- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3638
كيفية التعامل مع الجمهورية الدستورية الجديدة في تونس
على الرغم من أن التدابير المناهضة للديمقراطية في تونس مستمرة في التصاعد، إلا أن الوقت الحالي ليس مناسباً لقطع المساعدات، بل لتعزيز القطاع الخاص المعرض للخطر في البلاد، والمجتمع المدني القوي، والقضاء الضعيف.
في 25 تموز/يوليو، خرج الناخبون التونسيون بأعداد منخفضة بشكل مقلق لإقرار دستور جديد. وقد صاغ الرئيس قيس سعيّد هذا الميثاق إلى حد كبير، وتم اعتماده من خلال عملية تسودها شوائب كثيرة، حيث يُعيد الحكومة إلى نظام رئاسي يفتقر بشدة إلى الضوابط والتوازنات الديمقراطية. وبالنسبة لواشنطن - والعديد من التونسيين - تُمثّل هذه التغييرات خطوة مهمة أخرى في مسارٍ دامَ عامٍ من الزمن نحو إعادة مأسسة الاستبداد الذي رفضته ثورة 2011. وعلى الرغم من أن وقف هذا المسار سيكون صعباً، إلّا أنه لا يزال بإمكان الولايات المتحدة فعل الكثير للمساعدة في حماية المكاسب الديمقراطية التي حققتها تونس على مدى العقد الماضي، وإبقاء الهجرة إلى أوروبا ضمن مستويات يمكن إدارتها، وإقامة منطقة عازلة [للتصدي] لعدم الاستقرار في ليبيا ومنطقة الساحل، ودعم سبل العيش لملايين المواطنين التونسيين. وبدلاً من خفض المساعدات المالية والأمنية إلى حد إنهائها، سيكون من الأفضل لواشنطن تطوير البرامج التي تعزز اقتصاد الدولة ومجتمعها المدني - وإن كان ذلك أثناء وضع خطوط حمراء لمواصلة المساعدات وحث تونس على استعادة استقلال القضاء.
تحقيق الاستقرار للاقتصاد
ساعدت عدة عوامل في الوصول إلى هذا الوضع: فقد أدى دستور عام 2014 القائم على التوافق إلى بروز عوائق مؤسسية وقيام حكومات متصدعة متعاقبة، وتفاقمت هاتان المشكلتان بسبب قلة خبرة الأحزاب السياسية، والفساد المستمر، والنزاعات الشخصية بين أعضاء مجلس النواب في تونس. ورداً على ذلك، فقدَ الكثير من المواطنين الثقة في النظام ومؤسساته.
وبالتالي، عندما تفاقمت الأزمة الاقتصادية في تونس بشكلٍ كبير خلال العامين الماضيين، فقد أدّت إلى حدٍ كبيرٍ إلى تقويض المشروع الديمقراطي الهش أساساً. وقد فشلت الإدارات المتعاقبة في تنفيذ الإصلاحات المالية الضرورية، وذلك بفضل تأثير مسؤولي النقابات العمالية (الذين عارضوا تدابير مثل خفض الإنفاق على مزايا القطاع العام) وعدم رغبة الحكومات التوافقية في معالجة القضايا المثيرة للجدل. وبعد انتخاب سعيّد في عام 2019، وجّهت جائحة فيروس "كورونا" ضربة هائلة للاقتصاد التونسي وأطلقت العنان لانتشار أزمة صحية كبيرة، مما أتاح للرئيس التونسي فرصة الإعلان عن حالة طوارئ (وتمديدها لاحقاً)، وتفكيك مجلس النواب، وإصدار سلسلة من المراسيم التي تُضعف المؤسسات الأخرى. وإلى جانب كون الجمهورية الناتجة عن الدستور مبنية على ركائز هشة ديمقراطياً، فإنها تفتقر أيضاً إلى شرعية عريضة القاعدة - فنسبة المشاركة الرسمية في عملية التصويت البالغة 30 في المائة كانت منخفضة بالفعل وتم تحديها من قبل نشطاء المعارضة، الذين ادّعوا أنه قد تم تضخيم عدد الأصوات المدلى بها - والتي قيل أنها تقارب 2.5 مليون صوت - بما لا يقل عن 400,000 صوت.
ولكن على الرغم من التصرفات المقلقة لسعيّد، إلّا أن الآن ليس الوقت المناسب لتعليق المساعدات إلى تونس. وأحد أسباب ذلك هو أن مبلغ 85 مليون دولار المقدَّم من قبل "صندوق الدعم الاقتصادي" الأمريكي في السنة المالية 2022 كان عنصراً مكملاً مهماً لنفقات تونس البالغة حوالي 12 مليار دولار، ومن شأن تقليل هذا الدعم أن يُفاقم الظروف الاقتصادية المتردية في البلاد. والأهم من ذلك، لن تؤذي واشنطن إلّا الشعب التونسي إذا استمرت في حجب عقد "مؤسسة تحدي الألفية" البالغ 500 مليون دولار، والذي يُسهّل تنفيذ مشاريع المياه والتنمية الريفية. وقد علّقت "مؤسسة تحدي الألفية" هذه المساعدة "إلى أن تعود تونس إلى المسار الديمقراطي"، لكن ما زال من غير الممكن توقُّع استجابة سعيّد لمثل هذه الجزاءات. وبناءً على ذلك، ينبغي ألا تخاطر واشنطن بإثارة غضبه من خلال اتخاذه خطوات أكثر تشدداً قد تفاقم المعاناة الإنسانية والهجرة الجماعية.
ويكمن الأمل الأفضل على المدى القريب للتخفيف من المشاكل المالية في تونس في تأمين حزمة قروض جديدة من "صندوق النقد الدولي". وعلى الرغم من أن البعض يعتبرون أن تحقيق هذه النتيجة أصبح أكثر ترجيحاً الآن بعد أن ركّز سعيّد السلطة في يده، إلّا أن تنفيذ الإصلاحات غير الشعبية التي يفرضها "صندوق النقد الدولي" مثل خفض رواتب موظفي القطاع العام سيظل صعباً، كما أن سعيّد لم يُظهر اهتماماً كبيراً بإجراء إصلاحات اقتصادية هيكلية. ومع ذلك، من الضروري مساعدة تونس على تجنب الانهيار المالي من أجل الحفاظ على الاستقرار. لذلك سواء تمت الموافقة على قرض "صندوق النقد الدولي" أم لا، على الولايات المتحدة وشركائها مواصلة البرامج التي تهدف إلى تعزيز نمو القطاع الخاص وتنمية القوى العاملة في الوقت الحالي، والتي تشمل الأموال التي تم إلغاؤها من الميزانية المقترحة من قبل إدارة بايدن للسنة المالية 2023.
دعم الانتخابات الحرة
كما أشار وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في بيانٍ صدر في 28 تموز/يوليو، على واشنطن أن تراقب عن كثب الانتخابات المقبلة لمجلس النواب التونسي، والمقرر إجراؤها حالياً في 17 كانون الأول/ديسمبر. وقد تَعرّضَ الاستفتاء الذي جرى الشهر الماضي لانتقادات واسعة النطاق بسبب عدم اتسامه بالحرية والنزاهة، ومن غير المحتمل أن تكون عملية التصويت التالية مختلفة عنه. وتشير الدلائل الأولية المقلقة إلى أن سعيّد سيقيّد قوانين الإعلام والحملات الانتخابية، أو حتى يحظر [مشاركة] بعض الأحزاب السياسية والمرشحين.
وسرعان ما تسبب بيان بلينكين - الذي تضمن انتقادات حادة لعملية التصويت وغيرها من الخطوات "المقلقة" - في رد فعل عنيف في تونس. ففي اليوم التالي استدعت وزارة الخارجية التونسية القائمة بالأعمال الأمريكية ناتاشا فرانشيسكي، وانتقدت الوزارة البيان بوصفه "تدخلاً" في الشؤون الداخلية لتونس، بينما أفادت بعض التقارير عن وقوع احتجاجات خارج السفارة الأمريكية. ويعكس هذا الرد ضِيق المساحة المتبقية لواشنطن من أجل تشجيع التشريع الانتخابي السليم دون دفع سعيّد إلى التطرف.
وبالتالي، ستحتاج إدارة بايدن إلى التنسيق عن كثب مع الشركاء الأوروبيين لإنشاء محفزات لحجب الدعم المباشر عن الحكومة التونسية. (في العام الماضي، قدم "الاتحاد الأوروبي" مساعدات تقدر بنحو 362 مليون يورو، إلى جانب ما يقرب من 600 مليون يورو من المساعدات المالية الكلية). ويبدو أن القانون الانتخابي غير الديمقراطي بشكلٍ واضحٍ أو القمع المتزايد للاحتجاجات السلمية هما بمثابة خطين أحمرين مناسبين، طالما تم الاتفاق عليهما بعد إجراء مناقشات أمريكية أوروبية مفصلة.
التركيز على المجتمع المدني
باستطاعة الولايات المتحدة أيضاً الاعتراض على التصرفات غير الديمقراطية لسعيّد من خلال دعم المجتمع المدني القوي في تونس. فمنذ عام 2011، لَعب المجتمع المدني دوراً رئيسياً في إنشاء [قدرة] على رصد حقوق الإنسان، وتعزيز مبادرات الشفافية، وما عدا ذلك بناء الممارسات الديمقراطية في البلاد. وخلال العام الماضي، لَعب هذا القطاع دوراً فعالاً في مواجهة سعيّد، وذلك جزئياً من خلال تنظيم الإضرابات والمقاطعات رداً على مراسيمه.
وحتى الآن، لم يستهدف سعيّد المجتمع المدني بنفس الحيوية التي أظهرها في هجماته على المعارضين السياسيين الرفيعي المستوى. لكن في وقتٍ سابقٍ من هذا العام، تم تسريب مشروع قانون من شأنه أن يطالب المنظمات غير الحكومية بالحصول على تصريح حكومي للعمل، وإخضاع تمويلها الأجنبي لموافقة مسبقة من "البنك المركزي". وأثار التسريب رد فعل صريح من المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان، ولم يُسمَع أي شيء آخر عن هذا القانون منذ ذلك الحين. ومع ذلك، على المجتمع الدولي أن يراقب هذه المسألة عن كثب، وأن يعارض بشدة أي تهديدات من هذا القبيل لحرية تكوين الجمعيات.
وفي جلسة استماع عُقدت في 27 تموز/يوليو للتصديق على تعيين السفير جوي هود في تونس، أشار هود إلى أن الولايات المتحدة يجب أن تستمر في دعم أصوات المجتمع المدني - وهو موقف واعد قد يساعد في ثني سعيّد عن اتخاذ تدابير أكثر قسوة. يجب أن يُقرّ الكونغرس تعيينه بسرعة بدلاً من ترك أعلى منصب دبلوماسي في تونس يُشغل من قبل "قائم بالأعمال". علاوةً على ذلك، على المسؤولين رفيعي المستوى في السفارة الأمريكية عقد اجتماعاتٍ مع ممثلي المجتمع المدني، كوسيلة لإثبات نية واشنطن بشكل أكبر في الحفاظ على التزامها كشريكة ديمقراطية. يجب أن يشمل هذا الانخراط التركيز على المنظمات التي تعمل على إشراك الشباب الذين سئموا من الجيل الأكبر سناً من النخب السياسية.
إشراط المساعدة العسكرية ودعم القضاء
من العناصر المهمة الأخرى للمساعدات الأمريكية هي المساعدة العسكرية، التي ساهمت في تحقيق الأهداف الرئيسية لمكافحة الإرهاب على مدى سنوات. فمنذ عام 2011، قدّمت واشنطن لتونس "تمويلاً عسكرياً خارجياً" ملحوظاً ومساعدةً تهدف إلى تعزيز إنفاذ القانون وإصلاحه، لكنّ مشروع ميزانية إدارة بايدن يدعو إلى تنفيذ تخفيضات كبيرة في هذه المساعدة، على النحو التالي: 61 مليون دولار في السنة المالية 2023، بعد أن كانت 112 مليون دولار. وسيؤدي خفض هذه المساعدة إلى جعل تونس أكثر عرضة للهجمات المتطرفة والتجنيد - وهو ما يشكل خطر بالفعل نظراً لارتفاع معدل البطالة.
وفي الوقت نفسه، يجب أن تتأكد واشنطن من أن مساعدتها العسكرية المرتبطة بإنفاذ القانون لا تشجع قوات الأمن التونسية على استخدام (أو توسيع) التكتيكات القمعية ضد المدنيين. فإلى جانب إظهار الالتزام الحقيقي للولايات المتحدة بحماية حقوق الإنسان، ينصّ القانون الأمريكي أيضاً على الوفاء بهذه الضرورة.
وكانت إحدى النقاط الرئيسية الأخرى التي شدد عليها هود هي إصرار الولايات المتحدة المستمر على استقلال القضاء. فقد تعرضت احتمالات الحفاظ على نظام قضائي عادل في تونس لخطر شديد بسبب الدستور الجديد. ولتحسين هذه الاحتمالات، على واشنطن أن تُثني عن استخدام المحاكم العسكرية في المحاكمات المدنية. وعلى الرغم من زيادة هذه الممارسة خلال العام الماضي، إلّا أنها لا تبدو ذات أهمية محورية بالنسبة لسعيّد. وقد يساعد إقناعه بالتخلي عنها بهدوء في استعادة بعض الثقة بين أبناء الشعب.
الخاتمة
يمكن أن تدعم واشنطن الاستقرار في تونس دون التضحية بالتزامها بالديمقراطية. ومن خلال التنسيق مع الشركاء الأوروبيين لتشجيع الإصلاحات والاستفادة من المساعدة الاقتصادية الهامة، وتعزيز التزامها بالمجتمع المدني وحقوق الإنسان، يمكن أن تساعد واشنطن في منع وقوع السيناريو الأسوأ. ومن شأن هذه الجهود أن تساهم في منع زعزعة الاستقرار في كافة أنحاء المنطقة.
سابينا هينبرج هي "زميلة سوريف" في معهد واشنطن.