- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
كيفية تحقيق أقصى قدر من الاستفادة من الاتفاق البحري بين إسرائيل ولبنان
Also published in "وور أون ذي روكس" (War on the Rocks)
في أعقاب التوقيع على اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، من الضروري أن تعمل واشنطن الآن على زيادة ضغطها على بيروت لتنفيذ إصلاحات حاسمة، لا سيما في قطاع الطاقة، من أجل تعظيم الفوائد للشعب اللبناني ودعم الاستقرار الإقليمي إلى أقصى حد.
بعد سنوات من المماطلة والتملص، والانهيار الاقتصادي الكبير في لبنان، وقيام العديد من الحكومات غير المستقرة في إسرائيل، والتهديدات بالعنف، نجحت الولايات المتحدة في التوسط بشأن اتفاقية لترسيم الحدود البحرية بين بيروت والقدس. ونتيجة ذلك، ستحصد إسرائيل المنافع الفورية، حيث يمكنها الآن أن تبدأ بسرعة في استغلال احتياطيات الطاقة الموجودة في حقل غاز "كاريش". وقد يستفيد لبنان أيضاً من الاتفاقية، إلا أنه يجب عليه التغلب أولاً على المزيد من التحديات. فمن دون تطبيق الإصلاحات الضرورية في قطاع الطاقة، قد ينتهي الأمر بالأرباح الناجمة عن أي اكتشافات مستقبلية للغاز بأيدي النخبة السياسية، مما يزيد من فرص ثرائها وعدم فعلها الكثير للمواطنين العاديين. أما «حزب الله» فقد رأى أن اعترافه العلني بإسرائيل قد وجه ضربة موجعة لخطاب المقاومة الخاص به. ومع ذلك، هناك مخاوف من أنه قد يوجه الآن أسلحته ضد المعارضة اللبنانية الداخلية.
ويستحق المبعوث الأمريكي عاموس (آموس) هوكستين تقديراً هائلاً لتمكنه من إتمام هذه الاتفاقية. والآن، على واشنطن أن تعمل على تأمين أكبر قدر من المنافع للشعب اللبناني والاستقرار الإقليمي. ويعني ذلك زيادة الضغط على المسؤولين اللبنانيين لتنفيذ الإصلاحات اللازمة، لا سيما في قطاع الطاقة.
فوائد الاتفاق
كان لدى الجهات الفاعلة من الطرفين دوافع قوية لإنجاح هذه الاتفاقية. فمع اقتراب الانتخابات الإسرائيلية في تشرين الثاني/نوفمبر، أرادت إسرائيل البدء باستخراج الغاز من حقل "كاريش" في أقرب وقت ممكن وتمركز نفسها كمنتج للغاز الطبيعي. أما لبنان فكان لديه مجموعة من الاعتبارات الخاصة به. فمع انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون أيضاً في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر، أراد الحرص على ألا يقتصر إرثه على الفشل والانهيار الاقتصادي. وبدوره، أراد «حزب الله»، أن يقدم للرئيس الذي اختاره هدية الوداع هذه. والأهم من ذلك، أراد الحزب تجنب الحرب مع إسرائيل حيث أنه على يقين من عدم تمكنه تحملها. وبعد أن فشلت العديد من التهديدات في منع إسرائيل من المضي قدماً في استكشاف حقل "كاريش"، أدرك «حزب الله» أن الدبلوماسية فقط هي التي ستساعده في حفظ ماء الوجه.
وعلى الرغم من الاتهامات بأن إسرائيل قبلت كل شروط لبنان ووافقت عليها على عجلة، فإن الحقيقة هي أن لبنان بدأ هذه الجولة من المفاوضات بسقف منخفض. أولاً، تخلى الرئيس عون تماماً عن أي مناقشة للخط 29 على أنه الحدود البحرية، معتقداً أن إسرائيل والولايات المتحدة لن تقبلان المفاوضة حوله. فهذه الحدود المقترحة، الواقعة في أقصى جنوب الخطوط قيد المناقشة، كانت لتخترق حقل "كاريش"، الأمر الذي من شأنه أن يمنح لبنان حصة فيه. وبدلاً من ذلك، قرر عون التفاوض حول الخط 23 الذي منح إسرائيل السيطرة الكاملة على حقل "كاريش". ثانياً، أمّنت بيروت حقل "قانا"، إلا أن قدرتها على استغلاله مشروطة بموافقة إسرائيل. كما يتعين على الشركة الفرنسية "توتال"، التي ستقوم باستكشاف حقل "قانا"، التوصل إلى ترتيب مالي مع إسرائيل، لن يكون للبنان أي كلمة فيه. بمعنى آخر، تسيطر إسرائيل على حقل "كاريش"، الذي ثبت بالفعل احتوائه على الغاز، بينما يتعين على لبنان المشاركة في حقل "قانا"، حيث لم يتم فيه بعد تحديد مكامن الغاز. وإذا كان هناك أي غاز في "قانا"، فقد وافق لبنان على أن تحصل إسرائيل على دفعة نقدية لا تقل عن سبعة عشر بالمائة من عائدات شركة "توتال". وفي أحسن الأحوال، سيستغرق الأمر خمس سنوات لكي تبدأ الأموال بالتدفق.
نهاية خطاب المقاومة
من خلال سعي «حزب الله» لتجنب الصراع مع إثبات قدرته على استخدام القوة لتعزيز المصالح اللبنانية، قدم الحزب ضمانات أمنية لإسرائيل، بأنه لن يستهدف حقل "كاريش". وقد سعى إلى تحويل مفهوم الاتفاق وتصويره على أنه انتصار لكنه فشل في ترجمة ذلك إلى مكاسب سياسية محلية. وعلى الرغم من أن موضوع البحث هو اتفاق رسمي بين لبنان وإسرائيل، إلا أن الكثيرين في لبنان يعتبرونه فعلياً اتفاق بين «حزب الله» وإسرائيل. وفي الواقع، ووفقاً لوكالة "رويترز" راجع التنظيم الاتفاقية ووافق عليها سطراً بسطر.
ويشكل ذلك بحد ذاته إنجازاً. فعلى مدى أربعين عاماً، رفض خطاب المقاومة الخاص بـ «حزب الله» أي نوع من المفاوضات الحدودية مع عدوه اللدود أو أي اعتراف بدولة إسرائيل. والآن، فإن لبنان و«حزب الله» لم يعترفا بوجود إسرائيل فحسب، ولكنهما أصبحا يتشاركان أيضاً في مصلحة اقتصادية ويضطران إلى الحفاظ على الاستقرار عبر الحدود بينما ينتظران تحقيق أرباح الاتفاق. تجدر الإشارة إلى أن خطاب «حزب الله» قد تضرر أصلاً من جراء تورط الحزب في الحرب الأهلية السورية، حيث تجاهل الضربات الإسرائيلية ضد أفراده العسكريين ومستودعات ومصانع الأسلحة الخاصة به. ومن خلال اختياره إبرام اتفاقية مع إسرائيل بدلاً من مواجهة عسكرية أخرى معها، قوض «حزب الله» مكانته أكثر فأكثر.
نشأتُ في بلدة شيعية في جنوب لبنان. كنتُ في الثامنة من عمري خلال الغزو الإسرائيلي عام 1982 وتأسيس «حزب الله» كحركة مقاومة. كانت كلمة "إسرائيل" من المحرمات - ولم يجوز نطقها تحت أي ظرف من الظروف. وعلى الرغم من أننا كنا نعلم جميعاً أن الدولة قائمة وتنعم بالازدهار خارج حدودنا الجنوبية، إلا أن «حزب الله» كان يتأكد من فهمنا أن الإنكار هو أفضل طريقة للتعامل مع هذا الواقع. وإذا تجرأ أحد على نطق كلمة "إسرائيل"، فكان رد الفعل الفوري بمثابة تذكرة قوية بأنها "تُدعى فلسطين!" أو "الكيان المحتل".
ورداً على اتفاق الحدود البحرية، قال زعيم «حزب الله» حسن نصر الله: "ليس لدينا أي مشكلة في الاتفاقية مع إسرائيل". ولم يقل "فلسطين المحتلة" أو "دولة العدو" بل قال "إسرائيل". وبالنسبة للكثير من اللبنانيين، يشير ذلك إلى تحول كبير في خطاب التنظيم واستراتيجيته. فلم يأتِ أي من مسؤولي «حزب الله» على ذكر كلمة "إسرائيل" من قبل. ولم يتساهل أي منهم مع الآخرين الذين تجرأوا على التلفظ بها.
وقد يسمح هذا الخطاب الجديد للتنظيم بكسب الوقت إلى أن يصبح أكثر استعداداً للصراع، لكنه ما زال يخلق واقعاً جديداً يعترف فعلياً بوجود الدولة المجاورة، تكون فيه هذه الأخيرة شريكة للبنان في الغاز، وتستطيع إبداء رأيها في اقتصاده واستقراره. بالإضافة إلى ذلك، قَبِل «حزب الله» بالوساطة الأمريكية في المفاوضات واعترف بالدبلوماسية الأمريكية في مسألة ذات أهمية قصوى لاستراتيجيته الأمنية والعسكرية.
وبالنسبة لـ «حزب الله»، يتمثل التحدي الرئيسي الآن في الحفاظ على خطاب المقاومة. فالحزب لا يستطيع تحمل المخاطر ضد إسرائيل في هذه اللحظة، داخل لبنان أو خارجه، ويسعى إلى إعادة التركيز داخلياً. ولا يعني ذلك أن خطابه المعادي لإسرائيل سيتوقف، إلا أنه سيتغير على الأرجح، بحيث تصبح تهديداته أقل وشيكة وأكثر رصانة. وستعود قيادة الحزب إلى غض الطرف عن الضربات الإسرائيلية في سوريا واللجوء إلى رواية حكايات الماضي عن الانتصارات بدلاً من البحث عن انتصارات جديدة.
ولكن مع سعي «حزب الله» للحفاظ على دوره في السياسة اللبنانية، يكمن الخطر في انقلاب أسلحته وخطاب المقاومة الخاص به على المعارضة والاحتجاج في الداخل. فمنذ مواجهته الأخيرة مع إسرائيل عام 2006، يواجه «حزب الله» خصومه اللبنانيين بدلاً من إسرائيل. ويشمل ذلك فَرْض حكومة وحدة وطنية في 7 أيار/مايو 2008، وإثارة اشتباكات في الشوارع لعرقلة التحقيقات في انفجار مرفأ بيروت، واغتيال خصوم مثل رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري والناقد الشيعي لقمان سليم، واستهداف المتظاهرين في 2019، خاصة في المناطق الشيعية.
المراحل والتحديات القادمة
بالنسبة لإسرائيل، يتمثل التحدي الرئيسي في الحفاظ على الاتفاق البحري بعد الانتخابات التشريعية وتشكيل حكومة جديدة. فقد سبق لزعيم المعارضة بنيامين نتنياهو أن انتقد الاتفاق وهدد بإلغائه إذا أصبح رئيساً للوزراء. ومع ذلك، يعتقد العديد من المحللين أن هذا مجرد موقف انتخابي سرعان ما سيتخلى عنه إذا فاز.
وبالنسبة للبنان، تُعد الخطوات التالية أكثر صعوبة بكثير. فإذا اكتشفت شركة "توتال" الغاز في حقل "قانا"، فلن تكون الإيرادات كافية لتغطية العجز المالي للبلاد، وخسائر القطاع المصرفي، والاحتياطيات المستنفدة لـ "المصرف المركزي". ويكمن السبيل الوحيد للخروج من هذه الأزمة في تنفيذ إصلاحات مالية واقتصادية وتشريعية كبيرة من شأنها حماية عائدات الطاقة، بدلاً من السماح بهدرها عن طريق الفساد. ويُعد إنشاء صندوق ثروة سيادية لإدارة عائدات الغاز أمراً حيوياً بشكل خاص في ضوء السجل الضعيف لهذا القطاع فيما يتعلق بالمسؤولية المالية. على سبيل المثال، منذ عام 1992، أدى الفساد وسوء الإدارة في قطاع الكهرباء وحده إلى خلق 40 مليار دولار من الديون، أو 43 في المائة من إجمالي الدين الحكومي.
وبدون الإصلاحات، ستستخدم الطبقة السياسية الفاسدة في لبنان عائدات الطاقة للحفاظ على مصالحها ومواقفها. ويعني ذلك أيضاً الحفاظ على السرديات الطائفية والمحسوبية التي ساهمت أساساً في انهيار مؤسسات الدولة اللبنانية. وفي الواقع، يأمل السياسيون بشدة في استخدام الاتفاق كذريعة لتجنب الإصلاحات. فمن خلال تقديم حقل "قانا" كحل سريع للأزمة الراهنة، تمكنوا بالفعل من استبعاد الدعوات للإصلاح عن الأجندة السياسية.
الدور الأمريكي
أظهر هذا الاتفاق أن الولايات المتحدة لا تزال اللاعب الأقوى في لبنان، إذ لم تتمكن أي دولة أخرى - ربما باستثناء فرنسا - من إرغام الطبقة السياسية اللبنانية على تقديم تنازلات من أجل الاستقرار، ولم يستطع أي طرف آخر حمل «حزب الله» على قبول اتفاق مع إسرائيل والاعتراف بشراكتها. ومن خلال هذا الاتفاق، عززت واشنطن أيضاً مصداقيتها وطوّرت قنوات جديدة للتواصل مع الجهات الفاعلة المهمة في بيروت. على الرئيس بايدن الاستفادة من هذا النجاح لدفع الحكومة اللبنانية إلى تنفيذ إصلاحات طال انتظارها.
بإمكان الولايات المتحدة أن تعمل مع شركائها الأوروبيين والخليجيين على معاقبة المسؤولين الحكوميين الذين يعرقلون الإصلاحات في قطاع الطاقة. وقد حددت أساساً جهات فاعلة مثل "صندوق النقد الدولي" ومؤتمر "سيدر" للمانحين الذي عُقد عام 2018 برعاية فرنسية، الخطوات التي يجب القيام بها. وتشمل هذه إنشاء هيئة تنظيمية مستقلة للكهرباء، وتحديث شبكة النقل، ورفع الأسعار للمرة الأولى منذ التسعينيات. كما ينبغي إنشاء صندوق ثروة سيادي يتسم بالشفافية دون تأخير.
ورداً على التهديد الذي يشكله «حزب الله»، يمكن لواشنطن أيضاً أن تلعب دوراً إيجابياً في تشكيل حكومة جديدة، وتنفيذ الإصلاحات القانونية، والتحقيق في انفجار مرفأ بيروت، وتعيين المسؤولين العسكريين. فعلى مر السنين، أصبحت الولايات المتحدة أهم جهة مانحة للبنان، خاصة في شكل تقديم مساعدة عسكرية لـ "الجيش اللبناني" ومساعدات إنسانية في أعقاب الأزمة الاقتصادية الأخيرة. وقد خلق ذلك، إلى جانب عقوبات الإرهاب والفساد، نفوذاً معيناً تدركه جيداً السلطات اللبنانية. بإمكان واشنطن استخدام هذا النفوذ لحث لبنان على انتخاب رئيس جديد، وحماية القاضي الذي يحقق في انفجار المرفأ، والحرص على ترقية مسؤولي الأمن الجديرين بالثقة.
وهذه ليست قضايا لبنانية داخلية فقط، حيث يمكن أن يتقرر بها نجاح أو فشل دولة تعاني من أوضاع هشة للغاية، بحيث ينعكس عدم استقرارها على جيرانها ويؤثر على المصالح الأمريكية في المنطقة. ويُظهر الاتفاق البحري ما يمكن للدبلوماسية الأمريكية تحقيقه. أما الآن فقد حان الوقت لتحقيق المزيد.
حنين غدار هي "زميلة فريدمان" في "برنامج السياسة العربية" التابع لمعهد واشنطن.