- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3573
إيران تُهيّئ شعبها، لكنها لم تُهيّئه (بعد) للتسوية النووية
على الرغم من القبضة الحديدية للنظام الإيراني في الداخل، إلّا أنه يسعى عموماً إلى بناء دعم محلي لسياساته - فما هي النتيجة التي كان النظام يعمل على تهيئة الشعب الإيراني لها خلال المحادثات النووية؟
منذ أن بدأت إيران بالانخراط في المفاوضات النووية مع المجتمع الدولي، استثمر مسؤولو النظام جهودهم بشكلٍ كبير في محاولة لإقناع الشعب بدعم موقفهم. وقبل عقدٍ من الزمن، شرح الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني قائلاً: "مهما فعلنا، يجب أن نحظى بدعم الجمهور... فإذا تعارضت القرارات السياسية للبلاد مع الرأي العام، فسنواجه بالتأكيد مشاكل".
وفي السنوات التي سبقت الاتفاق النووي، أدلى المرشد الأعلى علي خامنئي بموجة من التعليقات التي مهّدت الطريق للتسوية على مضض. فمن أجل الإعراب عن دعمه للفريق الإيراني المفاوض وفي الوقت نفسه وضعه خطوط حمراء لا ينبغي تجاوزها، استخدم حديثه الشهير عن "المرونة البطولية" وقال: "أحياناً يُظهر المصارع مرونةً لأسباب فنية، لكنه لا ينسى مَن هو خصمه وما هو هدفه الحقيقي". وقبل التوصل إلى «خطة العمل الشاملة المشتركة» في عام 2015، سرّع خامنئي مجدداً وتيرة رسائله، فأدلى بملاحظات عامة حول هذا الموضوع خمس مرات على الأقل في الفترة بين أيار/مايو وتموز/يوليو قبل اختتام المفاوضات.
غير أن المرشد الأعلى التزم الصمت إلى حد كبير بشأن القضية النووية في الأشهر الأخيرة، ولم يحاول تحديد توقعات علنية لأي اتفاق (إن وُجد) قد ينبثق عن المحادثات الجارية في فيينا. وفي الواقع، ينتهج النظام الإيراني مساراً مختلفاً جداً هذه المرة وهو: عدم إعطاء الأولوية للاتفاق النووي.
خطابات خامنئي ورئيسي مؤخراً
كانت المرة الأخيرة التي تحدّث فيها المرشد الأعلى مطولاً عن القضية النووية في تموز/يوليو الماضي، حين انتقد بشدة إدارة الرئيس حسن روحاني المنتهية ولايتها بسبب إفراطها في التركيز على تحسين العلاقات مع الغرب، وقال: "لقد أصبح من الواضح في هذه الإدارة أن الثقة في الغرب لن تنجح لأنهم لن يساعدونا، وسوف يوجهون ضربة كلما سنحت لهم الفرصة". ومنذ إلقاء ذلك الخطاب، كان خامنئي أكثر صمتاً بشأن القضايا النووية، التي بقيت تتخلل ملاحظاته بشكلٍ متقطع في سياق عدم التشديد على الحاجة إلى إبرام اتفاق.
وفي آب/أغسطس، أشار بشكلٍ عابر إلى واقع كَوْن الولايات المتحدة الطرف الذي انسحب من «خطة العمل الشاملة المشتركة»، وليس إيران. وفي الشهر الماضي، أشار بإيجاز إلى إمكانية قبول التفاوض مع العدو، لكنه حذّر أيضاً قائلاً: "لَمْ ولن نستسلم للإكراه الذي يمارسه العدو ولما يقوله". وفسّر بعض المراقبين ذلك على أنه اسلوب خامنئي لإعطاء الضوء الأخضر للمفاوضات بشكل فعال، حتى أن آخرين أشاروا إلى أن الاتفاق أصبح وشيكاً. ومع ذلك، جاءت الملاحظة في سياق استنكار "الحرب الناعمة" التي يُفترض أن الدول المعادية تشنها ضد الجمهورية الإسلامية؛ ولم يُشِر على وجه التحديد إلى الملف النووي.
وفي 30 كانون الثاني/يناير، أشار خامنئي مجدداً بإيجاز إلى مفاوضات فيينا، محذّراً الشركات المصنعة الإيرانية ومسؤولي الدولة من جعل "الأمرٍ ليس بيدنا" "يتحكم" بالأنشطة الاقتصادية للبلاد أو "يوقفها". وأضاف: "لدينا أمثلة ناجحة لم ننتظر فيها رفع العقوبات". واستشهد خامنئي أيضاً بمتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية الذي أعلن أن سياسة الضغط الأقصى التي مارستها إدارة ترامب قد فشلت، وهو ما فسّره البعض كانفتاح محتمَل على تقديم تنازلات. إلا أن خامنئي أدلى بتعليقات مشابهة من قبل، وهي لا تشير بحدّ ذاتها إلى تلطيف وجهات نظر النظام.
واتضح هذا التوجه نفسه في النهج العلني الذي اتّبعه الرئيس إبراهيم رئيسي تجاه الاتفاق النووي. ففي ظل ولاية الحكومة السابقة، قدّم الرئيس روحاني بانتظام مستجدات تفاؤلية عن المفاوضات النووية في ملاحظاته العامة خلال اجتماعات مجلس الوزراء - حيث أشاد بالحاجة إلى "التفاعل مع العالم"، وأكّد "أننا وصلنا إلى نقطة لا يمكن لأحد أن يقول فيها إن «خطة العمل الشاملة المشتركة» كانت سيئة"، وادّعى في وقت ما أن إعادة إحياء الاتفاق "ليست مستبعدة أبداً". وفي المقابل، نادراً ما يتم ذكر «خطة العمل الشاملة المشتركة» في تصريحات رئيسي داخل مجلس الوزراء. وحين يتحدث عن الاتفاق، فإنه يفعل ذلك بشكل عابر تقريباً، وتغلب عليه لهجة التأكيد على الحقوق الإيرانية، ورفع العقوبات وإبطال مفعولها، واتّباع طريقة تَعامُل مع القوى العالمية تكون "موجّهة نحو تحقيق النتائج".
على سبيل المثال، في مقابلة طويلة أُجريت مع رئيسي على التلفزيون الحكومي في كانون الأول/ديسمبر، أشار بإيجاز إلى المشاركة في المحادثات مع القوى العالمية بينما حذر من أن النظام "لن يربط اقتصاده بهذه القضايا". وبعد ذلك بشهر، وجّه رداً لاذعاً إلى روحاني على حجته التي اعتبر فيها أن المفاوضات أساسية لمستقبل إيران قائلاً: "سننخرط في المفاوضات، لكن ليس على أساس أن المفاوضات تحلّ كل شيء".
الميزانية ومنابر الوعظ وطاولة المفاوضات
تكررت هذه الرسالة المتمثلة في تجنب التسوية على جميع مستويات النظام. فعلى سبيل المثال، في حين استندت ميزانية إيران لعام 2021-2022 إلى افتراض تصدير 2.3 مليون برميل من النفط يومياً، إلّا أنّ الميزانية المقترحة لعام 2022-2023 تفترض تصدير 1.2 مليون برميل فقط - بمعنى آخر، إنها تستند إلى توقُّع استمرار العقوبات. وفي كانون الأول/ديسمبر، وصفتها صحيفة "وطن امروز" المتشددة بأنها "ميزانية لا تعتمد على المفاوضات". وسلكت صحيفة "إيران" الرسمية التابعة لرئيسي المسار نفسه: فقد تفاخر مقالٍ نُشر في 29 كانون الثاني/يناير، بزيادة مبيعات النفط بنسبة 40 في المائة دون العودة إلى الاتفاق النووي، في حين سلط مقال آخر نُشر في 15 كانون الثاني/يناير الضوء على لائحة من الإنجازات الحكومية التي تحققت "من دون «خطة العمل الشاملة المشتركة» ومن دون «فرقة العمل المعنية بالإجراءات المالية» («مجموعة العمل المالي»)" (في إشارة إلى الفرقة الدولية التي أبقَت إيران على قائمتها السوداء).
ويمكن سماع حجج مماثلة في العظات التي يلقيها كبار الأئمة الإيرانيين في صلوات الجمعة، والذين يتم تعيينهم مباشرةً من قبل "مكتب المرشد الأعلى" ويتلقون أوامرهم من المؤسسات الخاضعة لسيطرة خامنئي. ففي 14 كانون الثاني/يناير، أعلن أهمّ إمام في طهران أن "العدو بحاجة إلى اتفاق نووي أكثر منّا". وفي 28 كانون الثاني/يناير، طالب رجل الدين المثير للفتن أحمد خاتمي، المقرب من خامنئي، برفع جميع العقوبات - النووية وغير النووية - بشكلٍ دائم، وليس مجرد تعليقها.
كما أن فريق التفاوض النووي للنظام لم يتخلَّ عن هذه المطالب المتعنتة. فعلى مدى الأشهر القليلة الماضية، أفاد الدبلوماسيون الإيرانيون مراراً وتكراراً بأنه يتم إحراز تقدُّم في فيينا، لكنهم عادة ما يؤكدون أن واشنطن يجب أن تقدّم المزيد من التنازلات من أجل التوصل إلى اتفاق. وفي 2 شباط/فبراير، أفادت وسائل الإعلام التابعة للنظام عن اجتماع أبلغ فيه كبير المفاوضين التابعين لرئيسي المشرّعين عن مسائل هامة ما زالت بحاجة إلى المعالجة في المحادثات، وأشار تصريحه إلى أن "إيران لها الحق في طلب رفع جميع العقوبات، لكنّ الجانب الآخر لم يوافق حتى الآن سوى على رفع بعض العقوبات".
ومع ذلك، هناك أيضاً بعض الأدلة على النقاش الداخلي حول أفضل طريقة للمضي قدماً. فيُزعَم أن ممثل خامنئي في "المجلس الأعلى للأمن القومي"، سعيد جليلي، كتب رسالة إلى المرشد الأعلى تضم 200 صفحة يشكو فيها من الفريق المفاوض بقيادة علي باقري كاني ويقترح نهجاً بديلاً - وهو إنهاء المحادثات النووية، وترك «خطة العمل الشاملة المشتركة» (ليس بالضرورة عبر إعلان رسمي)، والمضي قدماً نحو تخصيب اليورانيوم بنسبة 90 في المائة. ويقيناً أن طريقة عمل خامنئي لا تتضمن هذه الخطوات الجذرية؛ فالمرشد الأعلى يفضّل اتباع استراتيجية مدروسة بعناية. لكنّ ذلك لا يعني أنه قرر قبول اتفاق بموجب الشروط المعروضة حالياً - بل إن نهجه قد لا يعكس سوى رغبة في المماطلة، مع إبقاء إيران في حيّز المفاوضات بدلاً من مغادرة ذلك الإطار على الفور.
ويناقش المسؤولون أيضاً إمكانية إجراء مفاوضات مباشرة مع الولايات المتحدة. فعندما اقترح مؤخراً وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان وأمين "المجلس الأعلى للأمن القومي" علي شمخاني أن تنتهج إيران هذا الخيار في ظل الظروف المناسبة، واجه كلاهما انتقادات حادة من الصحف المحافِظة المتشددة، وسرعان ما تراجع شمخاني عن موقفه. لقد انطبعت المسيرة المهنية لهذا الأمين العام بالصمود والازدهار في ظل كلٍ من الإدارات الإصلاحية والبراغماتية والمحافِظة على حدٍ سواء، لذا تُشكّل مواقفه مؤشرات هامة حول الموقف الذي يتخذه النظام الإيراني بشأن قضية معينة.
وفي غضون ذلك، نشرت صحيفة "إيران" التابعة لرئيسي طبعة خاصة في 2 شباط/فبراير بمناسبة مرور عام على تولي الرئيس بايدن منصبه، معتبرةً أن إدارته فشلت في الوفاء بوعودها وأنها تسير على خطى ترامب. ويعكس هذا الموقف اعتقاد النظام منذ زمن طويل، بأن جميع الرؤساء الأمريكيين يتشابهون عندما يتعلق الأمر بسياسات إيران. ومن المثير للاهتمام أن الوثيقة ركّزت على قضايا أخرى غير الملف النووي، ربما في محاولة للتشديد على أن مظالم طهران مع واشنطن تتجاوز ذلك الملف.
ماذا بعد؟
على الرغم من أن النظام أظهر استعداده لعزل الشعب الإيراني عند اتخاذ قرارات معينة، إلا أنه يحاول عموماً تمهيد الطريق لاتخاذ خطوات كبيرة من خلال تهيئة الرأي العام لها مسبقاً. وبالتالي، إذا كان سيتم التوصل إلى حل وسط في فيينا، يمكن للمرء أن يفترض بثقة أن مثل هذه الاستعدادات قد بدأت. لكن حتى الآن لم يُهيّئ المسؤولون على جميع مستويات النظام، عامة الناس للتسوية، بل جرت تهيئتهم لقدوم فترة قد تكون طويلة من المفاوضات غير الحاسمة. وبالطبع، يمكن أن تتغير الأحداث بسرعة، لذا ما زال من الممكن أن تُبرم طهران اتفاقاً - لكنها لم تتزحزح علناً حتى الآن عن شروط الحد الأقصى التي تعرضها.
ويحتفل النظام هذا الشهر بالذكرى السنوية الثالثة والأربعين لقيامه، لذلك يمكن للمرء أن يتوقع أن تصبح خطاباته حتى أكثر عدانية و "ثورية". ولكن إذا تغيّر المضمون خلال الاحتفالات الثورية - لا سيما في ذكرى 8 شباط/فبراير لما يُدعى "بيعت همافران"، التي سبق أن استخدمها خامنئي للتحدث عن «خطة العمل الشاملة المشتركة» - فسيشكّل ذلك مؤشراً مهماً على استعداد طهران للتوصل إلى حل وسط. لكن في الوقت الحالي، يواصل النظام الإشارة إلى أنه ليس في عجلة من أمره.
جيسون برودسكي هو مدير السياسات في منظمة "متحدون ضد إيران النووية" (UANI). عومير كرمي هو زميل زائر سابق في معهد واشنطن.