- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 2858
فصل المجتمع المدني عن الجهاديين في إدلب
خلال الأشهر الأخيرة، أسست «هيئة تحرير الشام»، الجماعة المرتبطة بتنظيم «القاعدة» والتي خلفت «جبهة النصرة» و«جبهة فتح الشام»، معقلاً لها في محافظة إدلب في سوريا. ولكي تتمكن الأطراف الخارجية من منع المزيد من سيطرة الجهاديين على المحافظة، لا سيما في القسم الشمالي الغربي منها، ستضطر إلى فصل المجتمع المدني عن «هيئة تحرير الشام» فضلاً عن جماعة متطرفة أخرى هي «أحرار الشام».
الخلفية
تأوي محافظة إدلب، التي يبلغ عدد سكانها الحالي نحو مليوني نسمة، عناصر «هيئة تحرير الشام» و«أحرار الشام» على حد سواء، وهما جماعتان سلفيتان-جهاديتان كانتا في السابق حليفتين وأصبحتا اليوم متنافستين. ففي السابق، أنشأت الجماعتان بشكل مشترك ميليشيا «جيش الفتح» التي سيطرت على معظم محافظة إدلب في عام 2015. واليوم، في حين أصبحت «هيئة تحرير الشام» مدرجة على قائمة الإرهاب الأمريكية، تمكّنت جماعة «أحرار الشام» من تجنب تصنيفها كمنظمة إرهابية، رغم أنها تتشارك إيديولوجيا نظيرتها المتطرفة ورؤيتها القائمة على الشريعة الإسلامية إزاء الحوكمة.
وفي ظل إحكام قبضتها بشكل كبير على إدلب منذ عام 2015، استفادت «هيئة تحرير الشام» وتشكيلاتها السابقة من انتقال مقاتليها من جنوب ووسط سوريا، من بين مناطق أخرى. وخلال معركتها مع «أحرار الشام» في وقت سابق من صيف 2017، استولت الجماعة الجهادية أيضاً على أراضٍ حيوية ومنشآت عسكرية ومعابر حدودية على غرار عتمة وخربة الجوز وباب الهوى. كما استولت على أسلحة وذخائر من فصائل مسلحة أخرى، بما فيها «جيش المجاهدين».
واليوم، تأوي إدلب أكثر من 20 ألف مقاتل إسلامي - وما يصل إلى50,000 وفقاً لبعض التقديرات - إلى جانب أسرهم. ولا تكمن قوة «هيئة تحرير الشام» في تفوّقها العسكري فحسب بالمقارنة مع فصائل عسكرية أخرى، بل أيضاً في مرونتها عند التفاوض بشأن صفقة ما على غرار وقف إطلاق النار مع «أحرار الشام» في صيف 2017، حين اتفق الطرفان على تأسيس إدارة بقيادة مدنية، من بين تدابير أخرى. كما حققت «هيئة تحرير الشام» نجاحاً متواضعاً في حكمها مدينة إدلب من خلال رعاية مشاريع اقتصادية وتقديم خدمات وبسط الأمن، فضلاً عن حملة توعية عامة هدفت إلى جعل مجتمع إدلب متديّناً ومحافظاً، وصقل جاذبيتها في خضم ذلك.
توترات حول الحوكمة
مع ذلك، تواجه «هيئة تحرير الشام» مقاومةً من شرائح كبيرة من المجتمع المدني السوري. ويرجع ذلك جزئياً إلى أنه، على الرغم من الأنشطة المذكورة، غالباً ما منحت الجماعة الأولوية للتغلب على خصمها «أحرار الشام» في مجال تقديم الخدمات. فعلى سبيل المثال، خلال الصراع مع «أحرار الشام»، فشلت الجماعتان في توفير الخدمات الأساسية للسكان مثل الكهرباء، على الرغم من أن نظام الأسد كان يتيح النفاذ مجاناً إلى البنية التحتية للطاقة الكهربائية. وبصرف النظر عن الدور الذي اضطلع به الأوصياء الجهاديون، لا يمكن تقسيم توزيع الكهرباء بشكل موثوق في إدلب حيث يعتمد السكان على مصدرين: مولدات ضخمة وكهرباء ذو جهد عالي توفره البنية التحتية للنظام، والتي يتمّ تزويدها لساعات قليلة فقط في اليوم. وبالتالي، وعلى الرغم من جهود «هيئة تحرير الشام» لإعادة تصنيف نفسها ككيان ثوري أصلي ومحلي، اعتبر عدد كبير من سكان إدلب أن سيناريو الكهرباء دليل على أن الجماعة تريد الاستئثار بالسلطة في المدينة أكثر من إدارتها بشكل منصف وفعال. وهكذا، لا يزال هؤلاء السكان يعتبرون الجماعة خطيرة وغريبة وغير مرحب بها.
وبعد أن انتصرت على «أحرار الشام»، تسيطر «هيئة تحرير الشام» حالياً على مصادر الطاقة الكهربائية في إدلب بما فيها الفرع المحلي لـ"مؤسسة توزيع الكهرباء" الرسمية. ومقابل كل نوع من أنواع إمدادات الكهرباء (سواء عبر المولدات أو تلك التي يوفرها النظام)، يدفع سكان إدلب رسماً يبلغ حوالي 5 دولارات/للأمبير الواحد. ووفقا لمنظمة غير حكومية مقرها في إدلب وناشطين محليين سوريين آخرين، تسعى الآن «هيئة تحرير الشام» إلى السيطرة على المياه والاتصالات وغيرها من الخدمات في حين يبدو أنها تحدّ من أنشطتها العسكرية. وستسفر مثل هذه السيطرة، التي تطمح إليها الجماعة بوضوح، عن المزيد من الأموال وتساهم في تعزيز وجودها الإقليمي بشكل أكبر.
وفي آب/أغسطس، سعت «هيئة تحرير الشام» إلى إطلاق "إدارة مدنية" تتولى قيادة المناطق "المحررة" في إدلب، مما يعني محاولة تخريب عمل المجالس المحلية المنتخبة والمدعومة من الولايات المتحدة وبريطانيا. ووفقاً لناشط يعمل أيضاً كمقاول لصالح منظمة غير حكومية مموّلة من الولايات المتحدة، تسعى «هيئة تحرير الشام» كلياً إلى انخراط أكبر في الشؤون السياسية والمدنية للمجتمع - وإظهار قدرة مُقابِلة للحوكمة.
وما يُظهر رغبتها في السيطرة على كافة مرافق الحياة في إدلب، أقدمت الجماعة على وقف مشروع لتنظيف الشوارع في مدينة إدلب في آب/أغسطس، زاعمةً أنه مدعوم من الولايات المتحدة ومرتبط بمجلس محلي. ووفقاً لناشط آخر، جاء أعضاء «هيئة تحرير الشام» إلى مستودع، حيث قاموا بإزالة كافة معدات التنظيف وهددوا المشاركين بعدم مواصلة المشروع. وأضاف الناشط أن سكان إدلب لم يكونوا راضين عموماً عن التدخل المفرط لـ «هيئة تحرير الشام» في مجال المجتمع المدني.
الفكر السلفي الجهادي 'الشامي'
على الرغم من أن «هيئة تحرير الشام» و«أحرار الشام» تنتميان إلى مدارس فكرية متشابهة، اكتسبت الجماعة الأولى تصنيفها الإرهابي بفضل إعلان ولائها في وقت سابق (خلال فترة «جبهة النصرة») لتنظيم «القاعدة» وزعيمه، أيمن الظواهري. ووفقاً لبعض المحللين، مثل رامي دالاتي، وهو إسلامي سوري "معتدل" مقيم في تركيا، يتمثل اختلاف آخر بين الفريقين في أن «أحرار الشام» لا تؤمن بفكرة الجهاد العالمي - أو استخدام الصراع المسلح لتوسيع العالم الإسلامي.
وفي غضون ذلك، يبرز منحى سلفي- جهادي جديد في إدلب يركّز على الشام (سوريا الكبرى)، مقارنةً بالمنحى "السلفي-الجهادي في نجد"، المرتبط بالسعودية. (ونجد هي المنطقة السعودية الأكثر ارتباطاً بالسلفية في المملكة). وقد استقطبت السلفية ذات القومية السورية بالفعل غالبية الإسلاميين وقادة الميليشيات العاملين في إدلب، ومعظمهم من «هيئة تحرير الشام» و«أحرار الشام». ووفقاً لعدة دراسات، مثل "السلفية، والجهادية، وتعريف الإسلام السني"، التي نشرها روب جاي ويليامز في عام 2017، فإن إحدى الطرق التي تختلف فيها "السلفية الشامية" عن الوهابية تتضمن تقاربها الكبير من الصوفية. وبطبيعة الحال، كانت الوهابية أساس الفلسفة السلفية-الجهادية التي اعتنقتها الجماعات الإرهابية مثل تنظيمي «القاعدة» و«الدولة الإسلامية».
ومن جهتها، تأثرت إيديولوجيا "السلفية الشامية" بعدد من العلماء الإسلاميين "الإصلاحيين"، مثل علي الطنطاوي (1909-1999) وبهجت البيطار (1894-1976( وعصام العطار (وُلد عام 1927). ويُعتبر العطار، الذي تزعَّم سابقاً جماعة «الإخوان المسلمين» في سوريا، مفكّراً سلفياً شامياً لأنه رفض التفسير المتطرف للقرآن و "السنّة" المعتمدين من قبل العلماء التقليديين. ووفقاً لرامي دالاتي، فإن "عصام العطار سلفي، لكن برنامجه السياسي كان "إخواني" التوجه [مرتبط بجماعة «الإخوان المسلمين»]. وتؤمن "السلفية الشامية" بالتغيير التدريجي، وبأن تطبيق الشريعة الإسلامية يجب أن يحصل من الأسفل إلى الأعلى، تماماً مثلما يفعل «الإخوان المسلمون». وفي المقابل، يرفض تفكير تنظيم «القاعدة» والوهابية التغيير التدريجي".
ومن بين الانحرافات المحددة التي تروّج لها "السلفية الشامية" هي حظر أي شكل من أشكال "الحدود" - ما يشير إلى العقاب البدني لارتكاب جرائم ضد الله - وقطع الرؤوس، في تعارض واضح مع ممارسات تنظيم «الدولة الإسلامية». وبرأي دالاتي، تسارع "سلفية نجد" إلى فرض عقوبة "الحدود"، في حين تعتبر "السلفية الشامية" أنه يجب حصر "الحدود" بأولئك الذين يرتكبون انتهاكاً فاضحاً لقانون الله على النحو الذي تحدده عملية محددة جداً و"شاملة".
ولا يقتنع ممثل «أحرار الشام» السابق لبيب النحاس بفكرة "السلفية الشامية" الناشئة. وبدلاً من ذلك، يعتقد أن «هيئة تحرير الشام» وزعيمها أبو محمد الجولاني، سيسعيان إلى إنشاء جماعة "وطنية" متميّزة عن تنظيم «القاعدة» يمكنها في نهاية المطاف وضع التنظيم الأم العابر للحدود وفروعه السورية في صراع. وخلال مقابلة عبر الإنترنت، وصف النحاس الجولاني بـ"المخادع" الذي "لم يهتم قط حقاً بتنظيم «القاعدة» أو بالجهادية"، بل ما يهمه هي السلطة فقط. ويرى النحاس أن جعل «هيئة تحرير الشام» جماعة وطنية سيعود بنتائج عكسية على الجولاني، مما يؤدي إلى مواجهات مع عدد من الجماعات الإسلامية المتطرفة النافذة الأخرى التي اعتبرها الجولاني سابقاً أنها تخدم مصالحه الخاصة.
السياسة الأمريكية
من الممكن أن تكون التداخلات بين «هيئة تحرير الشام» و«أحرار الشام» مربكة إلى حدّ كبير بالنسبة إلى الجمهور الغربي، لا سيما بالنظر إلى أن مختلف القادة في الجماعتين نادراً ما يتكلمون الإنجليزية بطلاقة. ويمثّل التباعد عن "سلفية نجد" - والمرونة والبراغماتية التي تنطوي عليها - سبباً آخر لمزيد من الارتباك.
ومن حيث المبدأ، سيتطلب إضعاف «هيئة تحرير الشام» تواجداً عسكرياً أمريكياً محدوداً، يشمل بعض القوات الخاصة، والاستخدام المحتمل لطائرات أمريكية بدون طيار لاستهداف زعماء متطرفين محدّدين واستحداث فصائل جديدة لتكون شريكة محلية وتنفذ عمليات برية. وسيُطلب من هؤلاء المقاتلين في النهاية الانتقال من قرية إلى أخرى لتعقّب أخطر المتطرفين ومؤيديهم.
وفي إطار أي مسعى أوسع يرمي إلى دحر «هيئة تحرير الشام» بالكامل في إدلب، لن تحظى الولايات المتحدة على الأرجح بالكثير من المساعدة من قوى أخرى. ومن المستبعد أن تتدخل شريكة محتملة، هي تركيا، نظراً للصراعات القائمة في سوريا والتركيز على قوات كردية مدعومة من «حزب الاتحاد الديمقراطي». وبالفعل، قد تضطر واشنطن إلى ممارسة بعض الضغوط الدبلوماسية لمنع أنقرة من غض الطرف، أو حتى مساعدة «هيئة تحرير الشام» كوسيلة لوقف تقدم «حزب الاتحاد الديمقراطي». وبالمثل، سيتطلب الهدف الأكثر طموحاً للقضاء على «هيئة تحرير الشام» في إدلب تدخلاً عسكرياً أمريكياً أكبر بكثير، يشمل استخدام أسلحة ثقيلة وتوفير دعم قتالي مباشر إلى الفصائل المحلية التي تم التدقيق والتحقق منها. وأخيراً، ستحتاج المناطق المحررة من «هيئة تحرير الشام» إلى إدارة مدنية، يفترض أن تشكّل قوامها المجالس المحلية الممولة أساساً من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا.
وأياً كان شكل التدخل الأمريكي المحتمل، فإن تحديد شركاء محليين جدد، لا سيما في سياق "سلفية شامية" ناشئة، سيتطلب أساليب مبتكرة، فضلاً عن تجربة خبراء محليين وغربيين على حد سواء فيما يتعلق بمعرفة الأهداف التي يروج لها كل جانب.
روان رجولة، التي تحمل شهادة الماجستير في التنمية العالمية والسلام من "جامعة بريدجبورت"، كتبت أكثر من 25 تقريراً عن الجماعات المتطرفة العنيفة، مع التركيز على بلدها سوريا.