- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 2402
هدوءٌ هش في العلاقات الأمريكية - التركية
جاء الاتصال الهاتفي الذي أجراه الرئيس الأمريكي باراك أوباما في 27 آذار/مارس مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان ليجسد تطوراً مرحّباً به في العلاقة بينهما بإنهائه فترة من الصمت دامت ستة أشهر. وجاءت المكالمة في وقتٍ تحتاج فيه الولايات المتحدة إلى استعمال القواعد الجوية التركية لتسيير رحلات [استطلاع] بطائرات بدون طيار مسلّحة وربما أيضاً تنفيذ مهام قتالية هدفها المساعدة في استرجاع مدينة الموصل العراقية من تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش») أو «الدولة الإسلامية». وحتى الآن تبدو تركيا متشوقة لتلبية بعض المطالب الأمريكية. ومن الممكن أن تؤدي هذه التطورات إلى فترة هدوء في العلاقات الثنائية التي تضررت منذ عام 2013.
إلا أن أي فترة هدوء قد لا تطول إذا لم تعالج حكومتا واشنطن وأنقرة عدداً من القضايا العالقة - وخصوصاً سياستهما المتضاربتين تجاه سوريا حيث تضع تركيا مسألة الإطاحة ببشار الأسد في قمة أهدافها بينما تعطي واشنطن الأولوية لإضعاف قوة «داعش». ولا بد لهما كذلك من معالجة مختلف القضايا الكردية، وأنظمة الدفاع الجوي التي اشترتها تركيا، ولغة البيان الذي سيدلي به البيت الأبيض في «يوم الذكرى الأرمنية» [الذكرى المئوية لما يسمى بالإبادة الجماعية للأرمن]، بالإضافة إلى التزامات تركيا بتوخي حذرٍ أكبر في مراقبة الحدود السورية بهدف وقف دخول المقاتلين المتطرفين، كل ذلك مع اقتراب تاريخ عقد الانتخابات الوطنية التركية.
الربيع العربي والخريف الأمريكي - التركي
وصلت العلاقات الثنائية إلى طريق مسدود منذ سنتين خلال حركة الاحتجاجات الليبرالية في "حديقة جيزي" ضد «حزب العدالة والتنمية» الذي يحكم تركيا منذ مدة طويلة. ففي الثاني من حزيران/يونيو 2013، انتقد البيت الأبيض أعمال القمع العنيفة التي انتهجتها حكومة أنقرة ضد المتظاهرين وقال أنه "يتوقع من السلطات التركية أن تتصرف برباطة جأش". وفي وقت لاحق من ذلك العام، اتهمت أنقرة واشنطن على استيلاء الفريق أول عبد الفتاح السيسي على الحكم في مصر - وهذا ليس مفاجئاً نظراً إلى أن «حزب العدالة والتنمية» كان يدعم «الإخوان المسلمين» في القاهرة منذ سقوط نظام مبارك.
وقد أسفرت هذه التطورات عن تضرر العلاقة الودية بين الرئيسين أوباما وأردوغان بعد أن تم العمل بتأنٍّ على تنميتها عقب فترة جمود سابقة بين الدولتين. وفي حزيران/يونيو 2010، صوّتت تركيا ضد قانون العقوبات على إيران الذي اقترحته الولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي، الأمر الذي أثار جواً من التوتر مع واشنطن. وفي وقت لاحق من ذلك الشهر، أجرى أوباما حديثاً صريحاً مع أردوغان على هامش قمة مجموعة العشرين في تورنتو، فأصلح العلاقة إلى حد كبير ومهد الطريق لإجراء مشاورات متكررة بينهما بين عامي 2010 و 2013.
تردد في تركيا حول تنظيم «داعش»
في الوقت الذي تصاعدت فيه الخلافات بين الولايات المتحدة وتركيا بشأن احتجاجات "حديقة جيزي" و «الإخوان المسلمين»، توقف التعاطي بين أوباما وأردوغان. وقبل الاتصال الهاتفي الذي تم في 27 آذار/مارس، لم يكن الرئيسان قد تخاطبا منذ تشرين الأول/أكتوبر 2014، وذلك عندما أخطر أوباما نظيره التركي أردوغان بعملية إسقاط أسلحة أمريكية على «حزب الاتحاد الديمقراطي»، الجماعة الكردية التي تدافع عن مقاطعة كوباني السورية ضد تنظيم «الدولة الإسلامية». بيد أن «حزب الاتحاد الديمقراطي» متحالف مع «حزب العمال الكردستاني» الذي حاربته تركيا طوال عقود قبل أن تبدأ معه محادثات سلام لم تختتم حتى اليوم. وحين اعترض أردوغان على الخطوة الأمريكية، أبلغه أوباما أن الولايات المتحدة ستنفذ خطتها على أي حال.
وفي وقت سابق، حين بدأ تنظيم «الدولة الإسلامية» هجومه في الصيف الماضي، تفادت أنقرة عمداً أن تستفز التنظيم خوفاً من أن يجتاح ضريح سليمان شاه في سوريا، وتُعتبر الأرض الذي هو عليها معتزل تركي [تحت السيادة التركية] صغير في سوريا. كما شعرت أنقرة بالقلق بشأن إنقاذ الرهائن الأتراك الستة والأربعين الذين احتجزهم التنظيم خلال حملته على الموصل في حزيران/يونيو 2014. ولكن حتى بعد تأمين تحررهم من الأسر في أيلول/سبتمبر، لم تنضم تركيا إلى الجبهة المناهضة لـ «داعش» في سوريا (مع أنها اتخذت في النهاية خطوات إيجابية أخرى مدرجة أدناه).
وبالاقتران مع القرار المؤقت الذي اتخذه «حزب العدالة والتنمية» في عام 2013 بشراء أنظمة الدفاع الجوي الصينية، ساهم رفض تركيا الالتزام الكامل بالعملية ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» في سوريا بتفاقم الأجواء المتوترة مع واشنطن. ومن وجهة النظر التركية ينبع أصل المشكلة من تردد واشنطن في الالتزام باستراتيجية شاملة في سوريا تتضمن إسقاط نظام الأسد.
الاتفاق على حل وسط بشأن سوريا؟
على الرغم من هذه الخلافات السياسية، تحمل المحادثة الأخيرة بين أوباما وأردوغان وعوداً خاصة لأنها تأتي في أعقاب خطوات تركية اتُّخذت مؤخراً لرفع درجة التعاون ضد تنظيم «الدولة الإسلامية». إذ يبدو أن أنقرة عززت التنسيق مع وكالات الاستخبارات الغربية من أجل ردع تدفق المقاتلين إلى سوريا، بينما أفادت صحيفة نيويورك تايمز في الآونة الأخيرة أن الحكومة تفكر في إقفال معبريها الحدوديين المتبقيين مع سوريا.
لكن توطيد هذا التقدم يتطلب من واشنطن وأنقرة أن تعترفا بالمصالح الرئيسية التي تملكها كلٌّ منهما في سوريا. فالبيت الأبيض يعتقد أن منع «داعش» من التنامي في الخارج ضروري لدرء أي اعتداءات إرهابية محتملة ضد الولايات المتحدة وحلفائها. ومن هذا المنطلق، يعتبر التعاون التركي الأقوى في المناطق التي يسيطر عليها التنظيم تطوراً إيجابياً للغاية يمكن أن يرسي علاقة عمل جديدة بين أوباما وأردوغان. وعلى أي حال، سيتوقع البيت الأبيض دون شك استمرار التعاون الاستخباراتي حول قضية المقاتلين الأجانب.
أما واشنطن فوافقت من جهتها على مساندة مهمة واسعة النطاق لتدريب الثوار السوريين في تركيا وتجهيزهم، إلى جانب برامج مماثلة في قطر، والأردن، والمملكة العربية السعودية. وسيبدأ البرنامج في منطقة كير شهير التركية في أيار/مايو على أن يدرب مجموعة يصل عددها إلى 10 آلاف سوري بحلول نهاية هذا العام. ويقيناً، إن الهدف الرئيسي لهذا البرنامج هو إضعاف تنظيم «الدولة الإسلامية»، لذلك لا يلبي طموح تركيا بتشكيل قوة قادرة على الإطاحة بالأسد على الفور. إلا أن لغة الاتفاق الأمريكي - التركي حول المهمة تفتقر عمداً إلى الوضوح - فهي لا تستبعد بالضرورة استهداف نظام الأسد في المستقبل. من هنا يبدو أن صناع السياسة الأتراك راضين في الوقت الحالي باعتبار أن العناصر المجندين في البرنامج والذين يعربون صراحة عن معاداتهم للأسد قد يُستخدمون يوماً ما لمحاربة النظام.
فضلاً عن ذلك، ستصر أنقرة على أن تساعدها الولايات المتحدة في فرض منطقة حظر جوي فوق شمال سوريا من أجل حماية المناطق الخاضعة لسيطرة الثوار. وفي حين تتردد واشنطن في وضع حدود رسمية لمثل هذه المنطقة، من شأن النمط الحالي الذي تتبعه الولايات المتحدة في ضرباتها الجوية أن يوجد خليطاً من مناطق الحظر الجوي الفعلية إذا ما قررت واشنطن أن تتطرق إلى قضية نظام الأسد. وقد تحاول تركيا أن تجعل هذه المناطق واسعة ومتلاصقة وواضحة المعالم قدر المستطاع، بينما يحتمل أن تتصور واشنطن مزيجاً مرناً وغير رسمي يغطي مناطق استراتيجية.
عناصر مؤثرة أخرى
في سياق حلّ الخلافات بين الحكومتين حول سوريا، لا بد للولايات المتحدة وتركيا أن تتابعا أيضاً عدة قضايا مهمة أخرى والتركيز عليها.
دور الأكراد: في الآونة الأخيرة عملت حكومة أنقرة على القضاء على نقطة ضعف رئيسية كانت تعيق اتخاذ تدابير أكثر صرامة ضد «داعش» - حيث قامت القوات التركية في 22 شباط/فبراير بدخول سوريا وإجلاء ضريح سليمان شاه. وحدث أمر ملفت آخر، وهو أن تركيا نفذت العملية وفقاً للتقارير بالتنسيق مع «حزب الاتحاد الديمقراطي»، ولعل الحكومة التركية تجرأت على الدخول في مثل هذا التعاون بسبب محادثات السلام التي تجريها مؤخراً مع «حزب العمال الكردستاني». ومع ذلك، ينبغي على واشنطن أن تتصرف بحذر أكبر من أنقرة - فإذا تداعت محادثات السلام مع «حزب العمال الكردستاني» واستتبع ذلك قيام أعمال عنف في شرق تركيا، سيسارع العديد من المسؤولين الأتراك إلى دحض العلاقة بين الولايات المتحدة و«حزب الاتحاد الديمقراطي» واعتبارها بمثابة دعمٍ لـ «حزب العمال الكردستاني».
وفي الوقت نفسه، يجب على واشنطن أن تشجّع التقارب المستمر بين تركيا و«حكومة إقليم كردستان» في العراق. فالعلاقات الراهنة بين الطرفين تشكل نموذجاً عن التعايش بين الأتراك والأكراد وتعود بالفائدة على كلا الطرفين كما على الولايات المتحدة. ويشار إلى أن تركيا تقدّم الدعم العسكري لـ «حكومة إقليم كردستان» ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، إلى جانب علاقاتها الاقتصادية وغيرها مع هذه الحكومة.
المسألة الأرمنية: يجب على البيت الأبيض أن يختار بعناية العبارات التي سيصيغ بها بيانه الرسمي لذكرى المجازر الأرمنية (في 24 نيسان/إبريل). وفي السنوات الماضية، تجنب رؤساء الولايات المتحدة والرئيس أوباما استخدام كلمة "إبادة" في بياناتهم المخصصة لإحياء ذكرى وفيات الأرمن في عهد الإمبراطورية العثمانية ابتداءً من نيسان/أبريل 1915. ومع اقتراب الذكرى المئوية سيزيد الضغط المحلي لاستخدام هذه الكلمة بالذات. غير أن البيت الأبيض يدرك أن وصف أحداث عام 1915 بالإبادة سيؤدي إلى تجميد التعاون العسكري والأمني بين البلدين وإلى إيقاف الجهود المبذولة لإبقاء تركيا في التحالف ضد تنظيم «داعش».
المساعدة في تحرير الموصل: تلعب قاعدة إنجرليك الجوية الواقعة جنوب تركيا دوراً حيوياً في أي عمليات مستقبلية تنفذها الولايات المتحدة للمساعدة في تحرير الموصل، شأنها شأن القواعد المجاورة في ديار بكر وباتمان وملاطية، مع الإشارة إلى أن قاعدة باتمان مثلاً هي واحدة من أقرب المطارات القريبة من المدينة العراقية. وسوف تضغط واشنطن على تركيا لتسمح لها باستخدام قواعدها الجوية لشن الضربات القتالية الأمريكية، بالإضافة إلى عمليات البحث والإنقاذ والجهود الاستخباراتية والدعم اللوجستي ورحلات [استطلاع] بطائرات بدون طيار. وبغض النظر عن العمليات التي ستسمح بها أنقرة، فإن استعدادها لتقديم المساعدة في الحملة لتحرير الموصل سيساهم إلى حد كبير في تحسين العلاقات مع واشنطن على المدى القريب كما وفي تسهيل التعامل مع أي مشاكل تطرأ في طور ذلك.
السياسة المحلية في تركيا: من المقرر إجراء الانتخابات النيابية في 7 حزيران/يونيو، ومع أن «حزب العدالة والتنمية» سيحافظ على الأرجح على قوّته، يدرك أردوغان أن مساعدة واشنطن ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» قد يستفز التنظيم للانتقام مباشرةً من تركيا، الأمر الذي قد يضعف شعبية «حزب العدالة والتنمية» بشكلٍ حاد. لذلك ستتوخى أنقرة الحذر بشأن طبيعة دعمها للولايات المتحدة ومدى وضوح هذا الدعم للعلن، فيما يرجَّح ألّا تقدم واشنطن أي طلبات إضافية بشأن القواعد الجوية التركية إلى حين انتهاء الانتخابات.
والجدير بالذكر أن فوز «حزب العدالة والتنمية» في 7 حزيران/يونيو سيرسّخ دور الحزب إلى حين الانتخابات المقبلة المزمعة في عام 2020، وربما يحث البيت الأبيض على إلقاء نظرة أكثر واقعية على أي حكومة تركية ستكون نظيرتها في المستقبل المنظور. ولكن استمرار «حزب العدالة والتنمية» بقمع المعارضة والحريات الإعلامية سيضعف في الوقت نفسه من الحماسة الشعبية في الولايات المتحدة تجاه هذه العلاقة.
أنظمة الدفاع الجوي: في أيلول/سبتمبر 2013، أعلنت تركيا عن خطتها لشراء أنظمة دفاع جوي صينية الصنع، الأمر الذي أثار غضب الولايات المتحدة وغيرها من حلفاء «حلف شمال الأطلسي» ("الناتو") الذين صرّحوا أنهم لن يسمحوا لإحدى الدول الأعضاء بإدخال عتاد صيني الصنع في أنظمة الدفاع التابعة لـ "الناتو". وما أغرى أنقرة جزئياً بشراء هذه الأنظمة الصينية هو أن بكين وعدتها بنقل تكنولوجيا الدفاع الجوي إلى تركيا بموجب الصفقة. إلا أن أنقرة أشارت منذ ذلك الحين إلى استعدادها لشراء أنظمة فرنسية أو أمريكية الصنع عوضاً عن ذلك، علماً بأن هذه الصفقات أيضاً ستكون مصحوبة بنقل التكنولوجيا.
المحصلة
إذا نجحت تركيا والولايات المتحدة في معالجة خلافاتهما حتى ذلك الحين، من الممكن أن يشهد النصف الثاني من هذا العام مرحلة هدوء في العلاقات الثنائية. وبالفعل فإن حضور الرئيس أوباما لقمة مجموعة العشرين المقرر عقدها في أنطاليا، تركيا في تشرين الثاني/نوفمبر قد يتوّج هذه التطورات الإيجابية بينما تتولى تركيا رئاسة هذه المجموعة الدولية الموقرة.
سونر چاغاپتاي هو زميل "باير فاميلي" ومدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن، ومؤلف كتاب "صعود تركيا: أول قوة مسلمة في القرن الحادي والعشرين" الذي سُمّي من قبل "جمعية السياسة الخارجية" كواحد من أهم عشرة كتب صدرت في عام 2014.