- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3189
لا تستبعدوا العراق
عندما اجتمع الرئيس ترامب مع الرئيس العراقي برهم صالح في 24 أيلول/سبتمبر على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، لا شك في أن اللقاء كان قائماً على الاستنتاج المشترك الذي توصلت إليه حكومتاهما بأن الهجوم الأخير على منشآت النفط السعودية في بقيق لم ينطلق من العراق. وكانت المخاوف الأولية بشأن هذا الاحتمال قائمة على أسس جيدة - فقد تم تنفيذ هجوم سابق على خط أنابيب رئيسي سعودي من الأراضي العراقية في أيار/مايو، وتم قصف العديد من منشآت الميليشيات العراقية منذ حزيران/يونيو، من قبل إسرائيل وفقاً لبعض التقارير. وكان كل واحد من هذه التطورات مرتبطاً بـ "الجماعات الخاصة" الشيعية التي لها صلات معروفة بإيران.
وفي الأول من تموز/يوليو، أصدر رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي أمراً بانضواء هذه الميليشيات وغيرها تحت سلطة الدولة، لكنه لم يتمكن حتى الآن من فرض النظام عليها. وقد فشلت الحكومة أيضاً في منعها من تهديد الدول المجاورة بناءً على طلب إيران المُفترض - وهي زلة خطيرة بشكل خاص نظراً لأن السلطات العراقية لا تستطيع حماية الأراضي التي تحتفظ بها هذه الميليشيات من الانتقام الخارجي.
وسعياً لمنع الدول الأخرى من تحويل العراق إلى ساحة معارك بالوكالة، يترتب على بغداد كبح الميليشيات الجامحة، لكن هذه المهمة شاقة لأن طهران أمضت خمسة عشر عاماً في تطوير هذه الجماعات لتصبح قوة موازية بحد ذاتها. وبالنظر إلى الاستعداد الذي أبدته هذه "الجماعات الخاصة" عندما يُطلب منها مهاجمة القوات الأمريكية أو القتال لصالح نظام الأسد في سوريا أو تأمين المصالح الإيرانية الأخرى، فإنها تخاطر بتورط العراق في مواجهات طهران الإقليمية مع الولايات المتحدة والسعودية و/ أو إسرائيل.
ساحة معركة مُباحة لحرب بالوكالة من جانب واحد
على الرغم من أن أعمال هذه الميليشيات كانت يجب أن تكون بمثابة صرخة يقظة لبغداد منذ فترة طويلة، إلّا أن الهجوم الذي استهدف السعودية في 14 أيلول/سبتمبر قد أوضح الخطر بشكل حاد: هل ستستيقظ الحكومة العراقية يوماً ما على خبر استخدام أراضيها لشنّ عملٍ حربي؟ إن حالة عدم اليقين في السعودية بشأن الخطوات التالية التي يجب اتخاذها، والمقاربة المرتكزة على العقوبات التي يعتمدها الرئيس ترامب تجاه إيران، قد منحا الزعماء العراقيين الوقت والحرية الكافيين حتى الآن، لكن عقارب الساعة لن تتوقف طالما تُترك للميليشيات حرية التصرف. وما لا يقل أهمية هو المهمة الأوسع المتمثلة في استعادة الردع ضد طهران، الذي هو أمر حاسم لدرء تهديدات الميليشيات الموالية لإيران وطموحاتها.
والسؤال الذي يُطرح على واشنطن يتعلق بالطريقة المثلى لتحقيق الجزء الملقى على عاتق العراق من هذه المهمة الإقليمية في الوقت الذي تبدو فيه طهران مصممة أكثر من أي وقتٍ مضى على تحقيق آهدافها في الدولة المجاورة. أمام الولايات المتحدة الكثير من "خيارات المنطقة الرمادية" التي لا ترقى إلى مستوى الحرب من أجل الرد على الهجمات التي تنفذها إيران أو وكلاؤها، ولكن المصلحة القوية للولايات المتحدة في تعزيز استقرار العراق وسيادته تعني أنه من الأفضل تطبيق هذه الخيارات خارج العراق. علاوة على ذلك، لا يستطيع أحد احتواء التدخل الإيراني بشكل أفضل من قادة العراق ومواطنيها. فكيف يمكن أن تساعدهم واشنطن في السيطرة على هذه "الحرب الطويلة" وإعادة توازن العلاقات مع طهران؟
التناقضات في العراق
بعد ستة عشر عاماً من الأخبار السيئة وعدم اليقين السياسي والصراعات المسلحة، ما زال الأمريكيون مُتعبين من مشاكل العراق. فهذه البلاد لا تزال ضعيفة ومقسمة، مع قيادة أثارت استياء المراقبين من وتيرتها الزاحفة في إعادة الإعمار والإصلاحات - من بينها المهمة الجوهرية المتمثلة في دمج ما بين 135 ألف و158 ألف عنصر من «قوات الحشد الشعبي» في قوات الأمن الوطني وتفكيك التنظيمات المقرّية جداً من إيران أو كونها وكيلة سياسية لها. كما يبدو أن العراق يعتمد بشكل مزمن على الكهرباء والغاز الإيرانيين الغاليي الثمن، رغم مكانته كأكبر منتج للنفط في منظمة "أوبك". وحتى الزعماء في معقل الشيعة السياسي في النجف غير راضين عن وتيرة الإصلاحات.
ولهذه الأسباب وغيرها، يعتقد البعض في إدارة ترامب أن العراق قد خُسر بالفعل لصالح إيران، بينما يجادل البعض الآخر بحق بأن اللعبة لم تنتهِ بعد. ولكن حتى هذه المجموعة الأخيرة تفترض خطأً أن العراقيين سيتخذون قراراً واضحاً وعقلانياً عبر اختيار أحد سيناريوهين مختلفين تماماً، هما: إما البقاء دولةً معزولة تابعة لإيران أو التحّول إلى عضو قوي وذو سيادة ومزدهر في المجتمع الدولي. بيد أن هذه النظرة المزدوجة تتجاهل الواقع بأن العراق بلد تناقضات حادة يسير على طريق إصلاح طويل وصعب.
وحتى سياسة الولايات المتحدة بشأن العراق قد تضررت أيضاً لأن أهميتها تراجعت لتصبح جزءاً ثانوياً من السياسة تجاه إيران. فحملة "الضغط الأقصى" التي تتبعها إدارة ترامب ضد طهران تخلّف آثارها على بغداد، التي تتلقى مطالب أكثر من تلقيها محفزات. ومن أجل إحداث تغييرات كبيرة على مستوى السياسات في بيئة محفوفة بالمخاطر مثل البيئة العراقية، يجب أن تكون المحفزات الأمريكية وافرة بغزارة ومضمونة بالتزام مستمر ورفيع المستوى.
إن هذا التركيز العقابي على جعل العراق يختار بين إيران والولايات المتحدة قد يؤدي إلى إغفال دينامية محلية مهمة، هي حركة "العراق أولاً" التي يعلو صوتها أكثر فأكثر انطلاقاً من الشعور القومي لدى جيل أصغر سناً انبثق بعد عهد صدام الذي يتجنب الصراع الطائفي ويطمح لحياة سلمية. على سبيل المثال، مع انتشار أنباء الضربات الإسرائيلية المشتبه فيها على مخازن أسلحة الميليشيات هذا الصيف، قوبلت الإدانات المتوقعة لـ "العدوان الأجنبي" بغضب عام على الميليشيات لاستفزازها للهجمات في المقام الأول.
باختصار، يبدو أن عدداً أكبر من العراقيين أصبح يدرك أن بلادهم ستكون الخاسر الأكبر في أي نزاع مباشر أو ينشب بالوكالة. وعندما يعيد المرء صياغة هذا الإدراك فيما يتعلق بالسياسة الأمريكية، تكون الرسالة واضحة: لا يمكن احترام السيادة العراقية بشكل انتقائي.
إنهاء المعاملة الأمريكية الصامتة
يربط الكثير من العراقيين صلة مباشرة بين تعاظم النفوذ الإيراني وتراجع الاهتمام الأمريكي. فبعد أن أدّى ظهور تنظيم «الدولة الإسلامية» إلى إرغام واشنطن بشكل مفاجئ على إعادة التركيز على العراق، انحرف الاهتمام الأمريكي سريعاً مرة أخرى. وهذا التأرجح أثار قلق زعماء العراق المنتخبين، مما دفعهم إلى المطالبة مراراً وتكراراً بانخراط أمريكي أكبر للمساعدة في تصحيح علاقاتهم غير المتوازنة مع إيران. وبعد مرور عام على تشكيل الحكومة الجديدة بقيادة ثلاثة مسؤولين يلقون استحسان الولايات المتحدة، لم تدعُ واشنطن سوى رئيس مجلس النواب لزيارتها. (الرئيس صالح كان في نيويورك على أي حال لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة). وعلى النقيض من ذلك، تمت دعوة القادة الثلاثة مراراً وتكراراً إلى طهران وعواصم إقليمية أخرى وأوروبا وحتى بكين.
كما أن عام من العلاقات مع العراق ذات الطابع الشبيه بالمعاملات والقائمة على المطالب فقط لم تفعل الكثير لتعزيز الأهداف الأمريكية في البلاد. ولتغيير مجرى الأمور، على واشنطن مواصلة الضغط على بغداد بشأن الإصلاحات الاقتصادية والعسكرية، وإصدار إعفاءاتها من العقوبات بشكل مرن للتشجيع على الاستقلالية في مجال الطاقة، وكذلك النظر في إمكانية فرض العقوبات المنصوص عليها في "قانون ماغنتسكي" على المزيد من المسؤولين الفاسدين ومنتهكي حقوق الإنسان. ومع ذلك، يجب أن تكون المحفزات جزءاً من هذه الاستراتيجية.
وفي هذا الإطار، لا يوجد بديل للدبلوماسية الشخصية الرفيعة المستوى لإرساء علاقة مع العراق في المرحلة ما بعد تنظيم «الدولة الإسلامية». وهنا، ينبغي على الرئيس ترامب دعوة رئيس الوزراء عبد المهدي والرئيس صالح لزيارة البيت الأبيض خلال الأشهر الستة المقبلة، دون قيد أو شرط. وقد سبق أن أكد الرئيس صالح أن "العراق ليست لديه نية للانجرار إلى نزاع إقليمي"، وينبغي الإشادة بهذا الموقف. كما أن اللقاءات الشخصية مع القادة العراقيين ليست هديةً تُمنح في إطار صفقة ما، بل إظهار للدعم وخطوة قد تساعد في دفع عجلة التقدم. ينبغي على واشنطن أيضاً التعويض عن القيود التي فرضتها على الموظفين الدبلوماسيين الأمريكيين في العراق من خلال التشجيع بشكل كبير على إحضار المسؤولين العراقيين على مستوى الوزراء إلى العاصمة الأمريكية. وإذا تم دعم الحكومة العراقية بهذا التعزيز الواضح للعلاقة الثنائية، فستكتسب هذه الحكومة ثقة أكبر في اتخاذ الخطوات الصعبة اللازمة لمنع "الجماعات الخاصة" الإيرانية من التحول إلى هيكل أمني مواز للجيش الوطني.
يجدر بالمسؤولين الأمريكيين أيضاً اتباع مقاربة أكثر جرأةً فيما يخص الشؤون العامة. وفي الوقت الذي تحفز فيه التوترات الإقليمية مع طهران العناصر المعادية للولايات المتحدة على الاحتجاج على وجود القوات الأمريكية في العراق، ينبغي على واشنطن أن تشجّع الأصوات العقلانية على الدفاع عن العلاقة الأمنية الضرورية بين البلدين. وليست هناك حاجة لتواضع زائف في هذه الحالة - ينبغي على الإدارة الأمريكية أن تشير بفخر إلى أن مساعدتها المجانية تمتد إلى ما هو أبعد من ساحة المعركة، بدءاً من حماية الأصول المالية والبنية التحتية الحيوية مثل سد الموصل، إلى مساعدة الآلاف من العراقيين على القدوم إلى الولايات المتحدة للتعليم والتدريب.
والأهم من هذا كله، هو أنه على الولايات المتحدة الضغط على مصر والأردن ودول الخليج من أجل تعميق انخراطها المبدئي في العراق، على الصعيدين الاقتصادي والسياسي. فالولايات المتحدة هي القوة الرئيسية التي تحرّك الإصلاحات الاقتصادية، التي يمكن أن تساعد في استقطاب استثمارات القطاع الخاص وإعاقة الاقتصاد الأسود للميليشيات، وخلق فرص عمل لكي لا يضطر الشباب العراقي إلى الانضمام إلى قوات الأمن غير الرسمية لمجرد الحصول على راتب. وتبقى المسؤولية على الحكومة العراقية، لكن النجاح يتوقف بالتأكيد على الدعم الواضح من حليفها الأمريكي.
بلال وهاب هو "زميل واغنر" في معهد واشنطن. باربارا ليف، هي زميلة أقدم في المعهد ونائبة سابقة لمساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون العراق.