- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
كيف نكرّم المسلمين الذين يتصدون للإرهاب
تَنضمّ الآن مدينة نيس الفرنسية المطلة على ساحل البحر المتوسط إلى لائحة طويلة من المدن المنتشرة على أربع قارات حيث ارتكب إرهابيون إسلاميون هجمات شنيعة، بقضائهم من دون رحمة على حياة مئات الأبرياء. وهذه مجرد أماكن حصلت فيها بعض الاعتداءات، تلك التي تحتلّ عناوين الصحف. إنّ واقع نجاة الملايين من الناس، معظمهم من المسلمين الآخرين، من الوحشية اليومية للإسلاميين المتطرفين في مناطق كثيرة من سوريا والعراق وليبيا وغزة ونيجيريا وأماكن أخرى، قد أصبح أمراً اعتيادياً لدرجة بالكاد له أهمية إخبارية.
ويدرك معظم الناس أنّ الإرهابيين الإسلاميين الذين يقتلون ويقطعون الرؤوس باسم الله لا يمثّلون أكثر من مليار مسلم آخر في عالم اليوم. لكن بالرغم من ذلك، هناك وجهة نظر منتشرة، إن لم تكن واضحة دائماً، وهي أنّ نسبة كبيرة من المسلمين هم مساعدون أو مشجّعون أو على الأقل غير مبالون سلبيون تجاه ما يفعله الإرهابيون. لا شكّ بوجود عدد منهم - على الأرجح أقلّ مما يُخشى لكن أكثر مما قد يتمنّاه المرء.
لذلك، ما حدث في الخامس عشر من تموز/يوليو، فقط عبر البحر المتوسط، على أرض السفارة الإيطالية في تونس، هو بالأمر المهمّ جدّاً. في ذلك المكان، تجمّع أشخاص من مختلف المعتقدات والجنسيات والانتماءات العرقية لتكريس "حديقة الصالحين" لتكريم ذكرى مسلمين خاطروا بحياتهم - وضحّوا بها في بعض الأحيان - لإنقاذ آخرين من هول الإرهاب.
إنّ فكرة "حديقة الصالحين" مستوحاة من مثال المساحة المقدّسة في "ياد فاشيم"، نصب إسرائيل التذكاري لضحايا وأبطال المحرقة (الهولوكوست) والمكرّس لغير اليهود الذين خاطروا بحياتهم لإنقاذ اليهود خلال أكثر لحظات الإنسانية ظلمة. لقد تمّ الاعتراف بأكثر من 26 ألف شخص - رجال ونساء من جميع الأديان (ومن دون معتقدات على الإطلاق). ونظراً إلى أنّ هذا العدد لا يشكّل سوى نسبة ضئيلة من غير اليهود الذين سمحت لهم الفرصة بحماية اليهود خلال ساعة الضيق، فقد أظهر المكرّمون شجاعة استثنائية عبّر عنها أشخاص عاديون من خلال قيامهم بأعمال غير عادية.
إنّ أخذ هذه الفكرة وتطبيقها على المسلمين الذين خاطروا أو ضحّوا بحياتهم في مواجهة الإرهاب هو وليد أفكار المؤرّخ الإيطالي غابرييل نسيم مؤسس جمعية "غاريو" (التي ترمز إلى "غاردنز أوف ذي رايچوس وورلدوايد"، أي "حديقة الصالحين في كل أنحاء العالم") التي مقرها ميلانو. ولسنوات، عمل نسيم وزملائه على روي قصص "الصالحين"- ليس أولئك الذين أنقذوا اليهود فحسب، بل بشكل عام أولئك الذين وضعوا أنفسهم في طريق الأذى نيابة عن "الآخر"- كطريقة لفتح قنوات جديدة للتفاهم بين الشعوب الذين قيّدتهم الصراعات.
قبل عدة سنوات، كان لي شرف التحدّث أمام 500 تلميذ إيطالي متحمس من المدارس الثانوية خلال مؤتمر لجمعية "غاريو" سلط الضوء على النساء والرجال الشجعان الذين تخطّوا الخطوط العرقية لإنقاذ "الآخر" خلال الأوقات المروّعة طوال القرن الماضي، بدءاً من الإبادة الجماعية للأرمن ووصولاً إلى حروب البلقان. وكانت مساهمتي الخاصة هي التحدّث عن العرب الذين أنقذوا اليهود خلال المحرقة.
يستحقّ نسيم كل الاحترام لنقله هذه الفكرة خارج أوروبا وجلبها إلى تونس، عميقاً إلى قلب المجتمع العربي المسلم الذي هو في الجبهة الأمامية لمعركة الحضارات الكبرى المستعرة بين التنوير والتعصّب. في عام 2011، كانت تونس البلد العربي الأوّل الذي أطاح بقيادته المتحجّرة المستبدّة خلال الثورة التي حملت اسم "الربيع العربي" المتفائل جداً. ومنذ ذلك الحين، ناضلت البلاد لحماية ديمقراطيتها الناشئة من كلّ من إغراء السياسيين الإسلاميين الذين يعدون بحلول بسيطة للمشاكل المعقدة، والعنف الوحشي للإرهابيين الإسلاميين الحريصين على انهيار البلاد بأكملها.
من خلال العمل مع عبد الستار بن موسى، الناشط التونسي الشجاع في حقوق الإنسان والفائز بجائزة نوبل للسلام لعام 2015، إلى جانب الدبلوماسيين التقدّميين في وزارة الخارجية الإيطالية، ابتكر نسيم وزملائه مساحة مقدّسة على أرض عربية حيث يستطيع الناس ذوي النوايا الحسنة من جميع أنحاء العالم تكريم المسلمين الذين تخطّت شجاعتهم المعتقدات والجنسيات والانتماءات العرقية.
من هم هؤلاء المسلمون الاستثنائيون؟ من بين المكرّمين، إنّ أولى القصص هي من الاحتلال النازي لتونس عام 1943، عندما قام خالد عبد الوهاب وهو أحد الرجال النبلاء الأثرياء بحماية ما يقرب من عشرين يهودياً في مزرعته خارج بلدة المهدية الساحلية، وخاطر بحياته لمنع ضابط ألماني من اغتصاب شابة يهودية.
أما أحدث القصص فقد جرت في بنغلاديش حيث كان بإمكان فاراز حسين، وهو شاب مسلم، إنقاذ نفسه خلال الهجوم الأخير لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» في دكا من خلال تلاوة آيات قرآنية لكنّه طالب بدل ذلك بالإفراج عن أصدقائه غير المسلمين ومات بشكل بطولي إلى جانبهم.
إنّ هذه القصص مؤثّرة وملهمة؛ ففي عالم أصبح فيه الإرهاب الإسلامي واقعاً بوتيرة مذهلة، تُذكّرنا هذه القصص أيضاً بالبطولة الاستثنائية للعديد من المسلمين العاديين. وفي النهاية، عندما تبرز دولة تونس المسالمة من مخاضها الحالي، سيكون نقل الحديقة من موقعها الآمن والمسيّج على أرض السفارة إلى مساحة عامة على الأراضي التونسية ذات السيادة خطوة مرحّب بها. وعندما سيتمّ نقلها، على المنظّمين الحرص على وجود فسحة للعديد من المكرّمين الآخرين إلى جانب الخمسة الأوائل.
وذلك لأنّ قصص المسلمين الذين يواجهون الكراهية والإرهاب، الممارسَين بشكل خاص على يد إسلاميين ذوي التوجهات العنيفة الذين يدّعون بالتحدّث باسمهم، هي مواضيع مهمّة لإخبارها للآخرين وأكثر شيوعاً ممّا نتخيّل.
روبرت ساتلوف هو المدير التنفيذي لمعهد واشنطن ومؤلف كتاب "وسط الصالحين: قصص مفقودة من انتشار المحرقة البعيد إلى الأراضي العربية" أو ["من بين الصالحين: قصص ضائعة عن تأثير المحرقة في الأراضي العربية]".
"رليجن نيوز سرفيس" ["خدمة أخبار الدين"]