- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
استعمال العنف في ليبيا
السياسة واستعمال العنف واستخدام القوّة لا يجتمعان، فالسّياسة تبدأ حين تنتهي القوة، ويقصد بالقوة في السّياق، القوة المادية المستندة إلى السّلاح.
ولذا يمكن القول إنّ ليبيا خلال السنوات الخمس الماضية، لم تعرف لها السياسة طريقاً، ابتداء بالمجلس الانتقالي الذي شرّع المجالس العسكرية المكوّنة من أمراء الميليشيات التي تكوّنت نتيجة عسكرة الثّورة في مرحلة مبكرة من عمرها لإدارة المدن؛ ليقطع الطريق بذلك أمام القيادات المدنية على المستوى المحلي من أن تقود العمل المؤسّسي.
ومن جهة أخرى غضّ المجلس الطّرف عمّن يحملون السّلاح باسم الثّورة حتي غرق في شباكهم وأصبح بيدقاً في أيديهم، ولعلّ هذا مقصود من الفاعلين في المجلس حينها، وهم التّيار الإسلامي، فمن خلال هذه السياسة المُمنهجة لإضعاف مؤسّسة الجيش وخاصة في بنغازي ممثلة في القطاعات العسكرية التي التحمت بالشعب في الأيام الأولى للثورة وعلى رأسها القوات الخاصة بقيادة اللواء "عبدالفتاح يونس" ، الذي بناء على تقارير ملفقة أعدّها الإسلاميون المتشددون، صدر القرار رقم (29) الذي وقّعه علي العيساوي، أحد أبرز قيادات الإسلاميين، وبموجبه تم القبض على اللواء المغدور وتصفيته بطريقة بشعة...
فالفكر الميليشياوي كان هو السائد ومردّ ذلك تفكيك الدّولة ووراثة المفصل العسكري فيها، وصولاً لضمان بنائها على أسس تضمن مراكز القوى الجديدة المنتمية للإسلام السياسي أو المرتكزة على أسس جهوية، كالقوى السياسية المنتمية لِمَا عُرِف بالمدن المنتصرة وعلى رأسها مصراته والزنتان.
وكان الصدام بين المشروعين آتياً لامحالة، لكن في البدايات تناغم المشروعان على حساب الدّولة الوليدة، وهذا التناغم يمكن تلمّسه جليّاً في إنشاء "الدروع" على أساس مناطقي وجهوي، وتكفّلت الآلة الإعلامية الداعمة لتفتيت المشروع الوطني للثورة الليبية بشيطنة الجيش الليبي والشّرطة ، وبدأت سياسة تكميم الأفواه والاغتيالات لكوادر الجيش والشرطة، واحتدم الصراع على أشدِّه في مدينة بنغازي بين التّيارين المدني، والمتطرف في تصوراته الدينية والجهوية، وذلك يعود للتركيبة الاجتماعية الغنية بالاختلاف للمدينة علاوة على أسبقيتها في الثّورة وتاريخها في الحراك المدني والثقافي.
فعمل الإسلاميون على إبعاد أبرز القيادات العسكرية عنها مثل العقيد "ونيس بوخمادة" والعقيد "صلاح بوحليقة" ، الأول كُلِّف بتأمين مدينة سبها والآخر بمدينة سرت، وأخليت بنغازي للتشكيلات الإسلامية المدعومة من قطر، وعمل المجلس المحلّي للمدينة والمجلس الانتقالي على تجريف الشرطة المدنية وإنشاء كيانٍ موازٍ لها تحت مسمّى اللجنة الأمنية التي تولّى رئاسة أقسامها أمراء الحرب، الذين تبين لاحقاً أن جُلّهم من المتطرفين، ولخنق المشروع الوطني تماهى الخطاب السياسي والإعلامي مع ما يعرف بـ"أنصار الشريعة"، وتعالت وتيرة الاغتيالات والإرهاب وتوّجت بأحداث القنصلية الأمريكية.
ولم يكن للتيار المدني من سلاح إلا التّظاهر، وكانت جمعة إنقاذ بنغازي، التي كانت كفيلة بتصحيح مسار الثّورة، لولا أن الديمقراطية التي حلم بها الشعب وضحّى من أجلها الأحرار لم تفرز ساسة ذوي خبرة وكفاءة لقيادة ليبيا، بل كانت وبالاً على الشعب البسيط، إذ جلبت انتخابات المؤتمر الوطني مرتزقة المال العام وتجّار البشر والمخدِرات وأصحاب السوابق الجنائية وأمراء الحرب الذين لم يتخلّوا عن سلاحهم وعن ميليشياتهم رغم انتخابهم لحكم ليبيا، فعمل هؤلاء على إجهاض حراك الشارع، وفي مشهد لن يُمحى من ذاكرة الليبيين، خرجوا رفقة أمراء الميليشيات في مؤتمر صحفي معلنين شرعية المشروع الميليشياوي الظلامي، وبمضي أيام المؤتمر الوطني العام زالت أيّة علامة استفهام عن موقفهم ذلك، ففترة حكم المؤتمر الوطني كانت ربيعاً بامتياز للمشروع الميليشياوي، على مستوى التشريعات "العزل السياسي" أو الممارسة السياسية، فلا يخفى على أحد مشاركة بعض أعضاء المؤتمر الوطني في اقتحام مدينة بني وليد، وفي اجتياح ورشفانة بحجّة استئصال الأزلام، لأغراض جهوية ولتصفية ثارات تاريخية بالية.
ولم يصمد من دخل المعترك السياسي بدون أن يكون له ظهير ميليشياوي، فتوالت الاستقالات في المؤتمر الوطني وأصبح جسماً لا يمثّل إلاّ طيفاً واحداً، لا قاعدة شعبية له، وبدأ الحراك الشعبي يتصاعد ضد المؤتمر على النّحو الذي جاء بمخرجات لجنة فبراير، وأجبر المؤتمر الوطني على إجراء انتخابات لجسم تشريعي جديد والدخول فى مرحلة انتقالية ثالثة. الأمر الذي أصبح الإعلان الدستوري أقرب منه إلى اللاّئحة الإدارية منه بوصفه وثيقة دستورية لكثرة ما أُجري عليه من تعديلات فى زمن قياسي.
وبخسارة تيار الإسلام السياسي الانتخابات تغوّلت أذرعته العسكرية التي كشفت عن وجهها الداعشي بكلِّ وضوح، وإن تستّرت تحت مسمى مجالس شورى الثّوار، وهي خليط من أنصار الشريعة المبايعة للقاعدة وجزء مبايع لأبي بكر البغدادي وجزء من بقايا الدروع تحرّكه قيادات مدينة مصراتة.
ولم يجد المؤتمر الوطني، بعد إعادة الحياة إليه عقب عملية فجر ليبيا، حرجاً في تبني هذا الخليط والمراهنة عليه في تحقيق ما فشل فيه إبّان توليه الحكم بضرب مؤسسة الجيش وإنهائها وذلك بالدعم اللوجستي والسّياسي والإعلامي، رغم أن هذه المجالس يغلب عليها الطابع التكفيري والمناهض للعملية الدّيمقراطية برمّتها.
فالطابع الميكافيلي للتّيار الإسلامي يجعل وسيلة الإرهاب مبرّرة طالما يحقّق الغاية بالبقاء في السّلطة وضمان عدم إقصائهم عنها. وهو بالفعل ما نجحوا في تحقيقه بفرض أنفسهم لاعباً أساسياً فى المشهد السّياسي ولا زاد لهم ألاّ تفتر تسهم وراء هذه الميليشيات الإرهابية، وحتى الآن يعرقل الجناح الراديكالي منهم جُهود الحلّ السّلمي والانخراط في الحوار الذي ترعاه الأمم المتّحدة.
وبالمقابل لا يخلو البرلمان من تيّار متشدّد وإن كان على أسس جهوية، يعرقل لغة السياسة في حلّ المشكِل الليبي. فتيّار الفدرلة المتشدّد يريد زيادة تفاقم الأزمة الليبية، حتى يصير تقسيم البلاد هو المخرج.
وفي هذه الأثناء، برز جناح معتدل في البرلمان والمؤتمر يريد أن يمارس السّياسة بعيداً عن قوة السّلاح بالسّير فى محاولة صنع السّلام بإشراف البعثة الأممية.
بين هذا وذاك تسقط المدن الليبية تباعاً في قبضة "داعش" من درنة إلى سرت وأجدابيا، وليس ببعيد صبراتة وطرابلس نفسها إذا استمرّ المشهد الليبي بتسيُّد نفس اللاعبين.
هذا الخلل في منظومة العمل السّياسي الذي صاحب الثّورة الليبية، هو نتاج الطّمع والجشع للحصول على السّلطة، لذلك لم تعد الثّورة وأهدافها وغاياتها الشّريفة سوى طلاء يستعمله أمراء الحرب والميليشيات وأرباب السّوابق، والمتطرفون دينياً وجهوياً لتغطية سوآتهم.
باختصار شديد، الدّيمقراطية في ليبيا هي مزيج من الدّين والقبلية والجهوية وقوة السّلاح، وكانت نتائج الانتخابات لا تعبّر عن تمثيل سياسي حقيقي، بل جاءت أقرب لردّة الفعل البدائية غير المبنية على تأطير حزبي أو رأي عام ناضج أكان في تصدّر الإسلاميين للمشهد السّياسي أو إقصائهم فيما بعد وشنّ حملات إعلامية لتشويههم أمام المواطنين.
فإذا أخذنا بهذا المدخل لتحليل التّجربة الليبية للسّنوات الخمس الماضية، نجد أنّ الجماعات المتطرفة الإرهابية لم تشذّ عن القاعدة، فالسّلاح والسّياسة توأم لا يفترقان لدينا، سواء من مارس التّقيّة منها وساير الشّعب في خيار الدّيمقراطية، أو من كفر بها وأعلن مشروعه الدّاعشي.
ويكمُن الحلُّ في عدة إجراءات داخلية وإقليمية ودولية، يمكن تلخيصها على النحو الآتي:
أولاً: داخلياً: وهو الأمر الأولى بالاهتمام، الذي يجب التركيز عليه بشدّة، وهو إصرار المواطنين الليبيين على الوحدة ورفض الإرهاب وعسكرة الدولة، وبناء الدّولة المدنية الحديثة، دولة المواطنة والقانون والمؤسّسات. وهنا يفترض بالمنظمات المدنية والأهلية والحقوقية والناشطين الحقوقيين والإعلاميين التكاتف وبناء جبهة موحدة للتوعية وسحب البساط من تحت أرجل أمراء الحرب. والأهم من ذلك أن تكمل "لجنة الستين" عملها، فالدّستور في ليبيا أقرب لمفهوم العقد الاجتماعي في بداياته الفلسفية من كونه ينقل مجتمع الفطرة إلى المجتمع المدني من كونه ضرورة قانونية وسياسية ومن هنا لا بد أنْ يتمّ التّوافق في عمل اللجنة إلى مخرجاتها وإذا ما فشلت لابد من إعادة النّظر في كيفية صياغة الدّستور.
ويظلّ خيار العودة لدستور الاستقلال، أحد الخيارات التي تجد لها صدى كبيراً في المجتمع، والأهم من هذا كلّه، أن يُصاغ برنامج لحكومة الوفاق الوطني ولا يُكتفى بالملاحق الواردة بالاتفاق. فالملف الأمني وكيفية نزع سلاح الميليشيات وتسريح المقاتلين فيها وإعادة دمجهم واستيعابهم ضمن قطاعات الدّولة والمؤسسات الأمنية والجيش الوطني، وكيفية إبعاد الجيش عن التّجاذبات السّياسية وصونه منها، والملف الاقتصادي وسبل إنعاش الاقتصاد الليبي وإنقاذ العُملة الليبية من الانهيار. وكذلك ملف المصالحة الوطنية وتفعيل العدالة الانتقالية. لابد أن تُبلوَر لها خطوط عريضة ملزمة لحكومة الوفاق. ولابد من تعهّد واضح مكتوب من كافة الفرقاء السّياسيين بنبذ العنف وإعلان القطيعة مع كلّ من يحمل السّلاح في وجه الدولة باسم الدين أو الثّورة أو الجهوية والتّبرؤ منه.
ثانياً: تلزم وقفة جادّة من المجتمع الدّولي والأمم المتحدة ضد التّيارات السّياسية المتشددة التي تعرقل الحلّ السّلمي أكانت تنتمي للتّيار الإسلامي أو "الليبرالي"، بتفعيل لجنة العقوبات بمجلس الأمن وكذلك لجنة مكافحة الإرهاب، وتصنيف هذه الجماعات على أنها جماعات إرهابية لا علاقة لها بالسّياسة. فالحوار الذي ترعاه الأمم المتّحدة تبلورت خطوطه العريضة، ولابد من السّير فيه إلى منتهاه ويجب أن يظلّ المسار العسكري المجابه للإرهاب قائماً.
ثالثاً: كما يجب، إقليمياً، ومن بوابتي الجامعة العربية والاتحاد الإفريقي، وإن أمكن منظمة المؤتمر الإسلامي، العمل على كفّ محور قطر - تركيا ومحور الإمارات أيديهما عن الشأن الليبي ومنع جميع الدّول من التّدخّل في شؤون ليبيا، بمن فيها الدّول الرّاعية للعصابات المسلّحة في الجنوب (تشاد والنيجر).
نسرين عامر، ناشطة حقوقية ليبية ورئيسة مجلس إدراة منظّمة حقوقيين بلا قيود.
"منتدى فكرة"