في ٢٣ أيار/مايو، وفي الخطاب الرمضاني للمرشد الأعلى الإيراني حول "توم وجيري"، قدّم علي خامنئي قائمةً من المطالب إلى أوروبا لإبقاء إيران في الاتفاق النووي. وبعد مرور شهرين، لم يتم استيفاء أي من هذه المطالب، ومن بينها الشروط الأولى لمقاومة الضغط الأمريكي ومنح التعويض لإيران.
وبما أنه لم يبقَ سوى أقل من شهر قبل أن تعيد الولايات المتحدة فرض مجموعة من العقوبات، تجد طهران نفسها أمام مفترق طرق استراتيجي مألوف. وحتى في الوقت الذي يتبادل فيه الرئيس حسن روحاني الكلام والغضب مع الرئيس ترامب عبر موقع "تويتر"، فإن ردود النظام الإيراني على الضغوط الأمريكية المتصاعدة تُثبت عدم فعاليتها.
فشل استراتيجيات التصدي لترامب
على الرغم من أن خامنئي يتخذ جميع القرارات النهائية المتعلقة بسياسة إيران الخارجية، إلّا أنّ هناك عملية تشريعية وتنفيذية معقدة، تتسم بالتعددية بشكل غير متوقع، وتُرشد الكثير من تلك القرارات قبل اتخاذها. فعندما تولى ترامب منصبه في العام الماضي وكرّر اعتزامه على الانسحاب من الاتفاق النووي وزيادة الضغط على إيران، يمكن الافتراض أن عدداً كبيراً من اللجان والمجالس كان منهمكاً بالكامل بتقديم المشورة إلى المرشد الأعلى حول أفضل استجابة استراتيجية للنظام. ومن خلال النظر إلى سلوك إيران منذ ذلك الحين، يمكننا تمييز الدعائم الرئيسية لهذه الاستراتيجية - ومدى فشلها.
دق إسفين بين واشنطن وأوروبا. في عام ٢٠١٧، توقع مدير "منظمة الطاقة الذرية الإيرانية" علي أكبر صالحي، بشكل غير دقيق أنه "إذا انسحب الأمريكيون من الاتفاق [النووي]، فمن المحتمل جداً ألا تحذو أوروبا حذوهم، [و] ستبقى أمريكا وحدها". وبناءً على ما تعلمته طهران من مفاوضاتها السابقة مع الغرب، واصلت مباحثاتها مع أوروبا، على أمل أن تكون إمكانية الحفاظ على الاتفاق النووي حافزاً لها لمقاومة العقوبات الأمريكية بضراوة.
غير أن أوروبا لم تحقق أي نتيجة حتى الآن، ويبدو أنها تفتقر إلى القدرة، وربما إلى الرغبة في مقاومة خطط واشنطن لإعادة فرض العقوبات. فمنذ بضع سنوات، أفاد روحاني بقوله الشهير أن "التفاعل مع أوروبا وليس مع الولايات المتحدة يشبه رجل فقير لا يستطيع شراء سيارة من نوع مرسيدس، لذا اختار بدلاً منها سيارة من نوع بَيكان"، التي هي سيارة إيرانية الصنع تُعد شعبية ورخيصة. وبالتالي، يجب أن لا يتفاجأ إذا ما نظر الإيرانيون إلى تلميحات أوروبا الأخيرة بإرسال تعويضات جزئية عن الخسائر المتعلقة بالعقوبات على أنها "قليلة جداً ومتأخرة للغاية".
التنسيق مع روسيا والصين. بعد وقت قصير من قيادة مفاوضات إيران مع أوروبا بين عامي ٢٠٠٣ و٢٠٠٥، أعرب روحاني عن أسفه لعدم استثمار موارد كافية لتأمين الدعم الدبلوماسي من روسيا والصين، معترفاً أن العبء على طهران "كان من الممكن أن يكون أقل" مما هو بمساعدتهما. وفي الأشهر الأخيرة، سعى المسؤولون الإيرانيون للتعلم من هذا الخطأ المُدرَك من خلال توسيع العلاقات مع بكين وموسكو من أجل "تحييد الضغط الأمريكي وتقليص أثره"، على حد تعبير رئيس لجنة السياسة الخارجية في "مجلس الشورى" الإيراني في ذلك الوقت علاء الدين بروجردي. ومع ذلك، لم يكن دعمهما مفيداً كما كان يأمل، ويُعزى ذلك جزئياً إلى أن لدى كلا الراعييْن المفترضَين مصالح سياسية واقتصادية أوسع وأكثر أهميةً.
وحتى إذا ثبُت بمرور الوقت أن روسيا والصين هما أكثر تجاوباً، فمن الممكن أن يؤدي اعتماد إيران المتزايد عليهما إلى فتح الباب أمام سيلٍ من الأضرار الإيديولوجية والسياسية بالنسبة إلى النظام. وانطلاقاً من التفكير في هذا الاضمحلال المحتمل لشرعية الجمهورية الإسلامية واستقلالها، زعمت مؤخراً صحيفة "كيهان" الناطقة باسم خامنئي أن الشعار الثوري الشهير "لا شرقية، ولا غربية" أصبح باطلاً لأن مفهوم الشرق قد تغير بشكل كبير. وعندما حاولت الصحيفة تفسير هذا التناقض، أفادت أن روسيا هي حليف إيران ضد الولايات المتحدة، لذلك فإن التماس مساعدتها أمر مقبول.
ردع الضغوط الأمريكية. على الرغم من أن طهران حاولت التلاعب في وضع برنامجها النووي من خلال إدخال تطورات جديدة في هذا المجال، إلا أن إعلاناتها لم تخلّف الوطأة المروعة التي ربما كان يُقصد منها. كما إن تهديداتها المتكررة بتوسيع قدراتها على تخصيب اليورانيوم إلى عشرة أضعاف لا تحظى بأي اهتمام كبير من المجتمع الدولي، إذ أصبحت في الأساس أمراً عادياً. وأمّا محاولة روحاني الأخيرة لردع واشنطن - من خلال التهديد ببدء "أم كل الحروب" وإغلاق مضيق هرمز - فقد أدّت إلى دفع الرئيس ترامب إلى الرد بالمزيد من التهديدات من جانبه.
استقرار النظام وترسيخه عن طريق رص الصفوف، من بين تدابير أخرى. بسبب الاشتباكات العلنية مع «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني، كان العام الأول لرئاسة روحاني يُغذي الانقسامات داخل القيادة الإيرانية. إلا أن هذا التوجه تغير في الأسابيع الأخيرة، وذلك منذ أن تبنى روحاني موقفاً عدائياً تجاه واشنطن، ودافع عن تصرفات إيران في العراق وسوريا ولبنان، حتى أنه وافق على استبدال بعض أعضاء حكومته بناءً على طلب خامنئي. وعلى الرغم من أن البعض قد يدّعي أن هذا التكتيك سيساعد في توحيد الشعب الإيراني ومنع واشنطن من تبني استراتيجية "فرّق تسد"، إلا أنه يواجه عائقاً كبيراً: فهو يلطخ سمعة روحاني المعتدلة، التي أكسبته بعض التأييد في أوروبا. فعلى سبيل المثال، كانت تهديداته بعرقلة تدفق النفط من المنطقة - التي أطلقها أثناء جولته في العواصم الأوروبية في وقت سابق من هذا الشهر - مبعث قلق لبعض مضيفيه.
تعزيز المرونة الاقتصادية. خلال خطاباته الأخيرة، أكّد المرشد الأعلى مراراً وتكراراً اتباع "اقتصاد المقاومة" وزيادة الاكتفاء الذاتي للبلاد. وفي خطابه الرمضاني اشار إلى ضرورة قيام إيران بإنشاء "مقرات رئيسية داخل مراكزها الاقتصادية" من أجل مواجهة "غرفة الحرب في وزارة الخزانة" التابعة للعدو. ومع ذلك، فإن خطط طهران الكبرى لمحاربة العقوبات من خلال التدابير الاقتصادية المضادة - مثل جهود مكافحة الفساد وتحسين إدارة السيولة واحتياطيات النقد الأجنبي - آخذة في التراجع. ومع انخفاض سعر الريال إلى مستوى قياسي وإعلان المزيد من الشركات عن عزمها على وقف التعامل مع إيران، قد لا يكون نهج النظام القائم على "التوحد وراء الراية" كافياً لمنع تحوّل الاحتجاجات العامة الجارية إلى اضطرابات جماهيرية.
المرحلة القادمة: إستراتيجية جديدة أم خدع جديدة؟
من المرجح أن تؤدي التهديدات المتبادلة بين روحاني وترامب، إلى جانب العقوبات الشديدة الوشيكة الحدوث، إلى دفع صناع القرار الإيرانيين إلى إعادة النظر في معضلتهم الأساسية: هل يجب عليهم تصعيد الوضع والرد بقسوة لردع الضغوط الأمريكية، أو كبح أنفسهم لمنع ظهور تحالف غربي موحد ضد إيران - وهو نهج قد ينتج عنه تعويضات اقتصادية محدودة من أوروبا؟ وفي هذا الإطار، يُظهر التاريخ أن الجمهورية الإسلامية غير منتظمة في هذا المجال. وفي حين أنها غالباً ما تتجنب المخاطرة، إلّا أنها تتخذ أحياناً تدابير غريبة مثل التخطيط لعمليات قصف في واشنطن وباريس أو إطلاق صواريخ باتجاه الحدود الشمالية لإسرائيل.
وفي الحالات التي اختارت فيها طهران مساراً عدائياً، سرعان ما تراجعت، مفضلة عدم تعريض استقرار النظام للخطر. وحالياً، يبدو أن قادة إيران يدركون تماماً أن أي تصعيد عسكري يمكن أن يثير غيظ إدارة ترامب ويجعلها ترد بالمثل، لذا فمن غير المرجح أن يتخذوا إجراءات مباشرة وعاجلة رداً على الضغط الأمريكي. ومع ذلك، فقد ينظرون في استخدام وكلائهم الشيعة ضد القوات الأمريكية - وهي من نوع إجراءات "الخطوة الرمادية" التي عُرفوا بها على مر السنين.
واستشرافاً للمستقبل، ما الذي يمكن أن يدفع إيران إلى التخلص من أساليبها السابقة، وتبني نهج أكثر حزماً بصورة مستمرة، واحتضان التصعيد المباشر ؟ من المرجح أن يكون العامل المهيمن في مثل هذا القرار هو تصور طهران لوضعها الاقتصادي - ولا سيّما تأثير المشاكل الاقتصادية على استقرار النظام. فإذا كان آيات الله يرون أن تهديد الاضطرابات الداخلية أمر خطير، فقد يحاولون صرف انتباه الشعب [من المشاكل] وتوجيهه نحو "العدو الخارجي". ومن شأن هذا النهج أن يخدم هدفين: أولاً، حشد دعم الجمهور حول راية [الجمهورية الإسلامية] مع الإظهار بأن النظام يستطيع تحمل تكاليف التصعيد، وثانياً، العمل على التفريق بين واشنطن والمجتمع الدولي، الذي قد يخشى التأثير الاقتصادي للأزمة في الخليج العربي.
عومير كرمي هو مدير الاستخبارات في شركة الأمن السيبراني الإسرائيلية "سيكسجيل" وزميل عسكري سابق في معهد واشنطن. وقد قاد سابقاً جهوداً تحليلية وبحثية في "جيش الدفاع الإسرائيلي" تتعلق بالتطورات في الشرق الأوسط.