- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
لِمَ يتحدى جنرالات إسرائيل نتنياهو؟
بعد مضي ستة أعوام بعيداً عن المعترك السياسي، عاد الجندي الإسرائيلي الحاصل على أكبر عدد من الأوسمة ورئيس الوزراء السابق إيهود باراك إلى الساحة السياسية بشكل لافت في الأسبوع الأخير من الشهر الماضي، وذلك قبل إعادة الانتخابات المرتقبة في أيلول/سبتمبر. ولكن باراك ليس الوحيد الذي برز مجدداً على الساحة السياسية. ففي الأشهر الأخيرة، دخلت مجموعة كبيرة من الجنرالات والقادة السابقين في "جيش الدفاع الإسرائيلي" إلى الحلبة السياسية، واضعين نصب أعينهم هدفاً واحداً مشتركاً هو الإطاحة برئيس الوزراء بنيامين نتنياهو المبتلي بالفساد. وبالنسبة للبعض منهم، يكمن الهدف الأوسع بإنقاذ مستقبل إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية من خلال الانفصال عن الفلسطينيين.
"إنّ مستقبل الحركة الصهيونية هو على المحك هنا"، أعلن باراك، الذي شغل منصب رئيس الوزراء من عام 1999 إلى عام 2001، عند الإعلان عن حزبه السياسي الذي أطلق عليه لاحقاً اسم "إسرائيل الديمقراطية". وإلى جانب الجنرال السابق الذي يبلغ من العمر 77 عاماً، كان يقف ضابطٌ متقاعد آخر شغل سابقاً منصب نائب رئيس أركان "جيش الدفاع الإسرائيلي"، هو يائير غولان.
ويمكن اعتبار ما يجري "ثورة" من قبل كبار ضباط الجيش. فبينما يجد نتنياهو نفسه في مأزق سياسي عميق بعد فشله في أيار/مايو في تشكيل حكومة جديدة في أعقاب انتصار هزيل جدّاً في الانتخابات، يأمل الضباط الذين هم في الوقت نفسه سياسيون أن ينجحوا هذه المرة حيثما فشلوا من قبل. ولكنهم يواجهون على الأرجح حملة شاقة، إذ على الرغم من التعبئة شبه الكاملة للمؤسسة الأمنية الإسرائيلية ضد نتنياهو في السنوات الأخيرة، واصل رئيس الوزراء الفوز في الانتخابات.
وعوّل نتنياهو الذي شغل منصبه لفترة طويلة على صورته كـ "حافظ الأمن" ليتظاهر كلامياً بتأييد مفهوم السلام، بينما عمد في الواقع إلى تجميد أي خطوات نحو حل النزاع، حتى أنه بدأ مؤخراً في التعبير عن دعمه لضم مساحات من الضفة الغربية، وهي خطوة يمكن أن تُفشِل حظوظ التوصل إلى حل الدولتين عن طريق التفاوض. فنتنياهو يعلم، شأنه شأن القليل من السياسيين الإسرائيليين الذين سبقوه، كيف بإمكانه إرضاء قاعدته اليمينية والحفاظ على تأييد مناصريه - بغض النظر عن الأضرار الطويلة المدى التي تلحق بالمؤسسات المعارضة له، كالقضاء، والإعلام، وحتى الجيش في بعض الحالات.
ولكن أصحاب المناصب العليا في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية ليسوا وحدهم الذين يعتبرون أن مثل هذه السياسات تؤدي إلى التدمير الذاتي. فقد انضم ما يقرب من 300 ضابط متقاعد برتبة عميد وأعلى من الجيش، والشرطة، وجهاز الأمن "الشاباك"، ووكالة التجسس "الموساد" إلى حركة "ضباط من أجل أمن إسرائيل" التي تأسست عام 2014 وتدعو إلى الحفاظ على الخيار المستقبلي المتمثل بحل الدولتين. ويُفيد برنامج الحركة أن "وهم الوضع الراهن، والمأزق الحالي يضرّان بأمن إسرائيل ورفاهها وطبيعتها كديمقراطية يهودية" .
إذاً كيف نفسّر واقع تبنّي جميع هؤلاء الخبراء العسكريين الرفيعي المستوى الموقف ذاته؟ وفي العام الماضي قال لي إيهود باراك: إنه "مبدأ الواقع، يا غبي! فهؤلاء الأشخاص يواجهون الحياة والموت يومياً، ويحمون شعبنا، وبالتالي يقيّمون ما هي الطريقة الأكثر فعالية لحماية البلاد من أجل إنقاذ حياة المواطنين. فهم لا يفكرون من منطلق سياسي. وانتهى الأمر بتبنّيهم مواقف يسار الوسط، مما يعني أن الأمر يتعلق بالواقع وليس بهم".
إن حقيقة يسار الوسط واضحة: فبدون الانفصال عن الفلسطينيين، يمكن لليهود الإسرائيليين أن يتوقعوا ذات يوم أن يتم التفوّق على عددهم من الناحية الديمغرافية كنسبة مئوية من السكان، الأمر الذي يشكك من قدرة إسرائيل على الحفاظ على طبيعتها اليهودية أو الديمقراطية.
وبالإضافة إلى باراك، يتزعم الأحزاب المناهضة لنتنياهو اليوم عدة رؤساء أركان سابقين في "جيش الدفاع الإسرائيلي"، بمن فيهم ثلاثة يترأسون حزب "أزرق أبيض" الوسطي هم بيني غانتس وموشيه يعالون وغابي أشكنازي. فمحاولة دخولهم الأولية إلى المعترك السياسي في وقت سابق من هذا العام أسفرت على حصول حزبهم نتيجة قوية في الاقتراع الأولي الذي أُجري في نيسان/إبريل، إذ تعادلت قائمتهم فعلياً مع حزب "الليكود" اليميني بزعامة نتنياهو، إلا أن النصر لم يكن حليفهم. (واقع فشل نتنياهو فيما بعد في تشكيل ائتلاف حاكم الامر الذي أدّى إلى جر البلاد إلى انتخابات أخرى لا علاقة له بحزب "أزرق أبيض").
وعلى الرغم من خبرتهم العسكرية التي تمتد عقود، لم ينجح جنرالات حزب "أزرق أبيض" ـ إلى جانب وزير المالية السابق يائير لابيد ـ بإزاحة نتنياهو من منصبه. فقبل يومين من توجّه الإسرائيليين إلى صناديق الاقتراع في نيسان/إبريل، عقد حزب "أزرق أبيض" التجمع الختامي لحملته الانتخابية في ساحات معارض تل أبيب. ومن أجل إعطاء دفعة انتخابية أخيرة لحملته ذلك المساء، جنّد هذا الحزب طاقات إضافية، شملت شاوول موفاز - رئيس أركان سابق في "جيش الدفاع الإسرائيلي" ووزير دفاع سابق -، وعاموس يادلين - رئيس سابق لجهاز الاستخبارات العسكرية -، إلى جانب آفي مزراحي - قائد إقليمي سابق في الضفة الغربية.
وباختصار، مشاركة ستة جنرالات متقاعدين جميعهم على منصة واحدة معاً، يقولون الشيء نفسه: إسرائيل تحت زعامة نتنياهو كرئيس للوزراء قد فقدت طريقها، وإن المشروع الصهيوني في خطر.
وبينما تحدث موفاز عن تراجع القيم الأساسية في الحياة العامة، شدّد يادلين على أن الأمن القومي يعتمد على الوحدة داخل البلاد، وأوجز مزراحي الأخلاقيات التي دفعت غانتس والآخرين إلى دخول المعترك السياسي: "إما أن نتحرك أو نبقى صامتين"، مما يشير إلى أن هناك عواقب وخيمة للتقاعس. ولكن الناخبين الإسرائيليين لم يقتنعوا بذلك.
لقد كان الأمر كله عبارة عن تكرار غريب للحملة الانتخابية السابقة في عام 2015. فقبل بضعة أيام فقط من بدء التصويت، قام جنرال مخضرم آخر، هو رئيس الموساد السابق مئير داغان، باعتلاء المنصة أمام الحشود الهاتفة في "ميدان رابين" في تل أبيب. ووجّه داغان، الذي كان على وشك البكاء أحياناً، انتقادات لاذعة لنتنياهو وقال إن الأزمة في القيادة هي الأسوأ في تاريخ البلاد.
وقال داغان آنذاك: "لدينا قائد يخوض حملة واحدة فقط، هي حملة صموده السياسي. باسم هذه الحرب [الانتخابية]، يجرّنا إلى القعر نحو دولة ثنائية القومية ونحو نهاية الحلم الصهيوني". كما تحدث في تلك الليلة قائد سابق للقيادة الشمالية في "جيش الدفاع الإسرائيلي" ونائب سابق لرئيس الموساد عميرام ليفين، مردداً تحذيرات داغان الخطرة.
غير أن نتنياهو فاز بسهولة في تلك الانتخابات. ويمكن اعتبار الاختلاف الوحيد بينها وبين انتخابات نيسان/إبريل الماضي هو أن المؤسسة العسكرية أضفت طابعاً رسمياً وعلنياً على انتقاداتها من خلال تأسيس حزب "أزرق أبيض"، إذ دخل غانتس وأشكنازي معترك السياسة للمرة الأولى، وانضم يعالون إلى الحزب، وأبدى الجنرالات الآخرون المذكورون أعلاه وجهات نظرهم من على الهامش.
وفي الواقع، فمنذ منتصف التسعينيات، خاض كل رئيس أركان متقاعد في "جيش الدفاع الإسرائيلي" (باستثناء دان حالوتس وغادي آيزنكوت)، الانتخابات الرسمية ضد بنيامين نتنياهو، بإثارتهم شكوك حول بصيرته [السياسية] وقيادته.
وكان آمنون ليبكين شاحاك، الذي خلف باراك كرئيس أركان الجيش في التسعينات، ناقداً شديداً أيضاً لنتنياهو، وخاض غمار السياسة لفترة وجيزة قبل وفاته عن عمر يناهز 68 عاماً في عام 2012.
وعلى غرار داغان، انتقد رؤساء سابقون للموساد ولجهاز الأمن العام بشدة سياسات الحكومة والمسار العام للبلاد، وعادةً فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. فقد قال الرئيس السابق لجهاز الأمن العام يوفال ديسكين في عام 2015 إن إسرائيل تتجه نحو "واقع مستحيل... دولة ثنائية القومية بحكم الأمر الواقع... وتلاشي الحلم الصهيوني، أي دولة ديمقراطية ويهودية هنا على أرض إسرائيل". وادّعى رئيس الموساد السابق تمير باردو عام 2016 أن التهديد الوجودي الوحيد الذي يواجه إسرائيل داخلياً وليس خارجياً، وأضاف: "قال نتنياهو أنه ستكون هناك دولتان بين البحر المتوسط ونهر الأردن، وكان محقاً"، مسترجعاً تصريحات نتنياهو السابقة، التي تراجع عنها لاحقاً، بخصوص حل الدولتين.
وبالرغم من ذلك، تضم المؤسسة الأمنية رموزاً كثيرة منتقدة لنتنياهو لا يمكن وصفها بـ "حمائم السلام". فداغان كان مشهوراً باحترافه "قطع رأس عربي عن جسمه". وبعد دخولهما معترك السياسة، شغل كل من موفاز ويعالون منصب وزير الدفاع في حزب "الليكود"، بينما ظل الأخير معارضاً قوياً لحل الدولتين.
ولكن هناك شعور بحدوث تغيير ما خلال السنوات الأخيرة. فكلما اتجهت الحكومة الإسرائيلية إلى اليمين، كلما بدا أن أولئك المكلفين بحماية الدولة ازدادوا صراحة وانتقاداً، وإذا تجرأنا على القول، يساريةً.
وفي الواقع، لم يكن الوضع دائماً على هذا النحو. ففي الأجيال السابقة، دخل جنرالات متقاعدون مثل أرييل شارون وآخرون معترك السياسة في طليعة اليمين المتشدد. ولكن شارون غيّر رأيه في السنوات اللاحقة، فحشد الدعم اللازم لفك الارتباط عن قطاع غزة في عام 2005، وفي غضون ذلك، ترك حزب "الليكود" وشكّل حزبه الخاص.
أما اليوم، فلا يشغل سوى مسؤولَيْن أمنييْن رفيعي المستوى - هما الرئيس السابق لجهاز الأمن العام آفي ديختر والجنرال المتقاعد في "جيش الدفاع الإسرائيلي" يوآف غالانت - مناصب في الدولة كجزء من اليمين الإسرائيلي. ومع ذلك، فقد بدأ هذين الشخصين مسيرتهما السياسية في أحزاب أكثر وسطاً وكانت لهما سابقاً آراءاً أكثر اعتدالاً بشأن القضية الفلسطينية.
وفي إطار حملته الانتخابية الشرسة في نيسان/إبريل، حاول نتنياهو إظهار غانتس والجنرالات الآخرين المصطفّين ضده بصورة "اليساريين" و"الضعفاء". وقال نتنياهو في إحدى المرات، "ما يحدد الأمن ليس رؤساء الأركان، ولكن سياسات السياسيين. لقد كانت لرؤساء الأركان سياسة خاطئة. إذا أصبحوا سياسيين، فسوف نغرق. ليس لديهم أي فهم تقريباً، وأود أن أقول [إن فهمهم] لهذه القضايا هو أقل من الصفر."
وبالطبع، تُعتبر السياسة الإسرائيلية ساحة معركة قائمة على سياسة "الأرض المحروقة". وفي الحملة الانتخابية الحالية سيكرر نتنياهو الاتهامات ذاتها (أو أسوأ منها).
ومع ذلك، فإن الإجماع الساحق - وقد يقول البعض الدعوات الصارخة المحمومة - من كل خبير أمني رفيع المستوى تقريباً الذي انخرط في السياسة، يُعتبر ثابتاً بشكل لافت: فالانقسامات والاستقطابات داخل إسرائيل آخذة في الازدياد، في حين تنحسر احتمالات الانفصال عن الفلسطينيين. وعلى حد قولهم، فإن مستقبل الدولة بحد ذاته هو على المحك.
إذاً هل يعمل هؤلاء الجنرالات على تحوير الواقع، كما يدّعي نتنياهو، أم أنهم يتعاملون ببساطة مع الواقع كما هو، وكما تم تدريبهم طيلة مسيرتهم العسكرية؟
يُعتبر هذا السؤال مناسباً بشكل خاص لباراك. فعوضاً عن مساهمة "إسرائيل الديمقراطية" في إنهاء عهد نتنياهو الطويل في الحكم، يمكن لحزبه الجديد أن يُفقِد حزب "أزرق أبيض" الأصوات ويفكك المعارضة. وقد رفض باراك هذا السيناريو الأسبوع الماضي، مؤكداً على نحو لا يُصدق بأن حزبه يمكن أن يساعد يسار الوسط على نيل المزيد من المقاعد بشكل عام. ولكن باراك يملك ما لا يملكه الطامحون الآخرون إلى العرش: الخبرة كرئيس وزراء، والمهارات السياسية الفطرية، وألفة مع نتنياهو تعود إلى خمسة عقود عندما كان الاثنان لا يزالان في صفوف قوات الكوماندو الإسرائيلية.
ويواجه نتنياهو اليوم جداراً فولاذياً من الجنرالات، بالإضافة إلى نتائج استطلاعات مشؤومة كما يُشاع، واتهامات فساد تلوح في الأفق، وفشله مؤخراً في تشكيل حكومة. ومع ذلك، فقد تفوّق على هؤلاء الجنرالات من قبل، رغم أنهم لم يكونوا بهذه الكثرة في وقت واحد. وبالنسبة إلى غانتس، باراك، والآخرين، فإن الاختبار الحقيقي هو ما إذا كان بإمكانهم الاتحاد في مهمتهم المشتركة - وإقناع الجمهور الإسرائيلي بأن الهزيمة في هذه الحملة الانتخابية ليست خياراً.
نيري زيلبر هو زميل مساعد في معهد واشنطن.
"فورين بوليسي"