- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 2449
عباس يستهدف مسؤولين فلسطينيين بارزين
تشهد الساحة السياسية الفلسطينية أياماً حافلة في الآونة الأخيرة. ففي 15 حزيران/يونيو 2015، جمّد المدعي العام في السلطة الفلسطينية أصول منظمة «فلسطين الغد» غير الحكومية التي أسسها ويديرها رئيس الوزراء السابق سلام فياض. وفي 30 حزيران/يونيو، أبلغ رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير بإعفاء ياسر عبد ربه من مهامه كأمين سر اللجنة. وقد جرت هذه الأحداث على خلفية عملية تشكيل حكومة فلسطينية يلفها الغموض.
الخلفية
ليست هذه المرة الأولى التي يستهدِف فيها الرئيس عباس كل من فياض وعبد ربه. ففي آب/أغسطس الماضي، دققت السلطة الفلسطينية في حساباتهما للاشتباه بتخطيطهما للقيام بانقلاب ضد عباس. وقد غابت تلك الإجراءات عن الأضواء بهدوء، من دون توجيه تهم رسمية إليهما أو اتخاذ أي إجراء قانوني آخر ضدهما.
ويُنسب إلى فياض الفضل في قيامه بإصلاحات واسعة النطاق واتخاذه تدابير لمكافحة الفساد استهدفت المؤسسات المدنية والأمنية للسلطة الفلسطينية خلال ولايته كرئيس للوزراء ووزير للمالية. وبعد تقديم استقالته إثر الضغوط التي مارسها عباس عليه، أسس فياض منظمة «فلسطين الغد» التي تقدم الخدمات والدعم للفئات الضعيفة من المجتمع الفلسطيني.
أما عبد ربه فهو سياسي فلسطيني متمرس، وعضو في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية منذ عام 1971- وهي أعلى هيئة لصنع القرار في المنظمة، التي شغل فيها منصب أمين السر منذ عام 2005. وكان عباس نفسه يشغل منصب أمين سر المنظمة إلى حين انتخابه رئيساً للسلطة الفلسطينية ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية. وبعد أن قررت منظمة التحرير في عام 1988 قبول قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 - الذي وضع شروطاً جديدة بعد حرب الأيام الستة - ونبذ الإرهاب، كان عبد ربه أول مسؤول من منظمة التحرير الفلسطينية يلتقي مع نظيره الأمريكي. ومنذ البداية ظل عبد ربه ناشطاً في عملية التفاوض مع إسرائيل، وغالباً ما كان يرأس الوفد الفلسطيني في المفاوضات الرسمية وغير الرسمية.
إن عبد ربه وفياض مستقلان سياسياً ويُعتبران حليفين سياسيين، رغم عدم وجود علاقات تنظيمية رسمية بينهما. ويُنظر إليهما بأنهما مقربان من الغرب، وخاصة الولايات المتحدة. كما أنهما يتمتعان بعلاقات قوية مع الإمارات العربية المتحدة. وقد حافظ كل منهما بشكل منفصل على علاقة مع محمد دحلان، منافس عباس، الذي يتخذ من أبو ظبي مقراً له، وإن كانت هذه العلاقة غير منتظمة. وبين الحين والآخر، كان كل من فياض وعبد ربه، اللذين يؤيدان حل الدولتين علناً، ينتقدان سياسات الرئيس عباس، غير أنهما لم يعبّرا غالباً عن معارضتهما لهذه السياسات سوى في اجتماعات القيادة المغلقة وليس علناً أو في وسائل الإعلام. ولطالما كانت علاقة الرجلين بحركة «فتح» متوترة، ذلك أنهما "لا ينتميان" إلى الحركة، بالإضافة إلى بعض الإجراءات الرسمية المحددة التي اتخذاها والتي أدت إلى إضعاف احتكار حركة «فتح» لمؤسسات السلطة الفلسطينية وشؤونها المالية.
الإطار القانوني
تطرح التدابير التي اتُخذت مؤخراً بحق فياض وعبد ربه أسئلة قانونية وإجرائية. ففيما يتعلق بفياض، أُسقطت الاتهامات الأولية ضده حول تبييض الأموال بعد أن اكتُشف أن حساباته نظيفة؛ وقد شملت عمليات التدقيق تلك التي قامت بها وحدة مكافحة غسل الأموال التابعة للسلطة الفلسطينية. ولكن في النهاية، أمر المدعي العام مباشرة وبدون أمر قضائي بتجميد أصول فياض بتهمة "إدارة مال سياسي"، وهي تهمة لا ينص عليها قانون السلطة الفلسطينية.
إن قرار إعفاء ياسر عبد ربه، الذي لم يُنشر رسمياً كما لم يتم إخبار عبد ربه نفسه حوله، يطرح أسئلة إجرائية إضافية. فقد اتخذ عباس هذا القرار شخصياً بصفته رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية، وفي غياب عبد ربه ودون إجراء تصويت من قبل اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت قد انتخبت عبد ربه لهذا المنصب. وتشير تقارير من الاجتماع الذي تم خلاله إعلام اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير بقرار الإعفاء أن ما لا يقل عن ثلاثة فصائل من المنظمة وهي، «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، و «الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين»، و «الاتحاد الديمقراطي الفلسطيني»، اعترضت على القرار. وفي الواقع، لم يحصل في تاريخ منظمة التحرير على الإطلاق، منذ تأسيسها قبل نصف قرن وحتى الآن، أن أقال الرئيس أمين سر المنظمة بقرار منفرد.
الدوافع السياسية
يبدو أن هذه القرارات الأخيرة لم تُتخذ لاعتبارات قانونية، بل بناءً على ديناميكية الاحتكار والإقصاء السياسية التي اتسمت بها الولاية الرئاسية لمحمود عباس.
وفي الواقع، منذ أن تسلم عباس سدة الرئاسة، سعى بانتظام إلى احتكار السلطة. وتماشياً مع هذا التوجه، أصدر مرسوماً يخوله أن يصبح أمين سر المنظمة بالوكالة، مضيفاً هذا اللقب الجديد إلى سلسلة الألقاب التي يحملها، والتي تضم بالفعل ألقاب رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ورئيس دولة فلسطين، ورئيس حركة «فتح»، والقائد العام للقوات المسلحة، وغيرها.
وبالإضافة إلى الألقاب، يجمع عباس سلطات غالباً ما تتخطى نطاق صلاحياته الدستورية. فحالياً، على سبيل المثال، تأخذ قوى الأمن الداخلي للسلطة الفلسطينية أوامرها من الرئيس، الأمر الذي يتعارض مع "القانون الأساسي" الفلسطيني الذي يمنح السلطة على هذه الخدمات للحكومة وفقاً للتعديل الذي تم إدخاله عام 2003. وفي الواقع، إن الغياب المستمر لوزير داخلية ذو صلاحيات واسعة - وهو مطلب يعود تاريخه إلى مبادرة خارطة الطريق حول السلام في الشرق الأوسط من عام 2003 - يشكل عائقاً أساسياً أمام جهود الولايات المتحدة والمجتمع الدولي الرامية إلى مواصلة تطوير قطاع الأمن الفلسطيني. وخلال عملية تشكيل الحكومة الفلسطينية الأخيرة في عام 2013، خرق عباس مرة أخرى "القانون الأساسي" من خلال إصراره مباشرة على تعيين وزراء محددين. ومن المفارقات، أن هذا الحظر قد صدر لحماية عباس نفسه من تدخل الرئيس ياسر عرفات عندما كان عباس يقوم بتشكيل حكومته في عام 2003.
وقد مارس عباس سياسة احتكار مشابهة كرئيس لحركة «فتح». فعلى سبيل المثال، تعقد الحركة مؤتمرات لانتخاب هيئاتها الإدارية المختلفة. وكان من المفترض أن يلي "المؤتمر السادس لـ حركة «فتح»"، في عام 2009، انعقاد مؤتمر سابع في عام 2014، ولكن تم تأجيله بشكل متكرر. وفي غضون ذلك، جرى تهميش منتقدي عباس ومنافسيه المتصوَّرين، حتى إن بعضهم - وأبرزهم محمد دحلان - طُرد من الحركة، وغيرهم، مثل المبعوث السابق للأمم المتحدة ناصر القدوة، أُزيحوا بصورة غير رسمية. ولم يتم استهداف المسؤولين الرفيعي المستوى فحسب، بل أيضاً أولئك الحديثي العهد الذين يُشكك في ولائهم لعباس.
وبالتوازي مع هذه الممارسات، ضُيق الخناق على الساحة السياسية الفلسطينية وعلى الحريات العامة. فإلى جانب الإجراءات العقابية التي اتُخذت ضد شخصيات عامة مثل فياض وعبد ربه وآخرون لتشكيكهم بسياسات عباس، فإن المدونين، والهجائيين، ونشطاء المجتمع المدني الذين يؤيدون التعاطي مع إسرائيل يجدون أنفسهم في كثير من الأحيان يواجهون مضايقات أو حتى اعتقالات من قبل السلطة الفلسطينية. وبالمثل، تشير التقارير الأخيرة إلى أن السلطة الفلسطينية تخطط لفرض قيود على تمويل منظمات المجتمع المدني الفلسطينية وعملياتها. و تدريجياً، بدأت فلسطين - التي لطاما اعتُبرت من أكثر الكيانات السياسية العربية تنوعاً وحيوية - تتحول تدريجياً إلى ما يشبه بالأنظمة العربية الأستبدادية التقليدية والنمطية، وهي عملية بدأها عرفات وسرّع وتيرتها عباس.
السياق السياسي
تكمن وراء هذه الخطوات الأخيرة التي استهدفت فياض وعبد ربه، أزمات عميقة تواجه السلطة الفلسطينية. فبعد انهيار المفاوضات مع إسرائيل في العام الماضي، ونظراً إلى الطريق المسدود الذي يواجه استراتيجية القيادة الفلسطينية في الأمم المتحدة، يبذل عباس قصارى جهده لصياغة استراتيجية دبلوماسية قوية لتحقيق قيام دولة فلسطينية. بالإضافة إلى ذلك، لم تنجح إجراءات الحوكمة في ظل حكم السلطة الفلسطينية، التي تعاني من وضع مالي غير مستقر- بعد تحسين صورتها في أذهان المواطنين في ظل الإصلاحات التي قام بها فياض خلال فترة حكمه - ويُنظر إليها ثانية من قبل عدد كبير من الفلسطينيين على أنها فاسدة. كما أن العلاقات مع الحلفاء والداعمين العرب المعتدلين التقليديين في المنطقة متوترة أيضاً. وقد أصبحت العلاقات بين السلطة الفلسطينية، والإمارات العربية المتحدة وقطر على وجه الخصوص، عدائية - لأسباب مختلفة مع دولة الإمارات، بما فيها استضافتها لدحلان، وبسبب دعم الدوحة لـ حركة «حماس»، منافسة عباس. وعلاوة على ذلك، فإن العلاقة مع الأردن ومصر باردة، كما أن السلطة الفلسطينية لم تُقيم بعد علاقات متينة مع القيادة السعودية الجديدة.
وفي هذه الأثناء، ما زال الانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة، اللتان تحت سيطرة «فتح» و «حماس» على التوالي، ينهش عموم الجهاز السياسي الفلسطيني، مع تداعيات جذرية على عملية إعادة إعمار غزة. وقد ابتدأ إعلان عباس الأخير عن خططه لتشكيل حكومة جديدة بتغطية رفيعة المستوى، من بينها مناقشة الموضوع مع وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس، بهدف عزل «حماس» على الصعيدين المحلي والإقليمي. ومع ذلك، يبدو أن الصخب الأولي الذي أثارته هذه المسألة قد خف. وتم تعليق الخطط الهادفة إلى تشكيل حكومة تمثل جميع الفصائل وتلتزم صراحة بمبادى "اللجنة الرباعية الدولية" حول الاعتراف بإسرائيل ونبذ الإرهاب، وذلك لصالح إجراء تعديل وزاري محدود.
ولكن حتى التعديل الوزاري يحمل مخاطر، حيث تصر «حماس» على أن مثل هذا التطور يمثل خرقاً لاتفاق المصالحة الذي عُقد في القاهرة، الأمر الذي يسمح لـ «حماس» بأن تتنصل من اتفاق المصالحة بكامله وأن تلقي مسؤولية فشله على «فتح». وقد تبيَّن أيضاً أن "حكومة الوفاق الوطني" كانت مجرد وهم، إذ إن «حماس» لم تسمح لها إطلاقاً بالعمل داخل قطاع غزة. إلا أنها كانت رواية مفيدة، لأنها سمحت للجهات الإقليمية الفاعلة، وفي مقدمتها مصر، بالإصرار على أن عملية إعادة الإعمار في غزة لا يمكن أن تتم إلا عن طريق حكومة عباس، وبالتالي الضغط على «حماس» وتهميشها. ومع انهيار هذه الحكومة، يمكن لـ «حماس» أن تقدّم نفسها على أنها المرجعية الوحيدة فعلياً لإعادة الإعمار في غزة، وبالتالي اكتسابها شرعية دولية، فضلاً عن حصولها على الأموال والمواد لإعادة الإعمار.
التداعيات
سوف يتم حل القضيتان المعيّنتان لفياض وعبد ربه في إطار السياسة الفلسطينية المحلية وفي السياق الإقليمي المباشر. غير أن التوجهات العامة التي كُشفت بفضل الإجراءات التي اتُخذت ضدهما تثير مخاوف تتعلق بالنظام السياسي الشامل.
وإذا استمر تآكل الإصلاحات المؤسساتية التي كرسها "القانون الأساسي" الفلسطيني والتي طبقها فياض في الأصل دون انقطاع، فسوف تستمر الشرعية الوطنية للسلطة الفلسطينية في معاناتها [تحت وطأة هذا التآكل]. ففي النهاية، كانت حركة «فتح» قد خسرت الانتخابات البرلمانية عام 2006 كنتيجة مباشرة لوجهات النظر العامة المتعلقة بفساد السلطة الفلسطينية وسوء الإدارة التي تمارسها. وبالمثل، فإن الطبيعة المتهورة وغير المدروسة للقرارات مثل تلك التي تتعلق بتشكيل الحكومة ستشكل فرص يتم استغلالها من قبل المنظمات الشبيهة بـ «حماس».
وعلى الرغم من أن الإدارات الأمريكية السابقة، وأبرزها إدارة الرئيس جورج دبليو بوش، قد أعطت الأولوية لقضايا الحوكمة الفلسطينية والحريات العامة، إلا أن هذه القضايا لم تعد تلقى اهتماماً الآن كما في السابق. ولكن إذا أردنا أن نعالج قابلية السلطة الفلسطينية على الاستمرار ومستقبل الشعب الفلسطيني، بشكل جوهري، فإن مسائل الحوكمة والديمقراطية والحريات العامة ينبغي أن تصبح ثانية أولوية لكل من الولايات المتحدة والمجتمع الدولي.
غيث العمري هو زميل أقدم في معهد واشنطن.