- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
لبنان ملاذ عالمي للمجرمين
Also published in "فورين بوليسي"
حتى لو كانت الملاحقات القضائية التي تشتد الحاجة إليها ضد أعضاء "حزب الله" تُعتبر خطيرة للغاية في الوقت الحالي، فلا يزال يتعين على الجهات المانحة الضغط على بيروت لتسليم الأفراد الآخرين المتهمين بارتكاب جرائم في الخارج، بدءاً من حاكم "مصرف لبنان" المتنحي رياض سلامة.
قبل ثلاث سنوات من هذا الشهر، أدانت "المحكمة الدولية الخاصة بلبنان"، ومقرها هولندا، العضو في "حزب الله"، سليم عياش، غيابياً باغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في عام 2005. ولم يُلقَ القبض على عياش حتى الآن، وهو مسؤول كبير في "الوحدة 121"، التي هي وحدة الاغتيالات التابعة للتنظيم الإرهابي المدعوم من إيران، ويُعتقد أنه موجود حالياً في لبنان تحت حماية "حزب الله". ومن غير المحتمل أن يواجه العدالة على الإطلاق.
وهناك ذكرى أخرى محفورة أكثر في الأذهان وهي الذكرى السنوية لانفجار مرفأ بيروت في آب/أغسطس 2020، والذي أسفر عن مقتل أكثر من 200 شخص وإصابة أكثر من 6000 آخرين وتشريد نحو 300 ألف شخص. وفي هذه القضية أيضاً، لم يتم إحراز أي تقدم في التحقيق بشأن المسؤول عن هذه الكارثة التي وقعت عندما انفجر في بيروت ما يقرب من 3000 طن متري من نترات الأمونيوم المخزنة بشكل غير صحيح. وكان "حزب الله" متورطاً أيضاً في هذه الكارثة، بالإضافة إلى الكثيرين من المسؤولين الحكوميين. ولم يقتصر الأمر على سيطرة الحزب على المرفأ، بل اشتُبه أيضاً على نطاق واسع في تحويله شحنة من نترات الأمونيوم إلى نظام الدكتاتور السوري بشار الأسد لملء البراميل المتفجرة التي استهدفت مواطنيه خلال الحرب الأهلية السورية. وكما هو متوقع في لبنان، توقفت الإجراءات القانونية المتعلقة بالتحقيق.
إن الذكرى السنوية للإدانة العديمة الجدوى لمُنفذ اغتيال سياسي والذكرى السنوية لانفجار كارثي لم تُعرَف أسبابه والجهة المسؤولة عنه، تسلطان الضوء مجتمعتَين على ثقافة الإفلات من العقاب المستمرة في لبنان، بما في ذلك دور البلاد كملاذ للمجرمين البارزين وغير البارزين والمشتبه فيهم المطلوبين في الخارج. وهذا جزء من مشكلة راسخة تساهم فيها الحكومة اللبنانية بشكل نشط. وبعد ثلاث سنوات على بدء الأزمة الاقتصادية العميقة، يُعد لبنان دولة فاشلة تعتمد على الدعم الدولي الذي يهدده اليوم ازدراء بيروت للمساءلة.
ويطرح التعامل مع المتهمين والمجرمين المدانين الذين يفرون من دول أخرى إلى لبنان إشكالية خاصة. فالقانون اللبناني يحظر تسليم رعاياه، ومع ذلك حصلت عمليات تسليم في الماضي. ففي عام 2019، سلمت بيروت إلى الولايات المتحدة مواطناً يحمل الجنسيتين اللبنانية والأمريكية بتهمة اختطاف ابنه البالغ من العمر 4 سنوات. وفي حين أنه من النادر أن تُسلم الدولة مجرميها المزعومين، بإمكان لبنان محاكمة هؤلاء الأفراد وإدانتهم على أراضيه إذا طلبت دولة أجنبية ذلك وقدمت ملفات القضية. ولكن هذا نادراً ما يحدث، وقد أصبح لبنان فعلياً ملاذاً رئيسياً لمخالفي القانون نظراً لنهجه المتراخي تجاههم.
وكان الموقف المحرج الأخير يتعلق برامي عدوان، سفير لبنان في فرنسا الذي اتُهم في حزيران/يونيو باغتصاب موظفتين في سفارته. وبعد التحقيق في هذه الادعاءات وغيرها من ادعاءات الاعتداء (الجنسي)، طلبت باريس من بيروت رفع الحصانة عن الدبلوماسي للسماح بمواصلة محاكمته في فرنسا. ولكن بدلاً من إرغام السفير على مواجهة الادعاءات، استدعته وزارة الخارجية اللبنانية إلى بيروت، وبذلك وفرت حماية للمبعوث من الملاحقة القضائية.
وعلى غرار عدوان، يتمتع أيضاً رياض سلامة، حاكم "مصرف لبنان" لفترة طويلة، بحصانة من مخاطر الملاحقة القضائية في الخارج. وفي أيار/مايو، أصدرت كل من فرنسا وألمانيا مذكرات توقيف دولية بحق سلامة بتهم الفساد. فسلامة، الذي تنحّى هذا الأسبوع بعد أن خدم لمدة 30 عاماً، متهم باختلاس حوالي 300 مليون دولار من البنك المركزي خلال فترة ولايته التي تُوِّجت بالانهيار المالي للبنان. ونظراً للكسب غير المشروع الدائم والمستشري والواسع النطاق الذي أدى إلى إفلاس الدولة، تكاد الجرائم المزعومة لسلامة ألا تبرز للعيان. ولكن بالنسبة للكثيرين في لبنان والخارج، أصبح سلامة رمزاً لسوء الإدارة الرسمي.
وأمر القضاء اللبناني بمصادرة جواز سفر سلامة بحجة منعه من الهروب. ومع ذلك، فمن المرجح أن تريد بيروت منعه من السفر إلى الخارج والإدلاء بشهادته في أوروبا، إذ قد يعطي دلائل خاصة بالدولة وربما يورط العشرات من كبار السياسيين والمصرفيين في لبنان. فبعد أن اضطلع بهذا الدور المالي الرئيسي لفترة طويلة، فإن سلامة على علم بكل خبايا المنظومة الحاكمة في لبنان وأسرارها. ومن الصعب التخيّل بأنه سيجرأ إلى اللجوء مجدداً إلى الخارج.
ولعل أشهر مستفيد من الملاذ الآمن في لبنان هو كارلوس غصن، الرئيس التنفيذي السابق لشركتي رينو ونيسان. فرجل الأعمال، الذي يحمل الجنسيات اللبنانية والبرازيلية والفرنسية، تم اعتقاله في اليابان عام 2018 بتهمة سوء الإدارة المالية وإساءة استخدام أصول الشركة. وعندما كان مفرجاً عن غصن بكفالة في عام 2019، تم تهريبه خارج اليابان في صندوق كبير لأجهزة الصوت، ليجد في النهاية ملاذاً آمناً في لبنان. ويعيش الملياردير حياة راغدة في بيروت مع زوجته، على الرغم من كونه مطلوباً من قبل طوكيو وباريس، وتقدر ثروته بـ 70 مليون دولار.
ولا يقتصر غياب المحاسبة في لبنان على القضايا الأجنبية وطلبات تسليم المطلوبين. فالعشرات من الاغتيالات السياسية في لبنان - والتي يُعتقد أن معظمها قد تم تنفيذها من قبل "حزب الله" - تبقى دون محاكمة محلياً. وكان الحكم في قضية اغتيال الحريري غير عادي لأن الجاني أدين فيه على غير عادة، حتى لو استمر في الإفلات من العقاب. ولا يتم التحقيق حتى في معظم عمليات القتل التي تُرتكب بحق شخصيات رفيعة المستوى. ففي شباط/فبراير 2021، على سبيل المثال، اغتيل لقمان سليم، الناقد البارز لـ "حزب الله"، على يد فريق مكلف بالاغتيالات في معقل الميليشيا الشيعية، ولم يتم إحراز أي تقدم في هذه القضية. ومؤخراً، في كانون الأول/ديسمبر 2022، تمت تصفية جندي أيرلندي من "قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة" في جنوب لبنان على يد مجموعة أفادت أن اعضاءها هم عناصر من "حزب الله". ووُجهت التهم لخمسة أشخاص متورطين في الهجوم، لكن تم القبض على واحد منهم فقط.
ويُعتبر تردد الحكومات المتعاقبة في بيروت في محاسبة "حزب الله" على جرائمه أمر مؤسف بل مفهوم. فالحزب مشتبه فيه في اغتيال ضابطين في "قوى الأمن الداخلي" التابعة للدولة في عامَي 2008 و2012، كانا يحققان في دور الميليشيا في اغتيال الحريري. ولكن ميل "حزب الله" إلى التخلص من خصومه لا يبرر تراخي لبنان مع المجرمين الآخرين.
وقد يصبح نهج بيروت غير المنتظم تجاه العدالة مصدر إزعاج للدول المانحة. فبعد ثلاث سنوات على بدء الأزمة المالية التي شهدت انخفاضاً في قيمة الليرة اللبنانية بنسبة 98 في المائة وتخلف البلاد عن سداد ديونها السيادية، يعتمد لبنان بشكل متزايد على المساعدات الإنسانية والمالية الأجنبية. وتُعد حماية لبنان لعدوان وسلامة وغصن ازدراءً مباشراً - دون أي عواقب حتى الآن - بحق أكبر مانحَيْن أوروبيَيْن للبلاد: فرنسا وألمانيا.
وإذا لا تشكل المساءلة أولوية للعواصم الأوروبية، إلا أنها مصدر قلق كبير في واشنطن التي تقدم مساعدات لبيروت أكثر مما تقدمه باريس أو برلين. وفي السنوات الأخيرة، صنفت وزارة الخزانة الأمريكية عدداً من أفراد النخبة اللبنانية على قائمة العقوبات على خلفية الفساد بموجب "قانون ماغنيتسكي العالمي" الأمريكي و"قانون سلطات الطوارئ الاقتصادية الدولية". وحظيت هذه العقوبات بدعم من الحزبين في الكونغرس الأمريكي ولكنها ترافقت في المقابل مع إحباط متزايد بسبب عدم إحراز تقدم في بيروت. فقد دعا بعض المشرعين الأمريكيين، وأبرزهم السناتور تيد كروز، إلى إنهاء المساعدة الأمريكية للبنان بسبب فسادها وتسامحها مع "حزب الله".
وفي حين تشكل العقوبات أداة مفيدة، إلا أنها لا تستطيع في نهاية المطاف حل مشكلة الإفلات من العقاب في لبنان. وفي الواقع، تجاهلت الحكومات اللبنانية المتعاقبة، سواء أكانت منحازة نحو واشنطن أو دمشق أو طهران، الضغط الأمريكي والأوروبي بشكل متكرر. ولا يترك ذلك سوى القليل من الأمل في أن يؤدي انتخاب رئيس لبناني جديد أو تشكيل حكومة جديدة، بحد ذاته، إلى تغيير في السياسة.
ولكن يجب على واشنطن أن تستمر في تعزيز حكم القانون. وفي الشهر الماضي، اجتمعت الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة العربية السعودية وقطر ومصر، أي ما يسمى بـ "اللجنة الخماسية"، في الدوحة للضغط على لبنان لإجراء انتخابات رئاسية وتشجيع الإصلاح الاقتصادي. وهددت "اللجنة الخماسية" بفرض عقوبات على الأفراد الذين يعرقلون الانتخابات لكنها لم تحدد أي تداعيات على من يعرقلون الإصلاحات وتنفيذ حكم القانون. ولكن في حين أن هذه المبادرة المنسقة مفيدة، إلّا أن التركيز على الانتخابات الرئاسية هو في غير محله.
وبدلاً من التركيز على انتخاب مَن سيكون بلا شك رئيساً تنفيذياً ضعيفاً آخر، يجب على واشنطن وشركائها التركيز على المساءلة، بدءاً من سلامة. يجب أن يخضع حاكم مصرف لبنان للمحاكمة في أوروبا، حيث يمكنه، إذا شاء ذلك، أن يكشف عن السياسات والأشخاص الذين تسببوا بتسريع وتيرة الأزمة المالية في لبنان. ويتعين على "اللجنة الخماسية" أن تدرس إمكانية اشتراط سفر الوفد اللبناني إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر بتسليم سلامة إلى فرنسا.
لقد عانى اللبنانيون لفترة طويلة من التوقعات المنخفضة للبلاد من قبل شركائهم الدوليين. ولا تكمن المشكلة هنا في قانون مناهضة تسليم المجرمين، بل في استمرار عدم الرغبة في الإصلاح والمساءلة. وحتى لو كانت محاكمة عناصر "حزب الله" في لبنان تبدو خطيرة للغاية في الوقت الحاضر، بإمكان حكومة تصريف الأعمال الحالية في بيروت تسليم المجرمين المزعومين الآخرين، ويجب عليها تسليمهم. وستكون هذه خطوة أولى صغيرة بل مهمة على طريق لبنان نحو المساءلة.
ديفيد شينكر هو "زميل أقدم في برنامج توب" في معهد واشنطن، ومدير "برنامج «روبين فاميلي» حول السياسة العربية" التابع للمعهد، ومساعد وزير الخارجية الأمريكي السابق لشؤون الشرق الأدنى خلال إدارة ترامب. وتم نشر هذه المقالة في الأصل على موقع فورين بوليسي.