- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 2862
هل الاستفتاء الكردي"مهمة منجزة" بالنسبة لبارزاني؟
تعارض كافة الجهات الفاعلة البارزة على الصعيدين الإقليمي والدولي تقريباً الاستفتاء حول الاستقلال الذي ستجريه «حكومة إقليم كردستان» في 25 أيلول/سبتمبر الجاري. وفي واشنطن، كان البيت الأبيض قد أصدر بياناً في 15 أيلول/سبتمبر طلب فيه من «حكومة إقليم كردستان» الإحجام عن ذلك، في حين اتخذت وزارة الخارجية الأمريكية موقفاً أكثر صرامة بعد مرور خمسة أيام حيث أعلنت أنها "تعارض بشدة" الاستفتاء وحثت الأكراد عوضاً عن ذلك على إجراء "حوار جدي ومستدام مع الحكومة المركزية، بوساطة من الولايات المتحدة والأمم المتحدة وشركاء آخرين حول كافة القضايا التي تشكّل مبعث قلق". وقد حذر البيان من أن هذا الطرح البديل لن يبقى قائماً إذا ما أجرى الأكراد الاستفتاء. وقد أيّدت كل من الأمم المتحدة وبريطانيا والعديد من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي موقف الولايات المتحدة، في الوقت الذي تمادت فيه الدول المجاورة لـ«حكومة إقليم كردستان» إلى حدّ أكبر مهدّدةً بعزلها.
ويكمن قرار المضي قدماً في الاستفتاء فقط مع رئيس «حكومة إقليم كردستان» مسعود بارزاني الذي وضع نفسه في موقف محرج أساساً. وقد تدفع به الضغوط المتنامية إلى إرجاء الاستفتاء أو الحدّ من نطاقه.
أفضل خطة مقبلة
حتى الآن، لا يزال بارزاني مصراً على إجراء الاستفتاء وقد رفض البدائل المقترحة. وتنبع حملته من أجل الاستقلال من سخطه إزاء بغداد، التي يعتبر أنها تخضع لهيمنة أحزاب شيعية معادية للأكراد التي تقع تحت تأثير إيران. كما أن موقف «حكومة إقليم كردستان» قوي بعد محاربتها تنظيم «الدولة الإسلامية» بالتنسيق مع التحالف الدولي. وقد أثمرت الحماسة القومية الكردية الناتجة عن أرباح محلية حيث حفّزت الجمهور، وعزّزت الوحدة في صفوف الأكراد وحوّلت انتباههم بعيداً عن المشاكل السياسية والاقتصادية المحلية لـ «حكومة إقليم كردستان».
ومع ذلك، يبقى الاستفتاء رهاناً. وقد يمهد الطريق أمام تحقيق حلم الأكراد المتمثل في إقامة دولة، ولكن يمكن أن يوجّه أيضاً صفعة إلى الاستقرار والازدهار النسبي اللذين نجح الأكراد في تحقيقهما في ظل العراق الفوضوي. وبما أن بارزاني أظهر نخوة وقدرات قيادية غير مسبوقة في حشد الدعم الشعبي والتشريعي للاستقلال، أصبح الآن اللاعب الوحيد ضمن «حكومة إقليم كردستان» القادر على تحديد بديل قابل للتطبيق عن الاستفتاء. فبرأيه، يفتقر الخيار الذي قدمته الولايات المتحدة - الأمم المتحدة إلى عنصر مهم، وهو الطريق إلى الاستقلال.
ويعتقد بارزاني أيضاً أن فرص نجاح أي مفاوضات إضافية مع بغداد ضئيلة. وهي وجهة نظر مفهومة؛ فقد أشار مراراً إلى عجز الحكومة المركزية عن الالتزام بالدستور والنظام الاتحادي في العراق. ولكن في نهاية المطاف، يقع جزء من مسؤولية انهيار المفاوضات على عاتقه. ويصرّ العديد من مؤيدي الاستفتاء على أنه يستحيل ترميم العلاقات بين «حكومة إقليم كردستان» وبغداد، على الأقل في إطار عراق موحد. غير أن البدائل المقدمة إلى بارزاني تعد بإصلاح العلاقات - أي حلّ الخلافات التي طال أمدها حول الأموال والنفط والحدود. حتى أن الأكراد أنفسهم يقرون بأن الوساطة الأمريكية السابقة حققت بعض النجاح، لا سيما على صعيد قضايا النفط والغاز. لكنهم أعربوا في الوقت نفسه عن خيبة أملهم إزاء عدم إحراز أي تقدم فيما يخص الأراضي المتنازع عليها والميزانية الاتحادية، وهم يدركون بلا شك أن الضغوط الخارجية ساهمت في تدويل هذه الشكاوى بشكل أساسي - مما يعدّ نصراً بحدّ ذاته.
حسابات بارزاني
على الصعيد المحلي، تمكّن بارزاني من حشد دعم شعبي وسياسي إضافي للمضي قدماً في الاستفتاء. وأصبحت معارضة هذا الدعم مكلّفة بالنسبة لخصومه، كما لم تساهم حملة ضعيفة "ترفض" الاستقلال سوى في تعزيز المعسكر "المؤيد" له. ولو أُجري تصويت داخل البرلمان لإرجاء الاستفتاء كان ليشكّل مخرجاً يحفظ ماء الوجه بالنسبة له، غير أن الهيئة التشريعية صادقت عليه على الرغم من مقاطعة الجلسة من قبل حزبين من الأحزاب السياسية الرئيسية الخمسة. وعلى صعيد المعارضة الدولية، يبدو أن بارزاني يعتقد أن الغرب لن يتخذ إجراءات عقابية ضد «إقليم كردستان» فقط بسبب إجرائها استفتاء غير ملزم من جانب واحد. غير أنه يمكن لتركيا وإيران أن تتسببا في ضرر كبير للأكراد.
ويعتمد اقتصاد «حكومة إقليم كردستان» على النفط الذي يُنقل عبر أنابيب تمر بتركيا. وخلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة التي عُقدت في وقت سابق من الأسبوع الأخير، انتقد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الاستفتاء في الوقت الذي كان فيه جيشه يجري مناورات عند الحدود الشمالية لـ «إقليم كردستان».
من جهتها، هددت إيران بوقف التعاون الاقتصادي والأمني مع «حكومة إقليم كردستان»، وبتصعيد العنف ضد جماعات المعارضة الكردية الإيرانية المقيمة داخل «كردستان العراق». كما تمارس طهران نفوذاً على الحكومة العراقية و«وحدات الحشد الشعبي»؛ وقد يكون لهذا النفوذ دور في قرار البرلمان العراقي بإدانة الاستفتاء وإطلاق يد رئيس الوزراء من أجل القيام بما في وسعه لمنعه. وبدورهم، أصدر قادة الميليشيات الشيعية سلسلة تهديدات ضد هذا الاستفتاء، على الرغم من أن الزعيم الشيعي البارز آية الله العظمى علي السيستاني ظل صامتاً في هذا الشأن.
لكن كما كان متوقعاً، لم يساهم هذا الانتقاد سوى في تقوية عزم الأكراد، علماً بأن بارزاني قلّل من أهمية التهديدات الخارجية. ويبدو أنه يعتمد على العلاقات الثنائية الإيجابية لـ «حكومة إقليم كردستان» مع تركيا وإيران. تجدر الإشارة إلى أن الإقليم الكردي كان سوقاً جذاباً للسلع والخدمات من كلا البلدين، وبالتالي من شأن أي عقوبات أو خطوات أخرى مناهضة للاستفتاء أن تضر بهما أيضاً. ويحرص بارزاني أيضاً على إحداث توازن، فهو يشكّك على ما يبدو في قدرة تركيا وإيران والولايات المتحدة على تبني موقف موحد لفرض عقوبات على «حكومة إقليم كردستان». وهو على ثقة بأنه إذا فرضت دولة ما عقوبات على الأكراد من جانب واحد، ستأتي دولة أخرى لنجدتهم؛ على سبيل المثال، وسط تنامي الضغوط الدولية، أعلنت روسيا مؤخراً أنها ستزيد من استثماراتها في قطاع الطاقة في «حكومة الإقليم». غير أنه قد تكون هناك نتائج عكسية لهذه الخطوات الرامية إلى إرساء توازن - على سبيل المثال، بعد أن أعرب رئيس الوزراء الإسرائيلي عن دعمه للاستفتاء، شدّدت تركيا وإيران معارضتهما.
ويتمثّل سبب آخر وراء الثقة التي يتحلى بها الأكراد في قدرتهم المثبتة على خلق حقائق جديدة على الأرض وفرض الوضع الراهن على خصومهم. وهذا ما سمح جزئياً لـ«إقليم كردستان» بأن يصبح منطقة مصدرة للنفط على الرغم من معارضة بغداد. وقد يقوّي الاستفتاء شوكة «حكومة الإقليم» لإحكام قبضتها على الأراضي المتنازع عليها التي تسيطر عليها حالياً، ويبدو بارزاني واثقاً من أن العالم سيتكيّف مع الخريطة التي تم إعادة رسمها.
ومع ذلك، يجب ألا تتجاهل أربيل المخاطر المحتملة لمثل هذه الخطوة. فحتى إغلاق مؤقت لخط أنابيب التصدير أو حدود «حكومة إقليم كردستان» قد يشل اقتصادها، كما أن أمنها الغذائي يعتمد إلى حدّ كبير على الواردات. فضلاً عن ذلك، لا تزال بغداد تسيطر على كامل المجال الجوي العراقي ويمكنها إيقاف التحليق الجوي وحركة المرور في مطاريْ «حكومة الإقليم» الدوليين. وفي هذا الصدد، استثمر بارزاني رأسماله السياسي بأكمله في شق الطريق نحو تحقيق الاستقلال. ومن خلال رفضه على ما يبدو خطر العواقب الوخيمة، وضَع عبء مسؤولية إيجاد مخرج على عاتق من يعارضون الاستفتاء.
ما الذي يمكن توقعه في 25 أيلول/سبتمبر
قد يتمخض واحد من عدة سيناريوهات حتى يوم الاستفتاء. أولاً، قد يتمّ إلغاء التصويت إذا وافق بارزاني على أحد البدائل المقترحة. فالقادة الأكراد يأخذون ردود الفعل الدولية الساخطة على محمل الجدّ، ولا يزال بارزاني يأمل أن تسفر المفاوضات المستمرة مع مختلف الحكومات عن عرض يمكن أن يقدّمه إلى شعبه. وقد أشار مؤخراً إلى أن التجمّعات الضخمة المؤيدة للاستقلال في أرجاء كردستان كانت بمثابة استفتاء غير رسمي بحدّ ذاتها، ملمّحاً ربما إلى استعداده لإلغاء التصويت الرسمي.
وقد يكون لتركيا التأثير النهائي في هذا السيناريو؛ فقد انعقد "مجلس الأمن القومي التركي" في 22 أيلول/سبتمبر لتحديد ردّ البلاد الرسمي على الاستفتاء، حيث أن التصريحات المهددة الناتجة عنه قد تؤثّر على حسابات بارزاني. ويتوقّف مصير هذا السيناريو أيضاً على نفوذ واشنطن في بغداد. وعلى الأقل علناً، انصبّت الضغوط الأمريكية مباشرة على «حكومة إقليم كردستان» لتأجيل الاستفتاء ولم تبذل بغداد أي جهد لتهدئة إربيل، بل كرّرت بدلاً من ذلك عدم استعدادها للتوصل إلى أي مساومة. ومن شأن هذا التعنّت الظاهر أن يقوّض الاقتراح المعاكس للولايات المتحدة.
ثانياً، قد يستغل بارزاني هذه الفرصة ويمضي قدماً في الاستفتاء، مخاطراً باندلاع نزاع مسلح مع بغداد. وسيشير هذا السيناريو إلى أن النفوذ الأمريكي في العراق قد تراجع تماماً، بما في ذلك على «حكومة إقليم كردستان». وقد أعربت واشنطن بوضوح عن معارضتها للاستفتاء منذ أن أعلن عنه بارزاني في حزيران/يونيو، لكن الإدارة الأمريكية لم تدعم موقفها هذا بتكتيكات العصا والجزرة. وإذا ما تم إجراء الاستفتاء، قد تجد الولايات المتحدة نفسها مرغمة على تبني موقف أكثر صرامةً ضد «حكومة إقليم كردستان»، في خطوة لن تكون بناءة في إطار علاقة كانت إيجابية سابقاً.
ثالثاً، قد يقرر بارزاني حفظ ماء الوجه والتخفيف من المخاطر عبر حصر الاستفتاء في محافظات «إقليم كردستان» الثلاث المعترف بها وسط إلغائه في الأراضي المتنازع ليها. وقد تدّعي أربيل، من منطلق منطقي، أنها عاجزة عن ضمان أمن هذه الأراضي بشكل مناسب لإجراء الاستفتاء فيها، بما أن هذه المناطق شهدت أعمال عنف وتهديدات متفرقة من قبل ميليشيات شيعية في الأسابيع الأخيرة. ولكن هذا السيناريو سينطوي على تداعيات سياسية مقلقة لبارزاني لأن محافظة كركوك الغنية بالنفط المتنازع عليها لا تزال في صميم خلافات «حكومة إقليم كردستان» مع بغداد.
بلال وهاب هو زميل "سوريف" في معهد واشنطن.