- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3359
كيف يمكن أن تردّ إيران على أعمال التخريب الأجنبية؟
خلال الأسابيع الأخيرة تعرّضت إيران لسلسلةٍ من الحرائق والانفجارات في مواقع صناعية مدنية وعسكرية، من بينها مجمّع أبحاث الصواريخ في خوجير بالقرب من طهران ومنشأة تخصيب اليورانيوم الرئيسية في نطنز (ناتانز). وتشير تقارير إعلامية أمريكية وإسرائيلية مطّلعة إلى أن إسرائيل كانت مسؤولة عن حادثة نطنز وأن الولايات المتحدة قد تكون متورطة في أعمال التخريب، علماً بأن العديد من هذه الحوادث تبدو أحداث عرضية. ومثل هذه الأحداث شائعة جداً في إيران بسبب البنية التحتية الضعيفة وثقافة السلامة [الغير متطورة] في البلاد - وفي الواقع، تم توثيق 97 منها في الفترة من أيار/مايو إلى تموز/يوليو 2019، أكثر بكثير من العشرين التي حدثت خلال الفترة نفسها من هذا العام (ربما بسبب انخفاض النشاط الصناعي وسط وباء "كوفيد-19"). ومع ذلك، هدّدت إيران بالرد على أي أعمال تخريبية، على الرغم من أنها تجنّبت حتى الآن إلقاء اللوم على إسرائيل أو الولايات المتحدة عن هذه الحوادث. ويثير ذلك السؤال عمّا إذا كانت ستردّ وكيف ومتى.
المنطق الاستراتيجي للأعمال الانتقامية
بسبب المشاكل الاقتصادية التي تفاقمت بفعل العقوبات الأمريكية والاضطرابات الشعبية والوباء العالمي، يبدو أن إيران ليست في وضعٍ يمكّنها من الرد عسكرياً، سواء على التخريب الصناعي المحتمل أو على عملية القتل التي استهدفت القائد العسكري الكبير قاسم سليماني في كانون الثاني/يناير. (وقبل أسبوعين فقط، حذر المرشد الأعلى علي خامنئي على موقع "تويتر" من أن إيران "ستوجه في النهاية ضربة مماثلة" ضد الولايات المتحدة انتقاماً لموت سليماني). ومع ذلك، لا يوجد دليل على أن الأنشطة الخارجية لطهران مقيّدة بسبب المشاكل الداخلية في البلاد.
على سبيل المثال، بعد فترة وجيزة من هدوء الاحتجاجات الاقتصادية في جميع أنحاء البلاد خلال كانون الثاني/يناير 2018، شنّت إيران هجوماً بطائرة بدون طيار على إسرائيل من سوريا. وبالمثل، بعد أن قام النظام بقمع الاحتجاجات التي اندلعت في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي بسبب ارتفاع أسعار الوقود، كثّف هجماته على القوات الأمريكية في العراق بشكل كبير. وعلى الرغم من تفشّي فيروس كورونا في شباط/فبراير من هذا العام، جدّدت البلاد جهودها بين آذار/مارس ونيسان/أبريل لتحويل مسار ناقلات النفط ومضايقة السفن الحربية الأمريكية في الخليج العربي، بعد توقّف طويل لمثل هذه الأنشطة. ولا يبدو أن هذه العمليات الخارجية وغيرها تهدف إلى صرف الانتباه عن الصعوبات الداخلية أيضاً، فما هي العوامل التي تحدد نطاقها وتوقيتها؟
اختلاف في الحسابات تجاه إسرائيل والولايات المتحدة
عند النظر في خيارات الرد، غالباً ما تتعامل طهران مع إسرائيل بشكل مختلف عن الولايات المتحدة. وعلى الرغم من قدرات إسرائيل المثيرة للإعجاب، إلّا أن ما يُسمّى بـ "الشيطان الصغير" هو قوة إقليمية صغيرة لا تعتبرها إيران ندّاً لها، وتشنّ ضدها حرباً خفيّة منذ عقود طويلة. ولكن في السنوات الأخيرة، تبنّت إسرائيل نهجاً أكثر استباقيةً للتعامل مع التهديدات الناشئة عن الجمهورية الإسلامية، بتنفيذها مئات عمليات الاعتراض وإحباطها هجمات في سوريا في إطار "حملتها بين الحروب"، ومعظمها يهدف إلى منع إيران من نقل الأسلحة المتطورة إلى «حزب الله» اللبناني أو تحويل سوريا إلى نقطة انطلاق لشن هجمات على الأراضي الإسرائيلية.
وإذا نسبت إيران في النهاية أياً من أعمال التخريب الأخيرة إلى إسرائيل، فمن شبه المؤكد أن تقوم بالرد كما فعلت في الماضي: أي من خلال شنّها هجمات سيبرانية ضد البنية التحتية الحيوية الإسرائيلية، وهجمات بالصواريخ أو بالطائرات بدون طيار أو بالقذائف من داخل سوريا. بالإضافة إلى ذلك، تشير التقارير إلى أن "الموساد" الإسرائيلي أحبط مؤخرًا العديد من الهجمات المخطط لها على سفارات إسرائيلية في أوروبا وأماكن أخرى. وإذا كان ذلك صحيحاً، فسيكون هذا رداً شديداً بشكل غير معتاد على فعل تخريبٍ غير مميت، لذلك يجب التعامل مع هذه التقارير بحذر. وكانت المرة الأخيرة التي هاجمت فيها إيران السفارات الإسرائيلية هي في عام 2012 بعد مقتل العديد من علمائها النوويين.
وفي المقابل، تعكس الأعمال الإيرانية ضد "الشيطان الأكبر" حسابات أكثر تعقيداً نظراً لمكانة الولايات المتحدة كقوة عظمى ذات وجود عسكري على طول الحدود الإيرانية. فمنذ أيار/مايو 2019، تشن طهران حملةً للتصدي لسياسة "الضغط الأقصى" الأمريكية، بهدف إجبار واشنطن على تخفيف العقوبات أو رفعها، وتضمّنت الحملة هجمات على البنية التحتية للنفط والنقل في الخليج والمملكة العربية السعودية، وتحويل مسار ناقلات النفط، وهجمات على طائرات الاستطلاع الأمريكية بدون طيار، وهجمات صاروخية مميتة وغير مميتة على عناصر الجيش الأمريكي في العراق، ومضايقة سفن البحرية الأمريكية في الخليج، وأنشطة الاستطلاع السيبرانية، ربما استعداداً للتدخّل في الانتخابات الرئاسية لعام 2020 أو تخريب البنية التحتية الأمريكية.
وحتى الآن، ساهم هذا التصدي في نشوب توتر بين واشنطن وحلفائها ولكن دون تحقيق هدف تخفيف العقوبات. بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن طهران ما زالت تتعافى من صدمة وفاة سليماني. ومن هذا المنطلق، سوف يتأثر رد النظام على مقتل سليماني وعلى أي دور أمريكي في أعمال التخريب الأخيرة بعدة عوامل:
كل "شيطان" على حدة: قد تعتقد طهران أن الولايات المتحدة وإسرائيل تعاونتا في الأحداث الأخيرة في نطنز وأماكن أخرى، تماماً كما تعاونتا في الهجمات الإلكترونية "ستوكسنت" على نطنز بدءاً من عام 2007. إلا أن النظام الإيراني يتردد بشكل عام في التصعيد ضد كلا العدوَّين في الوقت نفسه. وكلما اعتبرت إيران أن مصالح الولايات المتحدة صعبة أو خطيرة للغاية من أن يتم استهدافها، فإنها تميل إلى مهاجمة إسرائيل و/أو السعودية بدلاً من ذلك. وفي عام 2010، على سبيل المثال، حذّرت طهران كلّاً من واشنطن والقدس من أن كلتيهما ستتحملان مسؤولية قتل العلماء النوويين الإيرانيين، على الرغم من أن المسؤولين الأمريكيين نفوا تورّطهم في ذلك الوقت. وفي النهاية، استهدفت طهران المصالح الإسرائيلية فقط.
الاستراتيجية قبل الانتقام: على الرغم من أن القادة الإيرانيين غالباً ما ينكّهون تصريحاتهم بالتهديد بالانتقام، إلّا أن سلوكهم يعكس بشكل عام اعتباراتهم الاستراتيجية. وبما أنهم يميلون إلى رؤية العالم من منظار المحصلة الصفرية، فيعتقدون أنهم إذا لم يستجيبوا للتجاوزات المتصوَّرة، فإنهم يخاطرون بتشجيع أعدائهم.
ولكن للحد من إمكانية التصعيد، تقتصر هذه الردود عموماً على الإجراءات العينية والتناسبية والسرية/بالوكالة. وإذا كان من مصلحتهم تأجيل الرد، فقد يفعلون ذلك - ربما إلى أجل غير مسمى. وفي الواقع تهدف استراتيجية "المنطقة الرمادية" بأكملها إلى إدارة المخاطر ومنع الحرب. ولهذا السبب وجهت إيران تحذيراً مسبقاً إلى بغداد حول الهجمات الصاروخية التي شنّتها على القواعد العراقية ردّاً على مقتل سليماني، مدركةً أن عناصر الجيش الأمريكي سيتلّقون تعليمات في الوقت المناسب لاعتماد تدابير وقائية. ولذا فإن عناوين الأخبار التي تدّعي أن أمريكا وإيران كانتا على "شفير الحرب" في كانون الثاني/يناير لا تستند إلى الواقع.
ولكن حتى مع إعطاء الأفضلية للاستراتيجية على حساب الرغبة في الثأر لسليماني، إلا أن الضربة الإيرانية بالصواريخ والطائرات بدون طيار على البنية التحتية النفطية السعودية في أيلول/سبتمبر الماضي أثبتت أن إيران تمتلك بعض القدرات اللازمة لاستهداف كبار الضباط العسكريين الأمريكيين، على الرغم من أنها قد تكون غير راغبة في المخاطرة باتخاذ خطوة بهذه الضخامة في الوقت الحاضر. ومن المرجح أن يحدث مثل هذا الهجوم في العراق - مسرح "الجريمة" وساحة تمتلك فيها طهران معلومات استخبارية جيدة بشكل خاص.
تجنب ولاية ثانية لترامب: أحد العوامل الرئيسية الأخرى لدى صانعي القرار الإيرانيين هو التأثير المحتمل الذي قد يترتب عن العمل الانتقامي على احتمالات إعادة انتخاب الرئيس ترامب - وهي نتيجة يريدون بالتأكيد تجنّبها. وربما يفكرون في أفضل السبل لإفشال فرصِه بالفوز بولاية ثانية، لكنهم يواجهون سلسلة من المعضلات في القيام بذلك.
على سبيل المثال، من المرجح أن يواصلوا حملتهم المضادة للضغط، بما في ذلك هجمات المضايقة على العناصر الأمريكيين في العراق. ومع ذلك، فإن أي هجوم مثير قبل انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر قد يؤتي بنتائج عكسية - حيث قد يتسبب في قيام ترامب بالرد بقوة، الأمر الذي قد يمنحه تقدّم متعثّر في الاستطلاعات. وبدلاً من ذلك، قد ينتظر القادة الإيرانيون إلى ما بعد الانتخابات لتوجيه ضربتهم، معتبرين أنه إذا خسر ترامب، ستكون لإدارة "البطة العرجاء" برئاسته خيارات محدودة للرد، وبعد ذلك سيكونون قادرين على التعامل مع الإدارة الجديدة من موقع قوة. ولكن إذا أعيد انتخابه، فسيتعين عليهم الاختيار ما بين مسارَين محفوفين [بالمخاطر]: إما الانخراط في السياسة العسكرية المتمثلة بـ "حافة الهاوية" من أجل إثارة أزمة، وتحفيز المساعي الدبلوماسية، والتفاوض على صفقة شاملة مع واشنطن، أو تبنّي نهج أكثر حذراً مع رئيس قد لا يكون مقيداً بالاعتبارات الانتخابية.
الخاتمة
لم تنجح حملة طهران المضادة للضغط في تخفيف العقوبات ولم تؤد إلى تجديد المفاوضات مع واشنطن، وهناك احتمالٌ ضئيل في التوصل إلى اتفاق جديد قبل أقل من أربعة أشهر على موعد الانتخابات. وبالتالي، من المرجح أن يستمر النظام بتنفيذ عناصر معينة من هذه الحملة لإظهار عدم خنوعه، ولكن سيُرجئ أي خطوة كبيرة قد يخطط لها ضد أهداف أمريكية إلى ما قبل يوم الانتخابات أو بعده بوقت قصير. لذلك، ولتشجيع إيران على ضبط النفس بصورة أكثر، يجب على واشنطن إظهار استعدادها المستمر للرد عسكرياً على الهجمات، مع تجنب الإجراءات التي قد تدفع طهران بصورة أكثر نحو الزاوية.
مايكل آيزنشتات هو زميل "كاهن" ومدير برنامج الدراسات العسكرية والأمنية في معهد واشنطن.