- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
باربرا والترز، راعية السلام
تأملات في الدور التاريخي للصحفية الراحلة في رعاية حوارات (ومآدب عشاء) هامة بين مسؤولين إسرائليين وعرب.
يعود الجزء الأكبر من شهرة الصحفية اللامعة باربرا والترز، التي توفيت يوم الجمعة 30 كانون الأول/ديسمبر 2022، عن عمر يناهز 93 عاماً، إلى مقابلاتها مع قادة الشرق الأوسط، مثل شاه إيران، وصدام حسين، ومعمر القذافي، والملك حسين ملك الأردن، والملك عبدالله ملك السعودية، والملك عبدالله ملك الأردن، وموشيه دايان، وغولدا مائير، وياسر عرفات.
إلا أن أياً من هذه المقابلات لم يحقق النجاح الذي حققته المقابلة التي أجرتها في 20 تشرين الثاني/نوفمبر 1977 في إحدى قاعات الكنيست الإسرائيلي في القدس مع رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن والرئيس المصري أنور السادات.
لقد قابلَتْهما معاً وسط صخب الزيارة المفاجئة التي قام بها السادات إلى القدس وتماماً بعد أن ألقيا خطابيهما أمام الكنيست الإسرائيلي. وتعدّ المقابلة المشتركة بمثابة إنجاز كبير، روت والترز لاحقاً كيفية حدوثها. (أخبرها بيغن بأنه طلب من السادات القيام بذلك "من أجل صديقتنا العزيزة باربرا"، ووافق السادات على إجراء المقابلة).
وبذلك، حصلت والترز على سبق صحفي، مشيرةً في مذكراتها إلى أنها "أهم مقابلة في حياتي المهنية". غير أن الأجوبة التي حصلت عليها لم تدفع قيد أنملة إسرائيل ومصر إلى إبرام اتفاق. وقد بذلت والترز جهدها بحثاً عن تنازلات ممكنة من الزعيمين. وفي هذا الإطار، توجه إليها السادات بلطف منتقداً "أهذه هي عادتك يا باربرا؟ السياسة لا تجري على هذا النحو"، لتجيبه: "عليّ الاستمرار بالمحاولة".
إلا أن هذا الجو من المودة داخل القاعة لم ينجح في إخفاء الخلافات العميقة بين بيغن والسادات، في تلك الأيام الأولى من المفاوضات التي استمرت لسنوات. لكن لا علاقة للصحافة بالدبلوماسية، فلا يمكن لمشاهير الإعلام الذين يعملون تحت الأضواء المقاربة بين المصالح المتعارضة. ومع ذلك، استعان السادات بوالترز وقبلها بوالتر كرونكايت (الذي أجرى مقابلات مع السادات وبيغن) لدفع إدارة كارتر المنشغلة عن هذه القضية إلى التصرف. ولكن بمجرد بدء الدبلوماسية الأمريكية بالعمل حتى ازداد التعتيم الإعلامي، لتجد والترز نفسها تطوف خلسة في محيط كامب ديفيد.
صداقة؟ بهذه السرعة؟
لقد تم نسيان ملاحظة هامشية متعلقة بالمقابلة التي أُجريت في الكنيست، ولكنها تستحق إعادة النشر. كانت والترز الدؤوبة تبحث عن سبقها الصحفي التالي، وبدأت بمجموعة أسئلة لتحديد مسار المقابلة. فجرى الحوار على النحو التالي:
والترز: بعد يوم غد، هل سيتمكن، على سبيل المثال، سفيرا بلديكما في واشنطن من الاجتماع والتحدث؟
السادات: ولمَ لا؟
والترز: حسناً، لأنهما لم يفعلا ذلك يوماً.
السادات: لم يحدث ذلك قط، أنت محقة. ولكن كما قلتُ اليوم، نحن مستعدون.
بيغن: لكل شيء بداية ولا يسعني سوى التعبير عن عمق ارتياحي لكلام الرئيس. وآمل أن يبدأ سفراء مصر وإسرائيل في جميع أنحاء العالم من يوم غد بإجراء مقابلات مشتركة مع الصحفيين والتعبير عن آرائهم، وسينطبق ذلك أيضاً على الأمم المتحدة.
(شاهد هذا الحوار هنا، عند الدقيقة 19:45).
ولكن الأمر اختلط على سفراء مصر في جميع أنحاء العالم نتيجة هذا الأخذ والرد. وتسببت زيارة السادات بإحداث حالة من الفوضى في وزارة الخارجية المصرية، إذ استقال وزير الخارجية، إسماعيل فهمي، قبل يومين من الرحلة. وبعد ذلك أدت تصريحات السادات في القدس إلى تعميق حالة عدم اليقين التي تعقدت بسبب إجابته على سؤال آخر طرحه والترز: "هل ما زلت تعتبر أنك في حالة حرب؟" السادات: "نعم للأسف".
وحاول "مصدر دبلوماسي" توضيح الموقف لصحيفة "نيويورك تايمز" مفيداً بأن "الجلسات التلفزيونية للسيد السادات في القدس قد ضللت المصريين في الخارج بشأن ما إذا كان عليهم أيضاً البدء بتكوين صداقات مع نظرائهم الإسرائيليين أم لا. وتشير معلومات صادرة عن القاهرة حالياً إلى أن رحلة الرئيس المصري كانت مناورة دبلوماسية استثنانية ولا ينبغي تفسيرها على أنها تشير إلى توطيد العلاقات".
ولكن ذلك لم يأخذ في الاعتبار عزم باربرا والترز الذي لا يلين.
ذكرت والترز من بين أصدقائها في واشنطن الرجل الدمث، أشرف غربال، الذي هو سفير مصري وسياسي مخضرم حاز على درجة الدكتوراه من جامعة هارفرد وعمل في السلك الدبلوماسي المصري لما يقرب من ثلاثين عاماً. وتولى إدارة قسم المصالح المصرية في واشنطن بعد عام 1967، وعُيّن مستشاراً أمنياً ومتحدثاً إعلامياً باسم السادات، ليعود إلى واشنطن بمنصب سفير خلال استئناف العلاقات بين الولايات المتحدة ومصر عام 1974. وكان غربال يجيد التكيف مع الصعاب، على خلاف خصمه اللدود فهمي، وبقي ملازماً للسادات (حتى أن الشائعات وصفته بأنه مرشح لمنصب وزير الخارجية). ولكن ما هي حدوده؟ هذا ما وضعته باربرا والترز تحت الاختبار.
مَن سيحضر أمسية العشاء؟
حالما غادر السادات القدس، توجهت والترز رأساً إلى غربال وإلى سيمحا دينيتز، السفير الإسرائيلي في واشنطن، وهو أيضاً سياسي مخضرم. هل سيوافقان على مقابلتهما معاً في برنامج "قضايا وأجوبة" الذي يُعرض بعد ظهر كل يوم أحد على شبكة "إيه بي سي نيوز"؟ مع العلم أن هذا الظهور الإعلامي هو حلم كل سفير أجنبي.
وافق دينيتز، بينما اعترض غربال الذي أبدى استعداده للقاء دينيتز ولكن ليس على شاشة التلفزيون. حسناً، هل يجتمع غربال بدينيتز بحضور جمهور؟ وافق غربال بشرط ألا يتم تسجيل اللقاء.
كيف يمكن لوالترز تحويل اجتماع غير مسجل إلى حديث الساعة؟ فكرت في أن تدعو عدداً من كبار المسؤولين ومشاهير الصحافة إلى العشاء. وعند ذلك قامت شبكة "إيه بي سي" حيث تعمل والترز بحجز قاعة طعام في فندق ماديسون ودعت خمسين شخصاً إلى العشاء على شرف السفيرين. نعم، لن يتم تسجيل الاجتماع ولكن الخبر سيصل إلى جميع الأشخاص المناسبين. وربما يمهد هذا الطريق لسبق صحفي آخر. وفي النهاية، كان العرض بين الإسرائيلي والمصري قد بدأ للتو.
كانت قائمة الحاضرين متألقة. فقد حضر من إدارة كارتر زبينغيو بريجنسكي (مستشار الأمن القومي) وهاملتون جوردن (كبير المستشارين السياسيين للرئيس كارتر) وروبرت شتراوس (الممثل التجاري للولايات المتحدة). بينما حضر من وسائل الإعلام روني أرليدج (رئيس "إيه بي سي نيوز"، والمشارك في استضافة مأدبة العشاء) وبن برادلي (محرر صحيفة "واشنطن بوست") وآرت بوخوالد (كاتب عمود في "واشنطن بوست") وسام دونالدسون (مراسل "إيه بي سي" في البيت الأبيض) وكاثرين غراهام (صاحبة "واشنطن بوست") وبيتر جينينغز (كبير المراسلين الأجانب في "إيه بي سي") وسالي كوين (مراسلة في صحيفة "واشنطن بوست") ووليام سافاير (كاتب عمود في صحيفة "نيويورك تايمز"). بالإضافة إلى تيب أونيل (رئيس مجلس النواب) وجيم رايت (زعيم الأغلبية في مجلس النواب) وآبي ريبيكوف (سيناتور يهودي نافذ) من الكونغرس الأمريكي وأيضاً أردشير زاهدي (سفير إيران اللامع) من السلك الدبلوماسي.
غير أن أهم الضيوف كان هنري كيسنجر الذي شارك بصفته وزير خارجية في الإدارة السابقة للرئيس نيكسون، في المفاوضات بشأن اتفاقين، وليس اتفاق واحد فحسب، على فض الاشتباك العسكري بين إسرائيل ومصر في عامي 1974 و1975.
وأقيمت مأدبة العشاء في مساء يوم 4 كانون الأول/ديسمبر. وعندما جاء دور كيسنجر في الكلام، قال مازحاً: "لم أخاطب جمعاً موقراً كهذا منذ تناولت العشاء وحدي في قاعة المرايا [في فيرساي]". إلا أن أهمية الأمسية لم تنشأ من ترحيب كيسنجر أو الإطراءات المتبادلة بين غربال ودينيتز (التي لا سجل لها) بل من إحضارها بعضاً مما جرى في القدس إلى واشنطن وجذب الانتباه في واشنطن. وفي السياق نفسه، اعتبرت مجلة "بيبل ماغازين" أمسية العشاء بأنها "نقطة تحول في السياسة والحوار"، كما وصف وليام سافاير من جهته الجو لقراء "نيويورك تايمز": "هناك في تلك القاعة وفي تلك اللحظة، حتى أكثر وسائل الإعلام تشاؤماً لا يسعها سوى أن تتأثر بروعة بداية التواصل بين متحدثَين قويَين لأمتين قضتا جيلاً في الحرب".
وبدقيق العبارة، لم تحصل والترز من المقابلة على أكثر مما قدمته )كما يجري عند الحصول على مقابلة كبيرة). ففي يوم الحدث، نشرت صحيفة "واشنطن إيفنينغ ستار" مقالاً كثرثرة صحفية وصفت فيه أمسية العشاء المقررة بأنها تكملة لمهرجان "الدبلوماسية الإعلامية" الذي بدأ في القاهرة والقدس. وردّت والترز بأنه لم يكن هناك أي بيان صحفي أو بث مباشر أو كاميرات لمحطة "إيه بي سي" ولا أي دبلوماسية. وشددت على ذلك بقولها: "لو كان من الممكن إقامة مأدبة العشاء في نيويورك، لكنت قد استضفتهم في منزلي". هل زاد العشاء من شهرتها؟ بالطبع بكل تأكيد. هل أثّر بأي شكل في معدلات مشاهداتها وفق مؤشر "نيلسن"؟ لا على الإطلاق.
أكثر من مجرد عشاء
كانت لأمسية العشاء أثران آخران محتملان. أولاً، من الممكن أنها ساهمت في تحفيز إدارة كارتر. فقد باغتت خطوة السادات جماعة كارتر. وكتب كارتر في دفتر يومياته بعد أسبوع من زيارة السادات إلى القدس: "ثمة ارتباك عام في الشرق الأوسط حول ما يجب علينا فعله تحديداً بعد ذلك"، وأضاف "الارتباك نفسه يسود البيت الأبيض". وظهر هذا الارتباك في مأدبة فندق ماديسون. فقد بقي بريجنسكي، مستشار الأمن القومي لكارتر، أثناء تقديم المشروبات لكنه غادر قبل العشاء، مما أثار بعض الدهشة والتساؤلات حول سبب عدم بقائه لرفع نخب. وأفادت بعض التقارير بأن جوردان، المستشار السياسي لكارتر، تصرف بفظاظة مرات عديدة وقال أثناء تحديقه في قميص السيدة غربال: "كنت أرغب دائماً في رؤية الأهرامات". سواء أكان ذلك صحيحاً أم لا، فقد أثارت الحادثة مقالاً في كل صحيفة وتم نشر قصة إخبارية كاملة في صحيفة "نيويورك تايمز".
جاء العشاء ليذكر مجدداً إدارة كارتر بأن عليها أن تبدأ بأسرع وقت بالعمل بكفاءة واستباقية. وكانت "وكالة المخابرات المركزية" الأمريكية قد أصدرت للتو نبذة عن السادات مشيرةً إلى أنه يعاني من "متلازمة باربرا والترز"، مما يعني إحساساً بأهمية الذات تضخمه وسائل الإعلام. لكن من يستطيع أن يلومه؟ لقد أخذتْه هي على محمل الجد، بينما لم تفعل جماعة كارتر ذلك. وبالتالي، توجب على الإدارة الأمريكية زيادة اهتمامها بعملية السلام (وفصل هذه العملية عن كيسنجر)، ويبدو على الأرجح أن مأدبة العشاء سرّعت ذلك.
ثانياً، أطلقت مأدبة العشاء نوعاً مختلفاً من العروض، ببطولة أشرف غربال وأحد السفراء الإسرائيليين. وذهبت الاجتماعات غير المسجلة أدراج الرياح إذ أراد السادات إقناع اليهود الأمريكيين بدعم التنازلات الإسرائيلية، وأراد بيغن تطبيعاً سريعاً. كيف يمكن القيام بكلا الأمرين؟ عبر ظهور غربال اللطيف أمام الجماهير اليهودية الأمريكية في عرض ودي يعبر عن الصداقة مع سفير إسرائيل.
وهكذا بدأ عرض غربال ودينيتز وانتقل إلى مختلف المعابد اليهودية وقاعات الطعام. إلا أن أكبر ظهور حدث بعد عام من أمسية عشاء والترز، وذلك في مأدبة غداء "رابطة مكافحة التشهير" التي استضافت 250 شخصاً في قاعة رقص فندق "البلازا" في مانهاتن حيث ألقى كيسنجر دعاباته وتحدث غربال ودينيتز عن السلام وحصلت باربرا والترز (مع مذيعي الأخبار والتر كرونكايت وجون تشانسيلور) على جوائز من الرابطة لمنحها "قوة دفع هائلة لعملية السلام بين إسرائيل ومصر". ولا بدّ أن التصفيق كان مدوياً.
وفي آذار/مارس 1980، أصبح العرض أخيراً الأكثر أهمية في أمريكا. وحصل كارتر على الحق في تأدية دور المضيف بعد أن وقّع شخصياً معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في العام الذي سبق. واحتفالاً بالذكرى السنوية الأولى لانتصاره، استدعى غربال وإفرايم إيفرون (الذي حل محل دينينز على الجانب الإسرائيلي) إلى حفل استقبال احتفالي أقيم في قاعة المدخل الكبير للبيت الأبيض، ألقى فيه كارتر الكلمة الرئيسية (بلا روح الدعابة بالطبع)، وألقى السفيران سطورهما التي تم التدرب عليها جيداً.
الدبلوماسية والمشهد
قال إيفرون عن لقاءاته العديدة مع غربال: "لقد كنا مثل توأمين سياميين (ملتصقين) وأثار ذلك اهتمام الجمهور". كان الحفاظ على اهتمام الجمهور جزءاً من العملية ووقع معظمه على عاتق غربال، فبحلول الوقت الذي وصل فيه إلى واشنطن كان دينيتز وإيفرون قد خلفهما سفيران إسرائيليان آخران. وتقاعد غربال أخيراً في عام 1984. ولاحظت صحيفة "واشنطن بوست" أن "الظهور المشترك لغربال ومجموعة متعاقبة من الدبلوماسيين الإسرائيليين الذين عملوا هنا خلال السنوات الست الماضية كان أحد المشاهد الدائمة في واشنطن". ودام ذلك لأنه كان يصب في المصلحة المصرية. وأدرك غربال، كما أدرك السادات، أنه إذا كنت ترغب في الحصول على شيء من إسرائيل، فإن الشكوى إلى البيت الأبيض ووزارة الخارجية لن تحرز لك أي شيء، إنما عليك أن تثير إعجاب اليهود الأمريكيين، وهو فن أتقنه غربال.
ويصعب الحديث عن رأيه في ذلك كله. فهو لم يذكر أياً من ذلك في مذكراته العربية التي كتبها بعد مضي عشرين عاماً على تقاعده. ربما كان معظم قرائه المصريين بحلول ذلك الوقت قد اعتبروا كل هذا الاحتكاك والسرور مع الإسرائيليين واليهود على أنه شبيه بالخيانة. ولكنه قام بواجبه المهني وعلى أحسن وجه.
بذلت باربرا والترز أفضل جهودها. فالرفوف تمتلئ بكتب عن الدبلوماسية السرية الكامنة وراء اتفاق السلام المصري الإسرائيلي، علماً أنه من الصعب العثور حتى على مقال واحد جاد عن جهود التسويق لهذا السلام. ولذلك عندما تتم كتابة هذه القصة أخيراً ، يجب أن تحصل والترز على فصل خاص بها. وبطبيعة الحال، ستحتل المقابلة المزدوجة الشهيرة في القدس مكان الصدارة. لكن ربما تركت مأدبة العشاء في واشنطن إرثاً أكثر ديمومة. وفي هذا الإطار، كتبت والترز في مذكراتها: "صدقوني، كان هذا حدثاً كبيراً"، مضيفةً "حتى اليوم، نادراً ما يجتمع السفير المصري والسفير الإسرائيلي على مأدبة عشاء واحدة". وبالفعل، بعد مرور هذه المدة من الزمن، يصبح الحدث أكثر استثنائية كل يوم.
مارتن كريمر هو زميل "والتر بي ستيرن" في معهد واشنطن. وتم نشر هذه المقالة في الأصل على موقعه على الإنترنت.