- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
أتريد تجنّب لجوء الطلاب إلى حركة «بي. دي. إس.»؟ أشركهم في مفاوضات سلام صورية مع تعديل بسيط
بينما كنّا في طريقنا نحو "جامعة كاليفورنيا - سانتا باربرا" لإلقاء محاضرة حول السلام الفلسطيني- الإسرائيلي في عام 2009، لم نفكّر في الأمر كثيراً، فنحن خبيران في هذا النزاع واعتدنا التداخلات المتكررة بين الفلسطينيين والإسرائيليين في الشرق الأوسط، وأيضاً الطبيعة المتحضّرة والجامعية والتفاعلية التي يتّسم بها حديث السياسات في العاصمة واشنطن. وألقينا كذلك محاضرات لا تُحصى عن المسألة على مرور السنين، ولم يكن هناك أيّ سبب يدفعنا إذاً إلى تصوّر وضع مختلف هذه المرّة، لكنّنا كنّا مخطئَين.
وفي الواقع، جرى الحديث بحدّ ذاته على ما يرام، إلّا أنّ المفاجأة الحقيقية لم تظهر إلّا عندما كنا نتناول طعام الغداء في اليوم التالي مع قادة الطلاب اليهود والمسلمين. وأثار إعجابنا خلال وجبة الغداء قدرُ المعرفة والحماس لدى المشاركين، لذلك صُدمنا فعلاً عندما ذكر أحد الطلاب عرضاً في نهاية الوجبة أنّ معظم الطلاب لم يتناقشوا في هذه المسألة مع نظرائهم قبل هذه المرة.
ومنذ ذلك الحين، زرنا معاً عدداً كبيراً من الجامعات في جميع أنحاء الولايات المتحدة، وعدنا في كلّ عام إلى "جامعة كاليفورنيا - سانتا باربرا" (باستثناء فترة عمل ديفيد في فريق السلام برئاسة وزيرة الخارجية الأمريكي جون كيري). وينذهل معظم الطلاب لرؤية محلّل سياسات يهودي وآخر عربي مجتمعَين في حديث متحضّر يهدف إلى اكتشاف طبيعة النزاع وحلوله المحتملة - من دون اللجوء إلى الشتائم والاتهامات المتبادلة. وظهر لنا بوضوح أنّ الحوار الهادف إلى إيجاد حلول الذي اعتبرناه من المسلّمات في عالم سياسات العاصمة الأمريكية الخاص بنا لم يكن المعيار المعتمد خارجه.
وتغيّرت أمور كثيرة منذ عام 2009، إذ تقلّصت احتمالات إقرار حلّ الدولتين في المستقبل المنظور، وأصبح الخطاب في حرم الجامعات أكثر حدة وانقساماً. لكنّ أمراً واحداً لم يتغيّر وهو أنّنا نجد في كلّ جامعة نزورها مجموعة من الطلاب الذين يريدون التعلم عن مختلف وجهات النظر المتعلقة بالنزاع والذين لا يزالون متمسكين بالسلام. وأصبح التحدي بالنسبة لنا يكمن في كيفية خدمة هذه المجموعات بأفضل السبل، مزوّدين هؤلاء الطلاب بالمعرفة ومقدّمين مثالاً عن الحوار المتحضّر.
إلّا أنّ التحدي الأكبر قد يكمن في كيفية إعادة إحياء مفهوم توافر الإمكانيات لدى جيل لم يختبر مباشرة الأمل الذي ولّدته أحداث صنع السلام التاريخية في التسعينات، إذ لم يسبق أن اختبر هذا الجيل النزاع إلّا في إطار الفشل المتكرّر والأحلام المتحطمة وسفك الدماء.
وفي إطار هذه المهمة وجدنا أنّ النموذج الذي تمّ تطويره في "جامعة كاليفورنيا - سانتا باربرا" يستحقّ فعلاً تكراره في جامعات أخرى. وتشكّل زياراتنا جزءاً من نشاطات مستمرة تنظّمها "حلقات توبمان الدراسية" في الجامعة طوال العام الدراسي، تُدرج خلاله أحداثَنا ضمن عملية تراكمية. كما أن استضافة معلّمين في صفّ مدرسي متواصل عن القدس إلى جانب إلقاء محاضرة عامة أمام مئات الطلاب، تؤمّن جمهوراً متنوّعاً.
وتبقى الميزة الأكثر فردية في برنامج "جامعة كاليفورنيا - سانتا باربرا" الخاص بنا هي عملية المفاوضات الوهمية ("العملية التفاوضية") حيث نسأل الطلاب الذين يعرّفون أنفسهم على أنهم مؤيدون لإسرائيل أن يؤدّوا دور المفاوضين الفلسطينيين والعكس بالعكس. ففي الواقع من الشائع جدّاً أن يرفض مؤيدو فريق ما في نزاع في غاية الانفعالية كهذ آراء الآخر على أنّها مجرّد مواقف أو دعاية لا أساس لها. وبدلاً من مجرد عرض مواقف مختلف الأطراف أمام الطلاب، نتحدى هؤلاء الطلاب للإفصاح عن المنطق ومجموعات المصالح التي دفعت كل فريق إلى اعتماد موقفه.
ولا تُعتبر هذه العملية سهلة على المستوى العاطفي بالنسبة للطلاب الذين يشعرون بارتباط قوي نحو طرف معين. وكميسّرين بإمكاننا رؤية إشارت واضحة في تعابير وجه الطلاب ولغة جسدهم عن المعاناة التي يختبرونها عندما يدافعون عن المواقف نفسها التي اعتادوا انتقادها. لذلك يهمّنا أن نحرص على ألا ندفعهم إلى الشعور بالانزعاج إزاء آرائهم أو نضغط عليهم للتخلي عنها، بل نأمل أن يفهموا بشكل أفضل بعد إنهائهم هذه "العملية التفاوضية" أنّ مواقف الطرف الآخر مبنية على مجموعة وقائع ومصالح وأحداث مسرودة يجب أن يفهمها كلّ من يسعى إلى وضع حدّ لهذا النزاع حتى لو لم يعتمدها.
ومع التقدّم في "العملية التفاوضية"، نرى أنّ المشاركين يتقبّلون أكثر فأكثر فكرة أنّ الآخر قد يسرد أحداثاً خاصة به وأنّ هذا السرد المختلف لا ينبع من الحقد في معظم الأحيان، مع أنّ ذلك لا ينطبق على كافة الحالات. ويبدأ المشاركون بفهم أنّ هذا النزاع ليس عبارة عن مسرحية نهايتها عبرة أخلاقية كما قد يسمعون من بعض أساتذتهم في الفصول الدراسية.
وفي النهاية، نؤمن أنّ هذا الجهد يستحق العناء عندما يخبرنا الطلاب أنهم فهموا بعد "العملية التفاوضية" أنّ هذا النزاع أكثر تعقيداً مما توحي به الملصقات أو المنشورات التي يجدونها في حرم الجامعة، أو أنّهم يقدّرون الآن أنّ كلّاً من الطرفين على حقّ، وغالباً ما يكون هؤلاء الطلاب هم الذين بدوا أكثر تشكيكاً في البداية. ونأمل أن يستخدم الطلاب المعارف التي اكتسبوها لنشر الحوار وسبل التعايش العملية بدلاً من الانخراط في حركة الـ «بي دي اس» (أو المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات وهي الحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل) أو أشكال أخرى من النشاطات التي تعزّز الانقسامات وسلب الشرعية المتبادَل.
وفي حين أن مسار الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي لن يتحدد من خلال ما يحدث في حرم الجامعات الأمريكية، إلا أن هذه الديناميكيات لا تزال في غاية الأهمية، كما أن وضع النقاش الراهن يولّد بيئةً لا ترحّب للغاية بالطلاب الراغبين في الانخراط في هذه المسألة، وأكثر من ذلك بكثير بالذين يريدون المشاركة في نشاطات جماعية تدعو إلى التعايش. وتصدمنا القصص التي نسمعها عن الطلاب الذين يضغط عليهم نظراؤهم لكي لا ينخرطوا مع "الطرف الآخر"، خاصة لأنّ ذلك يتعارض مع فكر التعليم بحدّ ذاته. وما يتعلمه الطلاب في الجامعات يبلور نظرتهم لفترة طويلة قادمة.
لقد انخرط كلّ منا في هذا المجال منذ فترة طويلة كافية لاستذكار الأيام التي كان الخطاب الخاص بفلسطين وإسرائيل يركّز على إنكار شرعية الآخر. وعندما نسمع أصداء من النوع نفسه في حرم الجامعات اليوم، لا يمكننا إلّا أن نخشى من أن الطلاب الذين يتعرضون إلى هذا الخطاب محكوم عليهم بتكرار أخطاء الماضي نفسها على حساب المصالح الوطنية للفلسطينيين والإسرائيليين والأمريكيين.
ومن خلال تقديم نموذج بديل يُظهر أنّ الحوار المتحضّر ممكن وأنّ حواراً كهذا قد يقترح حلولاً للمسائل الشائكة في صنع السلام في الشرق الأوسط، يمكن مواجهة هذا التوجه السلبي في حرم الجامعات. نحن نؤمن أنّ الطلاب الذين يشاركون في عملية المفاوضات الصورية يلمسون بأنفسهم مفهوم توافر الإمكانيات الذي اختبرناه مباشرة. ونأمل أن يستفيد أفراد آخرون وجامعات أخرى من هذا النموذج ويأخذوا على عاتقهم مهمة مكافحة التوجهات الراهنة.
ديفيد ماكوفسكي هو زميل "زيغلر" المميز في معهد واشنطن وكان قد خدم في فريق التفاوض الذي أقامه وزير الخارجية الأمريكي جون كيري خلال المحادثات الإسرائيلية - الفلسطينية 2013-2014 . غيث العمري، هو زميل أقدم في المعهد، وقد شغل سابقاً منصب مستشار لفريق التفاوض الفلسطيني.
"فورورد"