- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 2686
إيران واستغلالها الإيديولوجي للحج
للمرة الثانية منذ ثورة عام 1979، لن يتمكّن الإيرانيون من أداء فريضة الحج السنوية إلى مكة المكرمة، التي يجب أن يؤديها جميع المسلمين مرةً واحدة في حياتهم على الأقل. وقد انتهت رحلة الحج العام الماضي بمأساة لمئات الحجاج الإيرانيين، ومنذ ذلك الحين، أدّى تصاعد التطورات على عدة جبهات إلى إساءة العلاقات مع المملكة العربية السعودية بحيث بلغ الأمر إلى اتخاذ إيران قراراً بمنع مواطنيها من المشاركة في موسم الحج.
ولا يعتبر هذا القرار بالأمر البسيط بالنسبة للنظام الإيراني. فبالإضافة إلى تأثيراته المحلية الكبيرة، تُعتبر الجمهورية الإسلامية الإيرانية البلد الوحيد الذي يستخدم الحج علناً كأداة سياسية لنشر إيديولوجيته الثورية في الخارج. ويعتقد الزعماء الروحيون في إيران أنه يجب اعتبار كل حج بمثابة "إثبات للرفض" - أي فرصة للتعبير عن الكراهية تجاه "الكفّار" و"الوثنيين" والتنصّل منهم - ويوجهون باستمرار دعوات إلى المسلمين كافة للتعامل مع الحج على هذا الأساس. كما تستعين إيران بشبكاتها الدينية الشيعية المرتبطة بالحج من أجل خدمة أجندتها السياسية. وتوفّر "بعثات الحج" المختلفة في إيران ومكة المكرمة والمدينة المنورة أساليب متطورة وفعالة للترويج للنسخة الإيرانية من الإسلام السياسي ولتعزيز مكانة طهران الاجتماعية والمالية في العالم الإسلامي.
النهج الإيراني الفريد في إدارة الحج
بشكل عام، تملك كل دولة ذات غالبية مسلمة بعثةً للحج في مكة (وأحياناً في المدينة أيضاً) مهمتها تقديم الخدمات لمواطنيها الذين يؤدّون فريضة الحج، بما يشمله ذلك من نقليات ورعاية طبية وتوجيهات حول كيفية أداء مناسك الحج المختلفة. وقد وصل عدد الدول التي أقامت بعثات للحج في المملكة العربية السعودية هذا العام إلى خمسٍ وثلاثين دولة.
وفي معظم الحالات، تعمل بعثات الحج كهيئات حكومية خاضعة لإشراف وزارات أو مؤسسات وطنية أخرى تعنى بكافة المسائل المتعلقة بالحج. وكان هذا هو الحال بالنسبة إلى إيران أيضاً قبل الثورة. ففي ظل الحكومة العلمانية للشاه محمد رضا بهلوي، كان يتم التعامل مع شؤون الحج البيروقراطية من قبل فروع مختلفة في الحكومة، من بينها وزارة الداخلية ومكتب رئيس الوزراء.
ومع ذلك، فبعد الثورة، أخذت السلطات الدينية العليا في النظام الإيراني تسيطر على نحو متزايد على شؤون الحج، مع تناقص الإشراف الحكومي عليها. وفي عام 1984، تم تأسيس "مؤسسة الحج والأوقاف والشؤون الخيرية"، وبينما كانت تتبع رسمياً "وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي"، إلا أن معظم أنشطتها خضعت لرقابة مباشرة من قبل المرشد الأعلى آية الله روح الله الخميني بمنأى عن أي تدخل من السلطة التشريعية أو الرئاسية. وكانت المؤسسة آنذاك ترسل كل عام نحو 150 ألف حاج إلى المملكة العربية السعودية لأداء فريضة الحج.
وفي عام 1991، عين المرشد الأعلى علي خامنئي وزير الأمن السابق محمد المحمدي الري شهري "ممثلاً عنه في شؤون الحج والزيارة" ["ممثّل ولي الفقيه والمشرف على الحجّاج الإيرانيين"] وكلّفه إدارة "منظمة الحج والزيارة" الجديدة. وقد انفصلت هذه الهيئة المستقلة بعد ذلك عن المكتب المسؤول عن الأوقاف والشؤون الخيرية - ومع أنها لا تزال فعلياً تحت إشراف "وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي"، إلا أن القانون الإيراني ينص على خضوع "كافة القضايا الثقافية والسياسية وشؤون التوعية المتعلقة بالحج" للسلطة الحصرية لممثل المرشد الأعلى وحده (وهو المنصب الذي يشغله حالياً علي قاضي عسكر منذ تعيينه في عام 2009).
وفي موسم الحج العادي، يتوزع الحجاج الإيرانيون على مئات "القوافل" التي تضم كلٌّ منها نحو مئة شخص. ويتم تعيين قادة القوافل من قبل "منظمة الحج والزيارة" وهم مسؤولون عن نفس النوع من الخدمات اللوجستية الذي تقدمه مكاتب الحج في الدول الأخرى. بيد أن كل قافلة تخضع "دينياً" لإمرة اثنين من رجال الدين الذين يجيبان عن الاستفسارات ويديران الطقوس خلال رحلة الحج، ويتم تعيينهما مباشرةً من قبل "مكتب ممثل المرشد الأعلى" ("مكتب قائد الثورة الإسلامية" أو "المكتب") بعد خضوعهما لتدقيق إيديولوجي دقيق، ولتدريب إيديولوجي مكثف يُجرى بعد اختيارهما. وفي عام 2010، أعدّ رئيس "مكتب قائد الثورة الإسلامية" محمد محمدي كلبايكاني كتاباً وصف فيه مختلف مسؤوليات الممثل، بما فيها إعداد المواد الثقافية للحجاج وإقامة العلاقات مع المسؤولين والمواطنين الأجانب و"تنفيذ المهام الأخرى المسندة إليه من قبل المرشد الأعلى".
وفي الواقع، يشكل "مكتب ممثل المرشد الأعلى" بيروقراطية ضخمة تهدف إلى الترويج للفكر الديني الإيراني بعيداً وفي كل مكان، وليس مجرد الإشراف على مناسك الحج. ويقع مقر "المكتب" في طهران وله عدة فروع في جميع عواصم المحافظات، مع الإشارة إلى أن مدراء الفروع يعيَّنون مباشرةً من قبل ممثل المرشد الأعلى. كما وأن العديد من رجال الدين العاملين في "المكتب" ينتمون إلى وزارة الاستخبارات أو السلك القضائي أو «فيلق الحرس الثوري الإسلامي».
وعلى مدى العقد المنصرم، قام "مكتب ممثل المرشد الأعلى" بتكليف رجال دين بإعداد تقارير سنوية عن أنشطة بعثات الحج خلال رحلات الحج. وعلى الرغم من أن هذه التقارير خضعت بوضوح للتنقيح على مراحل مختلفة حفاظاً على سرية المعلومات الحساسة، إلا أنها لا تزال تكشف البعد الإيديولوجي لشبكة بعثات الحج الإيرانية.
على سبيل المثال، يتضمّن تقرير عام 2014، الذي أعدّه رضا مختاري، تفاصيل مفيدة حول الأنشطة التي أنجزها "مكتب قائد الثورة الإسلامية" خلال العام الذي شهد ما يقرب من 100 ألف حاج إيراني. ويفيد التقرير بنجاح "إثبات الرفض" حيث تم توزيع 32 ألف نسخة من رسالة المرشد الأعلى المترجمة إلى تسع لغات. ويضيف أن الممثلين عن بعثات الحج عقدوا عدة لقاءات مع شخصيات سياسية أجنبية مثل نائب الأمين العام لـ «حزب الله» نعيم قاسم. ويفيد أيضاً أن رجال الدين الإيرانيين الذين يجيدون لغات أجنبية تمكّنوا من مخاطبة عدة مجموعات من الحجاج غير الإيرانيين، بمن فيهم أولئك الذين قدموا من جنوب شرق آسيا. ويحدد التقرير أيضاً تكليف 4600 شخص بالعمل في "صحيفة رسالت" ومئات آخرين في "قناة ولايت" من بين مجموعات أخرى. وبالإجمال، تمكّن المبعوثون الدينيون الذين ترعاهم إيران من إجراء حوالي 7700 لقاء وحوار فعال نتج عن بعضها تحوّل أشخاصٍ سُّنة إلى المذهب الشيعي. ووفقاً للتقرير، "يظهر هذا الأمر خصوبة الأرض السعودية لزيادة وإثراء الأنشطة المشجعة على التشيّع". وبالفعل، فإن اللقاءات المنتظمة مع زعماء المجتمعات الشيعة، ومن بينهم الشيعة السعوديون، تندرج ضمن الأهداف الرئيسية لبعثات الحج.
بعثات الحج التابعة للمراجع الدينية
نظراً إلى الخصائص المميزة للسلطة الشيعية، قام المراجع البارزون (وهم من كبار رجال الدين الشيعة الذين يحملون مرتبة آية الله العظمى) بإقامة بعثات دائمة أو دورية خاصة بهم في مكة المكرمة والمدينة المنورة. ووفقاً لتقرير مختاري من عام 2014، ينقسم عدد رجال الدين في كل بعثة من بعثات المراجع (باستثناء موظفي السَوْقيّات [الموظفين اللوجستيين]) على النحو التالي: محمد تقي بهجت (6)، جواد التبريزي (16)، السيد كاظم الحائري (8)، محمد سعيد الحكيم (9)، عز الدين الزنجاني (4)، علي السيستاني (28)، محمود الهاشمي الشاهرودي (15)، موسى الشبيري الزنجاني (10)، الصافي الكلبايكاني (12)، يوسف الصانعي (7)، جواد اللنكراني (16)، محمد إسحاق الفياض (4)، ناصر مكارم الشيرازي (13)، عبد الكريم الموسوي الأردبيلي (10)، حسين نوري الهمداني (10)، حسين وحيد الخراساني (9).
وتجدر الإشارة إلى أن المرشد الأعلى خامنئي هو أيضاً مرجع، وتشمل بعثته أحد عشر من كبار رجال الدين - علماً بأن هذه البعثة مستقلة مبدئياً عن "مكتب قائد الثورة الإسلامية". ووفقاً لمسؤولين إيرانيين يتعيّن على بعثات الحج التابعة للمراجع الآخرين التنسيق مع بعثة خامنئي حتى وإن كان أعضاؤها غير إيرانيين، وأنه لا يحق لهم إرسال أي رجل دين دون موافقة ممثلي المرشد الأعلى.
الخاتمة
على الرغم من أن المكاتب الدينية الشيعية العديدة التي تعمل في المملكة العربية السعودية خلال موسم الحج تعتبر رسمياً هيئات مستقلة، إلا أنها تخضع عملياً لسيطرة النظام الديني في إيران، كما أن أعمالها تخلّف تأثيرات جدية على العلاقات السعودية الإيرانية وعلى التوترات بين الشيعة والسنة على حدٍّ سواء. بالإضافة إلى ذلك، يتم تحويل ملايين الدولارات نقداً عبر هذه المكاتب إلى مختلف الجماعات والأفراد المسلمين، وتوزَّع بدون أي شفافية عبر شبكات وآليات غامضة. وبهذه الطريقة تتسنى لإيران فرصة مثالية ليس فقط لتسهيل اتصالاتها مع الجماعات الأجنبية، بل لمنحها أيضاً الدعم المالي دون الحاجة للمرور عبر الأنظمة المصرفية الدولية أو لفت انتباه الحكومات الأجنبية. وباختصار، إنّ الجهاز الضخم التابع للمرشد الأعلى والمعني بشؤون الحج في إيران وفي مكة والمدينة يوفر فسحة لا يمكن الاستغناء عنها لخدمة أجندة النظام الإيراني، المتمثلة بتصدير "الثورة الإسلامية"، والدعوة لاعتناق المذهب الشيعي الإيراني، ونشر المشاعر المعادية للغرب.
مهدي خلجي، وهو رجل دين شيعي درس في قم، وزميل "ليبيتزكي فاميلي" في معهد واشنطن.