغسطس فقط، شنّت أنقرة عمليات عسكرية جديدة في منطقة جرابلس.
ولأسباب ديمغرافية واستراتيجية، لا يرغب الأكراد في مهاجمة الرقّة، عاصمة ما يسمّى بـ "خلافة" تنظيم «الدولة الإسلامية»، على الأقل ليس قبل أن يتمكنوا من ربط عفرين بكوباني. وإذا ما بدأ تنظيم «الدولة الإسلامية» يشكل خطراً على كردستان السورية من الرقّة، قد يشنّ الأكراد هجوماً هناك كما فعلوا في الشدادي عندما هدّدت قوّات محلية تابعة لتنظيم «الدولة الإسلامية» [مدينة] الحسكة. إلا أنّ عدد سكّان الشدادي أقل بخمس عشرة مرة من سكان الرقة، وبالتالي فمن المرجح أن تكون الحسابات مختلفة.
انقر على الخريطة لعرض نسخة عالية الدقة.
تطهير عرقي؟
كلما وسّع «حزب الاتحاد الديمقراطي» أراضيه، كلما تعيّن عليه إدماج السكان غير الأكراد. وينطبق ذلك في منطقة منبج بشكل خاص، بين نهر الفرات وعفرين، حيث يشكّل الأكراد أقل من ربع السكان. ولكن، يبدو أن «حزب الاتحاد الديمقراطي» متمسّك بهدفه المتمثل بربط المقاطعات، ويرى قادة الحزب أنه يمكن لمختلف الجهود المبذولة لفرض الطابع الكردي عليها أن تساعد على ضم شريحة كبيرة من السكان تحت رايتهم. وتشير أسماء القرى والخرائط المنشورة في عهد الانتداب الفرنسي إلى أن نسبة كبيرة من السكان المحليين المصنّفين رسمياً على أنهم عرباً لديهم في الواقع أصول كردية. ونظراً لهيمنة «حزب الاتحاد الديمقراطي»، قد يختار هؤلاء الأكراد الناطقين باللغة العربية الحلّ الملائم الكامن في العودة إلى جذورهم الكردية. فضلاً عن ذلك، قد تتغيّر التركيبة السكانية إلى حدّ كبير في المنطقة إذا لم يعد اللاجئون العرب الذين كانوا يعيشون هناك؛ وهناك احتمال أكبر بعودة اللاجئين الأكراد نظراً لتعاظم نفوذ «حزب الاتحاد الديمقراطي». وينطبق ذلك بشكل خاص على قطاع تل أبيض حيث لم يعد مرحّباً بالعرب الذين ساندوا تنظيم «الدولة الإسلامية».
وللأسف، قد يختار الأكراد أيضاً التغلّب على ضعفهم الديمغرافي في بعض أجزاء كردستان السورية من خلال الانخراط في تطهير عرقي أو التحالف مع قبائل عربية ترغب في الوقوف إلى جانب اللاعب الأقوى من أجل الانتقام. فعلى سبيل المثال، إن العديد من القبائل لا تريد شيئاً سوى القضاء على أخصامها الذين ساندوا تنظيم «الدولة الإسلامية»؛ وهذه هي استراتيجية قبيلة شمّر التي يرأسها الشيخ حميدي دهام الهادي في جنوب شرق الحسكة. ويأمل أيضاً «حزب الاتحاد الديمقراطي» جذب عدد من الأكراد الذين يسكنون حالياً في دمشق وحلب والبالغ عددهم مليون كردي. ولكن، لتحقيق ذلك، سيحتاج إلى تحسين الوضع الاقتصادي السيء في كردستان السورية.
ندرة المياه
قبل الحرب، تعمّد نظام الأسد الإبقاء على تخلّف المناطق الكردية، وذلك أساساً كوسيلة لتحفيز الأكراد على الهجرة إلى المدن الكبرى حيث يمكن تعريبهم بسهولة أكبر. وبالمثل، جرى التعامل مع منطقة الجزيرة كنوع من "مستوطنة داخلية" مكرسة فقط لإنتاج الحبوب والقطن. واليوم، لا تزال الزراعة هناك تقليدية جداً وتعاني بدرجة كبيرة من ندرة المياه منذ مطلع القرن. فقد أدى الاستهلاك المفرط للمياه على الجانب التركي من الحدود إلى تخفيض الإمدادات في شمال سوريا، ولم يقم نظام الأسد بأي محاولة جادّة لحلّ هذه المشكلة. وخلافاً لوادي الفرات حيث يحصل المزارعون على كميات وافرة ورخيصة من المياه بفضل مشاريع الريّ الحكومية، تعتمد مزارع الجزيرة على مياه الآبار الخاصة. وفي السنوات التي سبقت الحرب، تسبّب الجفاف وارتفاع سعر وقود المضخّات الآلية بثلاثة أضعاف بانخفاض كبير في المساحات المزروعة في الحسكة (انظر المرصد السياسي 2622، "قضايا المياه ذات أهمية حيوية لاستقرار "وادي الفرات" في سوريا").
لقد جرى التخطيط لمشروع ري واسع النطاق على نهر دجلة لكي يتم تنفيذه في عام 2008، لكنّ غياب الإرادة السياسية في دمشق واندلاع الانتفاضة في النهاية منعا تنفيذه. وبعد الحرب، قد تشكّل ندرة المياه المشكلة الرئيسية التي تواجهها كردستان السورية لأن الزراعة هي مصدر الدخل الرئيسي للسكان المحليّين. وحتى لو أعطى المسؤولون الأولوية لمحطّة ضخ نهر دجلة، سيحتاجون إلى عقد اتفاقية مع العراق وتركيا من أجل الاستفادة من النهر. وكان الأسد قد توصّل إلى اتفاقية مماثلة مع أنقرة في عام 2008، لكنّ جميع الثوابت قد تغيّرت الآن.
بالإضافة إلى ذلك، إن تحكّم الأكراد بـ "سدّ تشرين" على نهر الفرات قد يوفّر الفرص لتطوير الريّ في غرب كردستان السورية التي تعاني أيضاً من نقص في الإمدادات. بيد، إن جهوداً كهذه قد تخلق على الأرجح مشاكل مع المزارعين العرب الذين يعيشون في اتّجاه مجرى النهر.
نفط كردستان السورية غير قابل للتصدير بعد
تستفيد كردستان السورية من وجود آبار نفط في الجزيرة؛ فقبل الحرب، كانت حقول النفط في المالكية والشدادي تنتج حوالي ثلث كمية النفط الخام التي تنتجها البلاد ومقدارها380,000 برميل/يوم. ومنذ ذلك الحين، تراجعت هذه الكمية بسبب غياب الصيانة وإغلاق بعض الأنابيب. ومع ذلك، أصبح النفط مصدراً رئيسياً للدخل لإدارة كردستان السورية، ويمنحها إمكانية الاستقلالية من ناحية الطاقة في المستقبل. وفي وقت لاحق، تستطيع كردستان السورية تصدير معظم إنتاجها إذا وجدت الحل الملائم لنقله.
ويبدو أن التصدير المباشر عبر تركيا مستحيلاً لأسباب سياسية. وإذا أُعيد فتح خط الأنابيب الرئيسي إلى المحطة الساحلية السورية، بانياس، قد تتمكّن كردستان السورية من بيع النفط للحكومة السورية في النهاية، لكنّ دمشق ستعارض بالتأكيد دفع الثمن كاملاً مقابل "نفطها الخاص". وبدلاً من ذلك، يمكن لأكراد سوريا استخدام خط الأنابيب الكردي العراقي إلى تركيا، على الرغم من أن ذلك سيتطلّب التوصّل إلى اتفاق مع «حكومة إقليم كردستان». وتجمع علاقات سيئة جداً بين «الحزب الديمقراطي الكردستاني» الذي يتولّى الحكم حالياً في الإقليم و «حزب الاتحاد الديمقراطي» بسبب توترات قائمة منذ عقود مع «حزب العمال الكردستاني»؛ فالجماعتان العراقية والتركية تتبعان أيديولوجيات مختلفة تماماً ويترأسهما قادة يكرهون بعضهم البعض. ومن نتائج ذلك جزئياً، أنه لم يتم تنظيم التجارة بين أكراد سوريا و «حكومة إقليم كردستان». ويمكن لهذه العقبات أن تسبب مشاكل لكردستان السورية على المدى الطويل لأن «حكومة إقليم كردستان» هي الصلة البرية الوحيدة التي تربطها بالعالم الخارجي بالإضافة إلى الحدود التركية (المغلقة) ووادي الفرات (الذي يسيطر عليه تنظيم «الدولة الإسلامية»).
ممر «حزب العمال الكردستاني» إلى البحر المتوسط؟
إن حالة النفط تسلط الضوء على العائق الرئيسي أمام استدامة كردستان السورية، ألا وهو عزلتها. فالمجتمع الكردي سهل التكيّف ويتقبّل ظروف العيش المتقشّفة، لكنّ العديد من الناس يغادرون المناطق التي يسيطر عليها «حزب الاتحاد الديمقراطي» مؤخراً. ومن أجل وضع حدّ للنزوح الهائل للسكان، سيحتاج «حزب الاتحاد الديمقراطي» إلى تنمية الاقتصاد، الأمر الذي يتطلب تأمين حرية حركة السلع من البلدان الأخرى وإليها. ومع ذلك، قد لا تتحسّن العلاقات مع تركيا و «الحزب الديمقراطي الكردستاني» في أي وقت قريب، كما أن الجدول الزمني للقضاء على تنظيم «الدولة الإسلامية» وتأمين استقرار الفرات غير مؤكد.
انقر على الخريطة لعرض نسخة عالية الدقة.
وبالتالي، قد يكمن الحلّ البديل الوحيد في إقامة اتصال جغرافي غرباً مع حلب والمنطقة التي يسيطر عليها النظام، مما قد يتطلّب من «حزب الاتحاد الديمقراطي» تسريع جدوله الزمني لإقامة رابط جغرافي بين عفرين وكوباني. وفي هذا الصدد، من المهم التذكر أن «حزب الاتحاد الديمقراطي» هو نتاج «حزب العمال الكردستاني» ويشاركه أهدافه الإقليمية. ويمكن لتوسيع حدود كردستان السورية على طول الطريق إلى البحر الأبيض المتوسّط أن يسهّل استقلال كردستان التركية ويتيح إندماجاً أوسع نطاقاً مع «حكومة إقليم كردستان»، على افتراض أن تتمكّن واشنطن في النهاية من الضغط على «حكومة الإقليم» لفتح حدودها مع كردستان السورية. ويقيناً، أنّ «حزب الاتحاد الديمقراطي» لم يعبّر عن أي طموح للوصول إلى البحر المتوسّط، وأن سدّ الفجوة البالغ طولها 70 كيلومتراً بين الحدود الغربية التي تزعمها كردستان السورية والساحل قد يؤدي إلى عقبات كبيرة. فإلى جانب كون سكّان هذه المنطقة بأجمعهم من غير الأكراد، فإن تركيا ومن يتحكم بمعقل العلويين أيضاً، سيعترضان بشدّة على ذلك. ومع ذلك، ليس هناك شك بأن بعض الأكراد على الأقل يحلمون بإنشاء مرفأ كردي، مهما كان هذا الاحتمال بعيد المنال.
وأخيراً، قد تؤدي الحرب إلى حصائل جغرافية أخرى من شأنها أن تعزز تحقيق المشروع الإقليمي لـ «حزب الاتحاد الديمقراطي» و«حزب العمال الكردستاني»، مثل [إقامة] دولة علوية على الساحل و/ أو دولة عربية سنية على مسافة أبعد إلى الشرق. إن الخرائط الرسمية لكردستان السورية تصور بالفعل حدوداً غربية تمتدّ على طول الطريق إلى أطراف معقل العلويين، لذلك من غير المستبعد إقامة علاقات اقتصادية ودية والحصول على امتيازات ساحلية مع هذه الكيانات على المدى الطويل.
فابريس بالونش، هو أستاذ مشارك ومدير الأبحاث في "جامعة ليون 2"، وزميل زائر في معهد واشنطن.