- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
هل تركز واشنطن بشكل كبير على برنامج إيران النووي؟
عندما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني، أوضح موقفه الرافض للاتفاق وأوجز قائمةً طويلةً من الشكاوى حول السياسات الإيرانية. إلا أنه لم يعالج السؤال الأكثر أهميةً وهو: ما هي بالتحديد سياسة الولايات المتحدة تجاه إيران؟
منذ عقد تقريباً، كانت المسألة النووية تضغط على المداولات الجادة حول السياسة العامة الأوسع نطاقاً تجاه إيران. ومع ذلك، لا يمكن فصل برنامج إيران النووي عن استراتيجيتها الشاملة للأمن القومي التي تركز على نشر قوة غير تقليدية بعيداً عن الحدود الإيرانية. وبالمثل، لا تتجذر المخاوف الأمريكية بشأن المساعي النووية الإيرانية من موقف مبدئي ضد انتشار أسلحة الدمار الشامل فحسب، بل من قلق عميق بشأن الإجراءات والنوايا الأوسع نطاقاً للنظام الإيراني. ومن السهل الآن أن ننسى أنه قبل إبرام الاتفاق النووي - المعروف أيضاً باسم «خطة العمل الشاملة المشتركة» - كانت مخاوف حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى إسرائيل، تتركز حول سياسات إيران الإقليمية أكبر من مخاوفهم إزاء مساعيها النووية.
وكان أحد الانتقادات الرئيسية التي وجّهها منتقدو «خطة العمل الشاملة المشتركة» إلى الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما هو تركيزه على المسألة النووية واستبعاده جميع القضايا الأخرى، فضلاً عن أن الاتفاق نفسه أرسى هذا التركيز من خلال مقايضة تخفيف العقوبات الشامل بتقيّد طهران في المجال النووي فقط. ومن المفارقات، أنّ ترامب قد يكرر الخطأ نفسه، من خلال تشديده أولاً على ضرورة إصلاح الاتفاق، ومن خلال إصراره الآن على أن يتم التفاوض على اتفاق جديد.
وبينما ناقشت الولايات المتحدة «خطة العمل الشاملة المشتركة»، أحرزت إيران تقدّماً في كل من سوريا واليمن وأماكن أخرى مقابل مقاومة ضئيلة، وازدادت بشكل كبير احتمالات نشوب حرب بين إيران وإسرائيل، أو إيران والمملكة العربية السعودية. إن الذي تحتاجه واشنطن حقاً هو سياسة جديدة تجاه إيران، وليس مجرد سياسة نووية - والرغبة في أنّ تشمّر عن ساعديها وتمضي في تنفيذها.
التحوّل الأوسع نطاقاً في سياسة واشنطن
على الرغم من النقاشات المستقطبة بين المحللين الخارجيين التي انقسمت بين التحريض على تغيير النظام والتشجيع على التقارب مع إيران، كان المسؤولون الأمريكيون أقل انقساماً. فقد استخدم الرؤساء المتعاقبون تكتيكات العصا والجزرة، أي نهج المشاركة من جهة، وممارسة الضغوط من جهة أخرى. وقد استخدمت إدارة الرئيس جورج دبليو بوش ضغوطاً أكثر حدّةً من غيرها، لكنها لم تصل إلى درجة تبنّي سياسة قائمة على تغيير النظام. كما أن إدارة أوباما كانت أكثر ميلاً إلى التواصل مع القادة الإيرانيين، لكنها لم تتبنَّ سياسة التقارب أو التوازن الخارجي التي كان أوباما يلمّح بأنّه يفضّلها في بعض الأحيان.
وعندما تغيّرت سياسة الولايات المتحدة تجاه إيران، لم يكن ذلك ثمرة إيديولوجيا رئاسية بقدر ما كان انعكاساً لتصورات واشنطن المتغيرة حيال التهديدات التي واجهتها وقدرتها الذاتية على مواجهتها. فمنذ منتصف العقد الماضي وحتى الوقت الحاضر، انتقلت الولايات المتحدة شيئاً فشيئاً من اعتبار الإرهاب والدول الراعية له تهديداً رئيسياً إلى اعتبار الدول الكبيرة المسلحة نووياً مثل روسيا والصين أكثر مدعاة للقلق، وأن عمليات مكافحة التمرد المطوّلة ليست سوى مصدر إلهاء عن هذه الأولوية. كما أصبحت الولايات المتحدة أكثر تشكيكاً بقدرتها الذاتية على القيام بمهام مثل تغيير الأنظمة وبناء الأمم ومكافحة التمرد، حتى مع تزايد المخاوف بشأن نظرة الدول المنافسة من تضاؤل ميزة الولايات المتحدة في التكنولوجيا العسكرية المتطورة.
وبالنظر إلى الدور الكبير الذي لعبته واشنطن لفترة طويلة في الشرق الأوسط، فمن غير المستغرب أن يكون للتحول الأمريكي أصداء أوسع. وإذ انخرطت الولايات المتحدة في شكل من أشكال التخفيض الإستراتيجي، لم يظهر أي كيان آخر - سواء كان تنظيماً محلياً أو قوة خارجية أخرى - الذي أبدى استعداده أو قدرته على المضي قدماً في تولي دور قيادي. وكانت النتيجة استبدال هيكل أمني متخصص [لغرض ما بالذات] تتوسّطه واشنطن بآخر يتميّز بتكتلات غير رسمية منافسة تتألف من قوى إقليمية تتسابق فيما بينها وغالباً ما تأتي بنتائج مدمرة.
وقد أثبتت الفوضى التي تعمّ الشرق الأوسط بأنها تشكّل نعمةً لإيران. فمنذ عام 2011، وسّعت طهران نطاق نفوذها وتواجدها في العراق ولبنان وسوريا واليمن وأماكن أخرى، وغالباً ما تملأ الفراغات الناجمة في النهاية عن ضعف العديد من دول المنطقة، حيث تكون السلطات الإيرانية نفسها متواطئة مع هذه الدول في كثير من الأحيان - بينما ينعدم الانخراط الأمريكي. وقد كانت هذه التقلبات ملائمةً لاستراتيجية الأمنية لإيران الطويلة الأمد، والتي لطالما ركّزت على ترسيخ الوكلاء داخل الدول واستخدام تكتيكات غير نمطية لإبقاء الخصوم منشغلين وغير مستقرين. ففي سوريا مثلاً، وجدت إيران شريكاً جاهزاً في الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يسعى إلى توسيع نفوذ موسكو والاستفادة من التردّد الأمريكي. والنتيجة هي قيام إيران بتوسيع سلطتها في المنطقة حتى مع امتثالها كما يُدّعى لـ«خطة العمل الشاملة المشتركة».
وتَمثّل التحدي الذي واجهته الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة في موازنة إحجامها عن زيادة تدخّلها في الشرق الأوسط والرغبة في مواجهة إيران التي تزداد عدوانية. وليست هذه مجرّد حتمية سياسية أو إيديولوجية كما يشك حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا وآسيا في بعض الأحيان، بل ضرورة متجذرة في المصالح الوطنية. فمن وجهة النظر الأمريكية، لا تهدد الأنشطة الإيرانية استقرار منطقة الشرق الأوسط فحسب، بل حرية التجارة والملاحة في الممرات المائية في المنطقة وأمن حلفاء الولايات المتحدة.
وبالنسبة لأوباما، كانت «خطة العمل الشاملة المشتركة» إحدى الطرق التي تحسم هذه المسألة الشائكة. وعلى الرغم من أن منتقديه وصفوا الاتفاق بأنه قد فتحَ الطريق أمام انسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، إلّا أن أوباما نفسه قد رآه على الأرجح على أنه يمهّد الطريق لتقليل الالتزام العسكري الأمريكي في المنطقة مع الحد من تداعيات مثل هذه الخطوة من خلال كبح أخطر الأنشطة التي تمارسها إيران وتوفير وسائل بديلة، من خلال المشاركة الدبلوماسية، لمعالجة المسائل الأخرى بمرور الوقت.
أمّا ترامب فقد أعلن بوضوح احتقاره لـ «خطة العمل الشاملة المشتركة» وتشككه تجاه فكرة التقارب مع إيران. وفي البداية، نظر في احتمال التوصل إلى حل وسطي، أي تعزيز «خطة العمل الشاملة المشتركة» من دون إعادة التفاوض بشأنها، من خلال إبرام بروتوكول مع أطراف تشاركه الرأي فيما يتعلق بالاتفاق وكيفية تنفيذه وكيفية معالجة الأنشطة الإيرانية المزعزعة للاستقرار التي لا يغطيها الاتفاق. ولكن في النهاية، وضعت إدارة ترامب هذه الجهود جانباً وأعلنت أنها ستنسحب من الاتفاق النووي وتعيد فرض العقوبات الأمريكية.
وعلى الرغم من أن هذا النهج يمثل تنصّل من «خطة العمل الشاملة المشتركة»، إلا أنه لا يأتي كإشارة إلى عودة الانخراط الفعلي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. فمن خلال التشديد على العقوبات والاستفادة من دور الولايات المتحدة البارز في النظام المالي الدولي، تستمر واشنطن في اعتماد مقاربتها عن بعد فيما يتعلق بالسياسة تجاه إيران. وحتى في ظل إدارة ترامب، عندما كانت الولايات المتحدة تهدد بإعادة فرض العقوبات القاسية المفروضة على إيران، وعلى أولئك الذين يتعاملون معها، فإنها لم تتخذ أي خطوات مهمة جديدة في الأشهر الـ18 الماضية لمواجهة طموحات إيران الإقليمية. وفي الواقع، قام قائد "القيادة المركزية الأمريكية" الجنرال جوزيف فوتيل بإبلاغ الكونغرس بأنه لم يتلقّ أوامر بمواجهة إيران في سوريا.
النهاية والبداية
سيتطلب تغيير هذا الواقع إعادة النظر بشكل أعمق في سياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط. وستحتاج واشنطن إلى التخلي عن المناقشات المتعلقة بالسياسة والتي تعتمد أسلوب الأسود والأبيض، أو القبول الشامل أو الرفض القاطع، التي سادت منذ حرب العراق، والنظر بمزيد من الجدية في نهج وسطي يستدعي مشاركة أكبر للولايات المتحدة في أزمات المنطقة دون التزام مفرط. بالإضافة إلى ذلك، يتعين على واشنطن أن تنظر إلى سياستها في الشرق الأوسط باعتبارها ضروريةً لمستقبلها الاستراتيجي في آسيا وأوروبا، حيث غالباً ما يعتمد حلفاء الولايات المتحدة على واردات الطاقة من الخليج وينشغلون بالتهديدات الإرهابية الناشئة عن المنطقة.
ومن أجل مواجهة إيران بفاعلية أكبر، يتعين على واشنطن التعمق بصورة أكثر في مجموعة أدواتها السياسة العامة، فيما يتخطى العقوبات الاقتصادية وحدها. ويجب تعزيزها من خلال استخدام قوة عسكرية محدودة - على سبيل المثال، الإبقاء على وجود أمريكي ضيق النطاق في سوريا، وتمكين الحلفاء المحليين، والتهديد بالقوة الجوية الأمريكية لمنع تحصّن إيران ووكلائها في سوريا - وبواسطة تواصل المشاركة الأمريكية الإيرانية. وغالباً ما يُنظر إلى الخيار الأول على أنه تصعيدي، والأخير على أنه [عملية] استرضاء للنظام الإيراني أو إضفاء الشرعية عليه، لكن في الحقيقة إن كلاًّ منهما عنصر أساسي في استراتيجية الردع. وتُعد الدبلوماسية ضروريةً للتعبير عن الخطوط الحمراء وتوضيح أجندة الولايات المتحدة في المنطقة وفهم نوايا إيران. وتعتبر الرغبة في استخدام القوة المحدودة ضرورية لإضفاء المصداقية على ذلك الانخراط.
بالإضافة إلى ذلك، يجب على الولايات المتحدة ألّا تَفرض فقط تكاليف على إيران لتهديدها المصالح الأمريكية، بل أن تضع أمامها عراقيل بسبب قيامها بذلك منذ البداية. وتدعو هذه الخطوة إلى ضمان عدم وجود أي فرص أخرى سهلة للتدخل الإيراني في جميع أنحاء المنطقة، من خلال تعزيز قدرة الدول الإقليمية على الصمود في وجه هذا النوع من التدخل السياسي والاقتصادي الذي يبرز بشكل كبير في قواعد اللعبة الإيرانية. كما أن النجاح سيساعد على تطوير منظمات أمنية إقليمية أكثر فاعليةً - ويحتاج المرء إلى النظر فقط إلى الشرخ الحالي داخل المجموعة المتعددة الأطراف الأكثر اتساقاً في المنطقة، أي «مجلس التعاون الخليجي»، لفهم أن إيران لا تواجه معارضةً إقليميةً موحدة.
ويمكن تعزيز فاعلية جميع هذه الإجراءات - أي دعم الحلفاء وتعزيز التكامل الإقليمي واستخدام الدبلوماسية والقوة - لو تمّ ذلك بالتنسيق مع شركاء دوليين. لقد كانت هذه إحدى الحجج الأساسية المؤيدة للـ "إصلاح" بدلاً من الانسحاب من «خطة العمل الشاملة المشتركة»، ويجب أن تُحفز إدارة ترامب على الإسراع في إصلاح العلاقات الدولية التي تضررت من الانسحاب الأمريكي. ولا شك في أن ذلك سيكون كفاحاً شاقاً، ولكن البدائل - أي معالجة مشاكل الشرق الأوسط وحدها أو إهمالها تماماً - هي أسوأ.
فمن جهة، يمثّل الانسحاب من الاتفاق النووي نهاية الطريق. ومن جهة أخرى، تعتبر هذه الخطوة، وإن كانت شديدة الأهمية، هي الأحدث في نهج المواجهة مع إيران التي استمرت عقدين من الزمن، والتي لم ترضِ صانعي السياسات في الولايات المتحدة. ولن يتطلب النجاح مجرد خطةً لإعادة فرض العقوبات على أمل أن تعود إيران ثانية إلى طاولة المفاوضات، بل استراتيجيةً تعالج بشكل عاجل مجموعة التحديات الواسعة والمتنامية في الشرق الأوسط التي تؤدي فيها إيران دوراً كبيراً.
مايكل سينغ هو زميل أقدم في زمالة "لين- سويغ" والمدير الإداري في معهد واشنطن.
"فورين آفيرز"